شهدت العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والغرب من ناحية والمحور "السعودي- الإماراتي" المتسيد للمنطقة العربية منذ سنوات، عدة أزمات خلال العقد الماضي، بعضها ارتبط باغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي، وبعضها الآخر بمحاولات التدخل الخليجي في الانتخابات لدعم الجمهوريين ضد الديمقراطيين، وبعضها متعلق بـ"حروب النفط" والاتفاقات داخل وخارج منظمة "أوبك" والأزمات التي سببتها السياسات "السعودية- الإماراتية" في المنطقة من اليمن إلى ليبيا وسوريا، والبعض الآخر مرتبط بتحالفات هذه الدول مع إسرائيل ودول أخرى، دون تنسيق مع الولايات المتحدة التي لعبت دور الحامي والكفيل لهذه الدول.
لكن عقب اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، في الرابع والعشرين من فبراير/شباط الماضي، طفت على السطح أنباء تشير لتجدد التوترات بين المحور "السعودي- الإماراتي" والولايات المتحدة، نحاول في هذا المقال متابعة وتحليل أهم محطات تلك التوترات ومداها، وما تتيحه الحرب الحالية من وضعية قد تسمح بتوسع تلك الهوة أو تضييقها، وتأثيرات ذلك على مستقبل المنطقة، في ظل نظام دولي متغير.
محطات التوتر بين الخليج والولايات المتحدة
باختصار شديد، يمكن القول إن الولايات المتحدة مثلت وريثاً شرعياً للعلاقات والنفوذ البريطاني بدول الخليج، وخاصة بالمملكة العربية السعودية. تمت عملية الخلافة الأمريكية للتاج البريطاني بيسر وسلاسة، وتمتعت الولايات المتحدة بعلاقة رائعة وطيدة مع الرياض على طول الخط، باستثناءات محدودة متعلقة بفترة الملك فيصل، وموقفه من إسرائيل، والمواقف العروبية التي ميّزته عن غيره من ملوك السعودية.
إيران كلمة السر الأولى
قبل الغرق في دهاليز التاريخ، دعونا نعود للواقع المتغيّر، إحدى أهم محطات التوتر في العلاقات بين الطرفين ترتبط بالجمهورية الإيرانية، إذ تسعى دول الخليج دوماً لفرض "فيتو" على علاقات إيران بأي من القوى الغربية، أو حتى القوى الإقليمية في المنطقة، بحيث تتمكن بما تملكه من نفط ونفوذ وفوائض مالية من معاقبة من يحاولون تحسين علاقاتهم بإيران بكل الطرق.
ظهر ذلك جلياً في الفترة الثانية من حكم أوباما، حيث كان التوصل لاتفاق نووي بين القوى الغربية وإيران، في 2015، بمثابة محطة افتراق كبيرة بين السياسات الخاصة بالطرفين، حيث أقر أوباما بسياسة تقضي بالانسحاب من الشرق الأوسط والتفرغ التدريجي للأخطار القادمة من المحيط الهادي.
كما سعت تلك الدول لمعاقبة الغرب عبر تنويع مصادر سلاحها وتجارتها الخارجية وشراكتها الاستراتيجية بالاتجاه نحو روسيا والصين بشكل كبير، أو حتى بإقامة التحالفات على أسس مغايرة للتفاهمات والتنسيق التاريخي مع الحامي الغربي، المتكفل بمهام التسليح والتأمين والحماية، مقابل ضمان تدفقات النفط والاستثمارات الخليجية لموانئه وأراضيه.
ثم كانت فترة حكم الجمهوري دونالد ترامب، المحطة الفارقة في العودة للتوافق ورأب الصدع وعودة الحلف "السعودي- الإماراتي" لأحضان واشنطن. لكن المقابل الذي أجبر الحلف على دفعه كان ضخماً، جراء الخطأ الفادح للأمير السعودي محمد بن سلمان باغتيال الصحفي جمال خاشقجي بصورة بشعة، أثارت الغرب كله تجاه المملكة وسياساتها وتحالفاتها، لكن ترامب استطاع ببراعة الحصول على أكبر دعم ممكن من الخليج لخططه الخاصة بالداخل الأمريكي، مقابل حفظ ملف خاشقجي في أدراج البيت الأبيض، وتخفيف الضغوط الدولية على الخليج بسببه.
