لم تكن زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للسعودية منذ أسبوع مفصولة عن تطورات العالم والمنطقة، وتحديداً ما يشهده الشرق الأوسط من إعادة تكوين التحالفات والعلاقات بين القوى الإقليمية والدولية، وتحديداً الجاري مؤخراً بين تركيا والإمارات وتركيا وإسرائيل، وهذا المسار الجاري بات يؤرق القاهرة التي باتت تستشعر منذ مدة أن أبوظبي تناور في المساحات التي كانت القاهرة صاحبة اليد الطولى فيها؛ من ليبيا والسودان وصولاً لقطاع غزة، وليس انتهاء بأزمة سد النهضة.
ولا تخفي مصر أن حماسة الجانب التركي لمصالحة مصر تراجعت في ظل تقدم العلاقات التركية مع الإمارات، وهذا التراجع أدى لاستشعار الجانب المصري لضرورة تأسيس حلف مصري-سعودي للتنسيق في الملفات المشتركة، والتي يجتمع فيها الهاجس المصري مع السعودي، في ظل رغبة السعودية في عدم تطوير العلاقة مع أنقرة بعد أن دخل أردوغان الباب الإماراتي قبيل مروره بالسعودية، والتي تعتبر نفسها الشقيق الأكبر لكل الدول الخليجية، وهو ما أفقد السعوديين والمصريين ورقة ضغط حساسة، في ظل تنامي العلاقة مع أبوظبي والدوحة على حساب الرياض والقاهرة.
ولا يمكن فصل سياق الاجتماع الذي دعت له القاهرة لوزراء خارجية عرب منذ أيام للحديث بشكل موسع عن تدخلات الأتراك في بعض الدول العربية- عما جرى في لقاء مسائي مطول جمع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان مع السيسي في الرياض، والذي تطرق إلى ضرورة عدم إعطاء أنقرة بطاقة دعم عربي مجانية على حساب الشركاء العرب الآخرين، وهذا ما جرى استكماله في اجتماع وزراء الخارجية العرب حول ضرورة الضغط على تركيا لوقف تمددها في الدول الحاضرة بها.
بالمقابل، فإن الهواجس المصرية المستجدة مردها ما يجري في ليبيا في ظل ما تعتقده القاهرة من رفض تركي لتسلم فتحي باشاغا مهامه رئيسَ حكومة مكلفاً بقبول مصري-سعودي فيما الأتراك والقطريون لا يزالون متمسكين برئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة، ورفضها وصول باشاغا للعاصمة طرابلس من دون التوصل لاتفاق يتم عبر قنوات مصرية.
والحضور المصري في ليبيا كانت القاهرة حريصة على ترجمته سياسياً واقتصادياً عبر دخول القاهرة على خط المشاريع وترتيب الاقتصاد الليبي وحضور رجال أعمال النظام المصري في المؤسسات الليبية وتلزيمهم مشاريع، وهذا ما تمت فرملته تركيّاً وإماراتياً بشكل واسع، وتشير المعلومات إلى أن السيسي تحدث بشكل صريح مع بن سلمان حول تهديد التحالف القائم بين أنقرة وأبوظبي للمصالح المشتركة سياسياً واقتصادياً وربما أمنياً، الأمر الذي قد يؤثر على حضور ومكانة الدولتين في المنطقة.
ولا يمكن إغفال محاولات بن سلمان المستمرة والدائمة لربط إعادة العلاقة مع تركيا من بوابة الإتيان بالأتراك إلى السعودية من منطلق أساسي وواضح، وهو الاعتراف بوزن المملكة وحضورها وتأثيرها المباشر على اقتصاد أنقرة، وهذا ما بات يفهمه الأتراك ويتعاملون مؤخراً على أساسه، وهناك من يقول إن الجانب السعودي، والذي فتح منذ مدة حواراً مع تركيا سعى لفرض شروط متعلقة بالمنطقة ووجود تركيا في مساحات الشرق الأوسط وملفات أخرى كإغلاق ملف اغتيال جمال خاشقجي على المستوى القضائي في تركيا.
