كالعادة فرض الانقسام السياسي والجغرافي والافتقاد إلى قيادة موحدة عليا نفسه على موقف الطبقة السياسية الفلسطينية من الغزو الروسي لأوكرانيا، وبينما جاء موقف القيادة الرسمية حذراً وقلقاً من تداعيات سلبية على القضية الفلسطينية، اتخذت حماس موقفاً حذراً أيضاً، ولكن متفائل نسبياً تجاه احتمال حدوث تغيير عالمي ينعكس إيجاباً على القضية.
أما الفصائل اليسارية الصغرى فتبنت موقفاً أيديولوجياً متماهياً مع روسيا وداعماً لطموحها ومساعيها لاستعادة نفوذها السوفييتي في تجاهل موصوف للطابع اليميني الرأسمالي الإمبريالي للطبقة السياسية الحاكمة في موسكو.
حذر من السلطة الفلسطينية
إذن تعاطت قيادة السلطة بحذر مع الغزو الروسي لأوكرانيا وتداعياته الأوروبية والدولية بشكل عام، وبدا موقفها محايداً، لدرجة أن وزير خارجيتها رياض المالكي قال حرفياً على هامش مشاركته بمنتدى أنطاليا الدبلوماسي السبت الماضي إننا لسنا دولة ولسنا مضطرين لإعلان موقف، خاصة أننا نمتلك علاقات جيدة من الطرفين، وهو نفس الاتجاه الذي سار فيه رئيس وزراء السلطة "محمد أشتية" الثلاثاء الماضي بدعوته إلى إنهاء الحرب من أجل السلام والاستقرار دون الانحياز أيضاً إلى أي طرف؛ والموقفان يرسمان معاً صورة واضحة عن المقاربة الفلسطينية الرسمية للغزو والأزمة الروسية الأوكرانية وتداعياتها بشكل عام.
جانب آخر من المقاربة الحذرة عبر عنه وزير الشؤون المدنية حسين الشيخ الممسك عملياً بملف المفاوضات والتنسيق مع إسرائيل، والذي غرّد مطالباً المجتمع الدولي بالتوقف عن الازدواجية والتعامل بحزم مع الاحتلال الإسرائيلي لتنفيذ قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية.
هنا ومن غير قصد وضع الشيخ نفسه في المربع الأوكراني رغم المزاج العام المؤيد لروسيا، وعلاقته الشخصية الوثيقة مع موسكو ودعمها وترفيعه إلى منصب أمانة سرّ منظمة التحرير، وبالتالي تحضيره لخلافة الرئيس محمود عباس، مع الانتباه إلى أن أول تهنئة بمنصبه الجديد أتته من موسكو في 21 كانون الثاني/يناير- وتحديداً من نائب وزير الخارجية والمبعوث إلى الشرق الأوسط وإفريقيا ميخائيل بوغدانوف.
من جهته، أعلن أحمد مجدلاني، وزير التنمية الاجتماعية بالسلطة وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وأحد مساعدي الرئيس محمود عباس، وانطلاقاً من خلفيته اليسارية ربما- أمين عام جبهة النضال الشعبي- عن دعم صريح لموسكو في دفاعها عن أمنها بمواجهة ما وصفها بالسياسة التوسعية لحلف الناتو.
موقف مجدلاني ورغم تعبيره أيضاً عن مزاج الطبقة السياسية الرسمية بشكل عام، إلا أنه بقي في الحيّز الشخصي، خاصة مع اجتماع اللجنة التنفيذية للمنظمة الأسبوع الماضي والذي رفضت خلاله إعلان موقف صريح من الأزمة، علماً أن مصادر فلسطينية مطلعة قالت إن القيادة قاومت ضغوطاً أمريكية لاتخاذ موقف رسمي ضد الغزو الروسي، وأصرّت على البقاء في مربع الحياد لعدم وجود ما يدفعها للانحياز رسمياً إلى أي طرف.
