يقول إريك زمور، مرشح الرئاسة الفرنسي، المدعوم من الإعلام الفرنسي اليميني، والمعروف بمعاداة العرب والمسلمين وكذا مواقفه العنصرية، معبّراً عن موقف غربي مشترك بين النخب الأوروبية في السياسة والإعلام: "نعم لهجرة المسيحيين البيض، ولا لهجرة العرب والمسلمين، أعلم أن الأوكرانيين شعب أوروبي مسيحي، وهو بالتالي أقرب إلينا كثيراً نحن الشعب الفرنسي من موجات الهجرة القادمة من الدول العربية والإسلامية أو الشرق أوسطية".
زمور ليس "مؤذّناً بمالطا"، وليس استثناءً من أي نوع، فها هو الخطاب نفسه يردده النائب البرلماني الإسباني سانتياغو أباسكال: "ليس فقط دعم أوكرانيا دون تحفظات، لكن أيضاً استقبال مئات الآلاف من اللاجئين، لأن هؤلاء هم لاجئو الحرب… يجب أن يُرحَّب بهم في أوروبا، كلنا ندرك الفرق بين تدفق هؤلاء وبين غزو الشباب في سن الخدمة العسكرية من أصول مسلمة، يتم إرسالهم على حدود أوروبا لزعزعة استقرارها واستعمارها".
الأمر ليس حكراً على الأوروبيين، لأنه إذا سافرنا من أوروبا لأستراليا سنرى ونسمع مقدم البرامج الأسترالي ستان غراند وهو يطرد شاباً من الاستوديو لأنه طرح سؤالاً حول غياب الحياد في الإعلام الغربي حول حرب أوكرانيا وانحيازهم التام ضد روسيا.
ولا يمكن أن تُنسى تعليقات بعض الإعلاميين الغربيين في الأيام الأولى للحرب، حين اعتبروا الأوكرانيين أوروبيين شُقراً بعيون زرقاء، وبأنهم متحضرون مقارنة بالعراقيين والأفغان، وكأن العراقيين والأفغان واليمنيين والسوريين والإيغور وغيرهم من شعوب الأرض غير الأوروبية يستحقون الموت، فقط لأنهم ليسوا أوروبيين وغربيين.
في السياق ذاته، منعت مقاطعة بولونيا الإيطالية مرور الطلبة الأفارقة الفارين من الحرب بأوكرانيا لحدودها، لأن المدينة لا تريد أن تُسبغ باللون الأسود.
هكذا تجلّت العنصرية الغربية بشكل صارخ في هذه الحرب الأوروبية الداخلية، وكشفت أن التحضُّر الغربي تحضُّر زائف.
الحداثة العنصرية
الحداثة نقيض القدْمة، والمحدث هو الأمر المبتدع، وعامة تعبر كلمة "الحداثة" عن سياق التطور التاريخي والمجتمعي الشامل، والذي انخرطت فيه بلدان أوروبا، وقد ظهر لفظ "الحديث" في القرن 14، لكن لم تأخد اللفظة معناها إلا في سنة 1850، على يد كل من "جيرارد دو نير فال" و"شارل بودلير".
والحداثة كانت نتيجة للثورات التي شهدتها المعرفة العلمية والفلسفية وإعادة الاعتبار للإنسان، باعتباره النقطة التي ترتكز عليها كل أشكال الوجود واليقين وتستمد منه شرعيتها.
لقد تمركز الإنسان مع الحداثة بصفته سيداً ومالكاً للطبيعة، كما تم القطع تماماً مع قداسة السياسي، وأخرجت الكنيسة من السلطة مع الثورة الفرنسية وقبلها الثورة الأمريكية، التي خط من خلالها توماس جيفرسون إعلان الاستقلال الذي يعد أساس أول دستور أمريكي تمت صياغته خارج هيمنة الكنيسة، ولا يستمد شرعيته من مباركة البابا.