جاء ترامب للرئاسة بخطة دعائية جيدة، تتضمن تأسيس تحالف قوي مع السعودية والدكتاتوريات الحليفة في المنطقة لمواجهة إيران كخطر أساسي، ويبدو أن عدداً من دول الخليج دفع مقدماً باتجاه تصعيد التوتر في العلاقات الأمريكية- الإيرانية، حيث أعلن ترامب عن واحدة من أكبر الصفقات في التاريخ بين السعودية وأمريكا، تتجاوز قيمتها 400 مليار دولار.
تلك الصفقة وصفها وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون بأنها تدعم "أمن السعودية ومنطقة الخليج على المدى الطويل، خاصة في مواجهة النفوذ الإيراني الخبيث، والتهديدات ذات الصلة بطهران، التي توجد على حدود السعودية من جميع الجوانب.
لم يمضِ عام على هذه الصفقة حتى أعلن ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي مع إيران، وأعاد فرض العقوبات عليها في الثامن من مايو/أيار ٢٠١٨، وقام برعاية عملية التطبيع بين بعض دول الخليج وإسرائيل، حتى إنه أعلن عن أكثر من تحالف لمواجهة إيران.
شهدت فترة ترامب زيادة هائلة في صفقات بيع الأسلحة للخليج وصنفت إدارته باعتبارها ثاني أعلى فترة بيعت فيها الأسلحة الأمريكية لدول الخليج، ومن أجل هذا سارت إدارته في طريق إدارة العلاقات مع الخليج بالأزمة، حيث شهدت فترته أزمة خليجية كبرى بين المحور الإماراتي السعودي البحريني المصري من جهة وبين قطر من جهة أخرى، استمرت لمدة خمس سنوات.
وفي أواخر عهد ترامب راهن الرجل على قدرات هذه الدول على الدفع أكثر، وعزز سياسات الانسحاب من الشرق الأوسط، في خضم حملته للانتخابات الرئاسية ٢٠٢٠ بالترويج للكلفة البديلة للتدخلات التي كلفت الولايات المتحدة قرابة الأربعة تريليونات دولار، أو حتى بشكل غير مقصود، عبر انفكاك إيران من التزاماتها بموجب الاتفاق وتوسيع نفوذها على عكس المراد من العقوبات الاقتصادية القاسية التي فرضها ترامب.
بايدن وعودة الضغوط وتوتر العلاقة
ومع ظهور نتائج الانتخابات الأمريكية التي راهن التحالف العربي محدود الأفق فيها على ترامب والجمهوريين، عادت العلاقات للتوتر من جديد، تجلى هذا في محاولات الدخول في تحالفات مع إسرائيل كبديل عن الولايات المتحدة في مواجهة إيران، عبر تسريع وتيرة التطبيع دون مراعاة للتحالفات والتوازنات الإقليمية.
هذا التسرع في التطبيع تم رغم العلم بالتخوفات الأمريكية من أن تطوير تلك العلاقات من دون حساب قد يقود لتوتر إقليمي أكبر، وهو ما تحقق عبر "حرب السفن" في الخليج والبحار والمحيطات التي تطولها أيدي إيران وإسرائيل، وعبر تحرك الأذرع الإقليمية لإيران بقوة لإيقاف التقدم الخليجي في الحرب في اليمن، وتجميد الأوضاع إلى أقصى مدى زمني ممكن.
وكذا تحويل حرب التحالف العربي على اليمن وما كان المحور الخليجي يخاله نصراً مؤكداً وسريعاً، إلى مستنقع تستنزف فيه القدرات العسكرية والميزانيات الخليجية، ثم تتطور فيه قدرات القوى والميليشيات -دون الدولة- في اليمن وتنسق مع نظيرتها في العراق مستهدفة الداخلين السعودي والإماراتي، بل وحتى القوات الأمريكية في هذه المنطقة.
كل هذه التطورات وضعت عقبات قوية أمام إدارة بايدن في التنسيق والتعاون المثمر مع الحلف "السعودي-الإماراتي"، وأدت للبحث عن شركاء استراتيجيين جدد من خارج حلف "الناتو" في الشرق الأوسط، كان من بينهم قطر والمغرب، اللتين استفادتا من إرث توتر العلاقات الأمريكية مع الإمارات والسعودية.
كلما تحسنت العلاقات الأمريكية والأوروبية بإيران فإننا نصبح إزاء توترات قوية في علاقات الخليج بالولايات المتحدة والغرب، لكن الاقتراب الخليجي من روسيا لا يمثل أيضاً حلاً للمخاوف الخليجية من الصعود القوي للنفوذ الإيراني، بل إن إيران وبفضل الدعم الروسي القوي لموقفها في سوريا، أو حتى الدور الوظيفي لها استطاعت أن تثبت نفوذها بشكل قاد دول الخليج لتغيير موقفها من نظام بشار الأسد، والسير في ركاب مقولاتها بأن "النظام السوري يحارب الإرهاب".