رغم ما سبق كله، تبدو السلطة قلقة ولديها مخاوف من تداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية في اتجاهين محددين: أولهما، الاهتمام والانشغال الدولي بتلك الأزمة أقله في المدى المنظور وربما حتى المتوسط والبعيد، وبالتالي حدوث مزيد من التجاهل والإهمال للقضية الفلسطينية التي كانت قد أزيحت أصلاً- رغم بعض الاستثناءات أثناء هبّة القدس ومعركة سيفها- عن جدول الأعمال الإقليمي والدولي لصالح قضايا أخرى مثل إيران وملفها النووي وأفغانستان والانسحاب الأمريكي منها، ضمن سيرورة الانكفاء عن المنطقة والانتقال شرقاً نحو الصين وآسيا.
ثمة مخاوف فلسطينية أيضاً من تأخر وحتى توقف الدعم الأوروبي المالي لها الذي سيتوجه إلى أوكرانيا، خاصة مع الخسائر والأضرار الفادحة على خلفية العقوبات ضد روسيا، والتي ستترك آثاراً عامة على الاقتصاد الأوروبي والعالمي لجهة ارتفاع أسعار النفط والمواد الغذائية، هذا على سبيل المثال لا الحصر.
هنا يجب الانتباه إلى أن السلطة تعاني أصلاً أزمة اقتصادية خانقة، وكانت قد تلقت وعوداً أوروبية بتقديم المساعدات المالية عن العام الماضي 2021 في مارس/آذار الحالي، ثم في أيار/مايو القادم عن العام الجاري 2022.
وفي هذا السياق جرى الإعلان عن إرسال وفد فلسطيني رفيع المستوى يضم وزراء الخارجية والمالية والاقتصاد والتعليم والعدل، وموظفين كباراً في الوزارات المعنية إلى بروكسل بداية الأسبوع الجاري، للمشاركة في اجتماع السنوي للجنة الأوروبية الفلسطينية المشتركة- يعقد الثلاثاء 15 آذار/مارس- وسيقوم الوفد خلاله باستعراض الوضع الاقتصادي شبه المنهار، وطلب مساعدات عاجلة بعدما عجزت السلطة عن توفير الرواتب الكاملة لموظفيها خلال الشهور الماضية مع مخاوف من انهيارها تماماً، وانفجار الوضع برمته بكل ما لذلك من تداعيات سياسية وأمنية سلبية على الإقليم والمنطقة كلها بما في ذلك أوروبا أيضاً.
هنا وربما دون أن تنتبه أو تقصد السلطة، فإنها تتساوق مع فكرة السلام الاقتصادي الإسرائيلي لجهة إدارة وصيانة الوضع الراهن دون أفق سياسي، ورغم دعواتها التقليدية للعودة إلى مفاوضات على أساس حل الدولتين، إلا أنها تعي أنه لا أفق سياسي أقله في المدى المنظور، ولذلك تسعى للحصول على أكبر قدر ممكن من المساعدات لأجل الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي الذى ينعكس بالضرورة سياسياً وأمنياً.
تفاؤل "حمساوي"
أما فيما يخص بقية الفصائل، فقد تعاطت حماس مع الأزمة بحذر وتصرفت بشكل رسمي تقريباً ولو من موقعها كفصيل حاكم أيضاً في غزة، لذلك لم تعلن موقفاً محدداً وصريحاً واكتفت بتغريدة يتيمة لعضو المكتب السياسي موسى أبو مرزوق، أشار فيها إلى تبلور نظام عالمي جديد أكثر تعددية وتوازناً، ما يعني أن حماس وعلى عكس السلطة تنظر بتفاؤل إلى التداعيات المحتملة للأزمة على المشهد الفلسطيني.
التناقض والانفصام كانا حاضرين أكثر في لقاء الفصائل الأربعة الصغيرة (الجبهة الشعبية والقيادة العامة والصاعقة والجهاد الإسلامي)- عقد في غزة لا في دمشق رغم إمكانية ذلك- وبدا اللقاء وكأنه مخصص أساساً لإعلان موقف من الأزمة الروسية الأوكرانية، ورغم ضريبة كلامية ومقدمة إنشائية عن القدس والشيخ جراح والأسرى والاستيطان، إلا أنه ذهب مباشرة بعد ذلك إلى دعم الاتحاد الروسي وتفهم موقفه في الدفاع عن أمنه ومصالحه بمواجهة السياسة التوسعية لحلف الناتو.