وبن سلمان فاتح الرئيس المصري أن شقيقه خالد الذي يشغل منصب وزير الدفاع ويتولى مؤخراً ترتيب العلاقات مع دول إقليمية سعى منذ مدة مع الأتراك والقطريين إلى وجوب عقد قمة رباعية في المملكة يحضرها إلى جانب أمير قطر كل من أردوغان والسيسي، وخاصة أن الرئيس التركي يسعى لزيارة السعودية لإعادة العلاقة السياسية والاقتصادية معها، وهناك لقاءات جرت في العقبة والدوحة برعاية عربية جمعت خالد بن سلمان ورئيس المخابرات التركية هاكان فيدان لعدة مرات.
وجرى في هذه اللقاءات طرح إقامة قمة كهذه؛ لأن بن سلمان يسعى لتمتين كفته أمام الجانب التركي بتواجد السيسي، لتأكيد شيء أساسي وهو تلازم التنسيق والمصالح والقواسم المشتركة بين القاهرة والرياض، وخصوصاً أن ولي العهد السعودي كان على اطّلاع على مساعٍ قادتها الإمارات في وقت سابق لترتيب لقاء ثلاثي مصري تركي إماراتي خلال الفترة الماضية، وهو يريد سحب هذا الملف من يد بن زايد وعدم السماح باستثماره في ظل التنسيق القوي بين الإمارات وتركيا وإسرائيل من جهة وبين إيران من جهة أخرى.
والسيسي الذي لم يُبدِ اعتراضاً على مطلب ولي العهد السعودي؛ لأنه يسعى لترتيب علاقته مع تركيا من موقع قوة بحسب ما تشير بعض الأوساط المصرية، ويخشى أن يكون حواره المفتوح مع الأتراك بشكل منفرد منذ سنة ونصف مرهوناً بالملفات المصرية فقط، فيما لو جرى جمع مصالح السعودية ومصر على طاولة أنقرة قد يحقق السيسي بعضاً من مطالبه المنتظرة والتي يرفض الجانب التركي إعطاءها دون مقابل جدي.
بالتوازي، فإن قبول القاهرة بمطلب الرياض حول اشتراط العلاقة مع أنقرة من البوابة المشتركة أدى إلى تجاوب السعودية مع المطالب المصرية الخاصة بتقديم دعم نفطي، ومساعدات اقتصادية أخرى من شأنها دعم موقف الحكومة المصرية إزاء الأزمة الاقتصادية العنيفة التي ترافق الغزو الروسي لأوكرانيا.
بالمقابل، لا يمكن القفز فوق مساعي القاهرة في الذهاب بعيداً وإعادة تحسين علاقاتها بدول آسيوية مهمة، وهذا المسار ترجمته زيارة وزير الخارجية سامح شكري والتي بدأها من ماليزيا الإثنين، وتشمل كلاً من سنغافورة وإندونيسيا وباكستان، وتشير المعلومات إلى أنها تصب في خانة تنويع العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تتبناها القاهرة وباتت أكثر أهمية مع انعكاسات الحرب بين روسيا وأوكرانيا وتأثيراتها على الاقتصاد المصري وتدني قيمة الجنيه، وهناك في القاهرة من يربط هذه الزيارة من بوابة أهمية للتحالفات الإقليمية القوية التي تتمتع بها دول آسيا.
والأهم من ذلك أن هذا الحراك الآسيوي وإعادة الدفء مع دول كباكستان وماليزيا جاء بناء على نصيحة سعودية، بعد أن اكتشفت الرياض ومعها القاهرة منذ مدة المخاطر التي يحملها الابتعاد عن هذه الدول الآسيوية ذات الطابع "الإسلامي السني"، وهذا الابتعاد العربي عن دول آسيا السنية أدت إلى تطور علاقات كلّ من تركيا وإيران، وتقدر كلتاهما الأهمية الحيوية لهذه الدول، ما يجعل أي تقارب مصري مع هذه الدول محاولة لإحداث توازن سياسي واقتصادي في ظل تنامي المؤشرات الاقتصادية بين تركيا ودول آسيا منذ مدة طويلة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.