يمكن القول إن العودة للاتفاق النووي الإيراني قد تشكل محطة فارقة في العلاقات الأمريكية مع الخليج، ففي محاولته الحثيثة لتصحيح أخطاء نظام ترامب والعودة للاتفاق النووي مع إيران ولو بشروط جديدة، فإن سياسة بايدن والديمقراطيين عموماً تبدو مزعجة للمحور "السعودي- الإماراتي"، وتضعه تحت ضعوط تكاد تجبرهم على مصالحات إقليمية على غير هوى الأنظمة هناك، وهذه السياسة عموماً تثبت المقولات المرتبطة بأن تحسن العلاقات الأمريكية مع إيران هو دالة وعلامة على التوتر في العلاقات مع هذا المحور.
يمكن القول أيضاً إن بايدن يحاول أن يصوّب الضغوط الدولية عليه وعلى حلفائه الأوروبيين فيما يتعلق بحرب اليمن والخطاب الحقوقي والسياسي الناقد بشدة للتدخل الخليجي هناك إلى الشركاء الخليجيين بشكل أو بآخر، حيث فرضت العديد من البلدان الأوروبية قيوداً على صادراتها من السلاح لكل من السعودية والإمارات.
لكن بحسب تقارير خليجية، فإن بايدن يحاول أيضاً في طريق عودته للاتفاق النووي الإيراني والمسار التفاوضي الطويل والمحفوف بالمخاطر، أن يراعي المخاوف الخليجية من تمدد النفوذ الإيراني، وأن يتبنى خطاباً حاداً تجاه الحوثيين واستهدافهم للمملكة والإمارات. لكن مع سياسة مختلفة تتعامل مع الخليج كقوى ذات مصالح مختلفة ومنفردة، ومتناقضة أحياناً، وليست قوى تحت إمرة السعودية أو أعضاء في تحالف ما، فيما تحاول هذه الدول التأقلم مع تداعيات الانسحاب الأمريكي من المنطقة بتعزيز تحالفاتها مع قوى أخرى مثل روسيا والصين.
الخلاصة
في التحليل الأخير فإن علاقات كل من السعودية والإمارات بروسيا والصين لا تزال أضعف بكثير من التحالفات الاستراتيجية بين هاتين الدولتين وإيران، وحتى في حال تطور العلاقات بين الصين وروسيا من جهة والسعودية والإمارات من جهة أخرى أكثر، فإنها لن تكون أكثر من عملية محدودة لاستبدال التبعية لمراكز جديدة في النظام الدولي، وليست عملية موازنة للتحالفات كما يروج له.
كما أن اقتراب الإدارة الأمريكية من التوقيع على اتفاق نووي جديد مع إيران، وإن كان يثير مخاوف الخليج الواقع تحت القصف الحوثي لأراضيه، إلا أنه يدفع باتجاه تفاوض مباشر بين تلك الدول وإيران، وقد يكون هذا مقصداً للسياسة الخارجية الجديدة للولايات المتحدة التي تريد التفرغ لمواجهة الأعداء الجدد في الشرق الأقصى والمحيط الهادي، وهو توجه واضح في استراتيجيات الأمن القومي الأمريكي منذ سنوات، ولا تملك دول الخليج تغيير هذا التوجه مهما بلغ ضغطها وتعددت أوراقها.
لا يمكن لهذه الدول الانفكاك من السيطرة الغربية عبر بديل صيني وروسي لا يستطيع تحمل كلفة الدفاع عن تلك البلدان تجاه تهديدات إيرانية محتملة إلا بتغيير سياستها، إما بالاتجاه نحو تطبيع كبير مع النفوذ الإيراني في المنطقة، أو تشكيل تحالف عربي قوي وواسع ويستند لمشروع مختلف عن المشروع الطائفي في مواجهة إيران، ويعادي المشروع الصهيوني -على الأقل يستخدمه وظيفياً- وليس ذلك التحالف الذي يسير خلف المشروع الصهيوني ويحول المنطقة من تابع لمركز النظام الدولي إلى تابع لتل أبيب، ويستنفذ مقدراته في مواجهات داخلية مع تطلعات الشعوب وثوراتها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.