عندما قرأت خبر ومضمون اللقاء تذكرت على الفور تصريح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أثناء حرب غزة "2014" عن حق إسرائيل في محاربة الإرهاب دفاعاً عن أمنها، حيث تتعمد الفصائل الفلسطينية تجاهل هذا الموقف.
كما تصريحه الأخير منذ أسابيع فقط عن اعتبار أمن إسرائيل محورياً في سياسة روسيا الإقليمية، علماً أنه تجاهل عن عمد أيضاً البعد المتعلق بالعلاقات الروسية الإسرائيلية الراسخة وحتى طبيعة السلطة الرأسمالية الحاكمة في روسيا نفسها.
تعاطف شعبي
وبالعموم يمكن إجمال موقف الطبقة السياسية بتمني ظهور نظام عالمي جديد متعدد ومتوازن ومنصف أكثر، مع انتقاد الازدواجية الدولية الحالية، وطلب موقف صارم أيضاً من الاحتلال الإسرائيلي، ما يعني أن الفلسطينيين وبعقلهم السياسي الباطن يتموضعون في مربع الضحية "الأوكراني" مع إزاحة إسرائيل إلى مربع الجلاد سوية مع روسيا.
وبالنسبة للرأي العام الفلسطيني، فقد تأثر إلى حد ما بموقف الفصائل، لكن رغم ذلك ثمة مزاج شعبي واضح وقوي متعاطف مع أوكرانيا كضحية في موقف أخلاقي سياسي عبّر عنه بيان لمثقفين فلسطينيين دعوا فيه إلى دعم الشعب الأوكراني الذي يقاوم الغزاة والاحتلال الأجنبي تماماً كما يفعل الشعب الفلسطيني في مواجهة المشروع والاحتلال الصهيوني لفلسطين.
لا تقلُّ أهمية عن القراءات والمعطيات السابقة الاستنتاجات الفلسطينية الضرورية والملحَّة المطلوبة، على رأسها حقيقة "ازدواجية المعايير الدولية" في التعاطي مع القضيتين الأوكرانية والفلسطينية.
ولا شكَّ أننا مطالَبون بوضع العالم أمام مسؤولياته وواجباته تجاه الشعب الفلسطيني بكسر الوضع الراهن والمراوحة في المكان ورفع مستوى الصراع والاشتباك مع الاحتلال الإسرائيلي في الساحات والميادين المتاحة من الشيخ جراح وسلوان إلى النبي صالح وحتى غزة.
هذا الكسر لا يجب أن يكون بالضرورة عبر مقاومة مسلحة، كما رأينا في أوكرانيا وكما مارسناها لعقود في صراعنا الماراثوني الطويل والممتد من القسطل وصفد إلى وجنين ونابلس.
وإنما عبر مقاومة شعبية حاشدة وهادرة -هي محل إجماع الطبقة السياسية ولو نظرياً- لا تتوقف وترفع سقف المطالب وتدفع المجتمع الدولي للتدخل من أجل التوصل إلى حل عادل شامل مستدام يرتضيه الفلسطينيون أنفسهم.
وإلا فدعم المقاومة المشروعة متعددة الوسائل والأساليب وفرض عقوبات على إسرائيل مماثلة لتلك التي فرضت على روسيا، ونظام الفصل العنصري الساقط بجنوب إفريقيا، وحتى لو لم يحصل فلن يكون بإمكان أي أحد تجريم أو شيطنة مقاومة الشعب الفلسطيني بعد الحرب الأوكرانية أو من منعه من التصدي للاحتلال بكل الوسائل والإمكانيات المتاحة من أجل نيل حقوقه الوطنية المشروعة في السيادة والاستقلال وتقرير المصير.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.