وأيضاً في مسار الحداثة تم إعلان حقوق الإنسان والمواطنة، وأصبح ينظر إلى البشر على أساس إنسانيتهم لا عرقهم أو دينهم أو جنسهم. وهو الإعلان الذي أصدرته الجمعية التأسيسية الوطنية، في 26 أغسطس/آب 1789، متأثراً بفلسفة التنوير، محدثاً ثورة في علاقة الإنسان بالسلطة السياسية، معلناً تشكل الدولة الحديثة التي يكون فيها البشر مواطنين لا رعايا، لهم حقوق وعليهم واجبات، وتحافظ الدولة القائمة على العقد على حقوقهم الطبيعية، وخاصة الكرامة والحرية والحياة والمساواة، وتنشر العدل بين الكل لأجل الكل، دون تمييز فيما بينهم.
تلك بعض أبعاد الحداثة القائمة على أنسنة السلطة وتقدم العلوم واحترام حقوق الإنسان، هذا التحضُّر الذي بشرت به فلسفة الأنوار وإعلانات الثورتين الأمريكية والفرنسية وقبلهما وثيقة الحقوق لعام 1689 في إنجلترا حول حقوق الإنسان والمواطنة، لقد كان الشعار الذي رفع خلال غزوات أوروبا لاستعمار العالم هو التحضُّر ورد الاعتبار لحقوق وكرامة الإنسان، بيد أنه في تلك الحركة الاستعمارية بدأت ازدواجية الخطاب الغربي على المستوى السياسي والفكري، حيث برّر الاستشراق والأنثروبولوجيا كل ممارسات الغربيين، بدعوى رقي الجنس الأبيض وبربرية وتوحش بقية الشعوب.
وقد كُتبت عشرات الكتب حول الحضارة العربية الإسلامية والصين والهند وهنود أمريكا، لتبرير كل أشكال اللامساواة والإبادة الجماعية بحق الشعوب بأسرها، باسم العلم والفلسفة والدين. ففي كتابه (تأريخ لإفريقيا)، يصف الباحث جيه. دي. فيغ المنطق العنصري للمفكرين والمبشرين الأوروبيين، فيكتب: "كان أوروبيو منتصف القرن التاسع عشر وأواخره مقتنعين عموماً بأن مجتمعهم المسيحي والعلمي والصناعي كان، جوهرياً، أعلى بكثير من أي شيء أنتجته إفريقيا".
في كتاب "أنماط البشر"، المنشور عام 1854، رسم توضيحي يوحي بأن سود البشرة من الناس يقعون في رتبة بين الإغريق والشمبانزي. وقد حاول العلماء الغربيون البرهنة على ذلك بكل الطرق العلمية الممكنة، وعبر أكثر أدوات التجريب غرابة، ففي عام 1869 وضع العالم الإنجليزي فرانسيس غالتون أسس علم "اليوجينيا"، الذي يهتم بآليات التحكّم في السلالة البشرية، عبر رَصْد التفاوت العرقي للحد من تناسل مَن لا يستحقّون الحياة في نظره، كالمُعاقين والمُتخلّفين ذهنيّاً و"الزنوج"، وفقاً لقوله.
ولعل قمة العنصرية الغربية في ذلك الوقت هو ما حدث في القرية الزنجية، أثناء معرض احتفال فرنسا بمرور مئة عام على الثورة الفرنسية سنة 1889، فيما سمِّي حينئذ بالمعارض العالمية، حيث عرض السود بطريقة مسّت الكرامة الإنسانية، في دولة كانت تتغنّى بأنها راعية هذه الكرامة، أينما كانت. ولم تُنظّم مثل هذه المعارض في فرنسا فقط، بل في غالبيّة الدول الاستعمارية في لندن وبروكسل وجنيف وبرشلونة وسيدني ولشبونة وجنوة وغيرها.
لقد كان يتم عرض من سماهم المستعمر الأبيض بالـ"زنوج" برفقة حيوانات متوحشة، وذلك للتأكيد على وحشيتهم أمام تحضّر الإنسان الغربي الأبيض، ولعل ما يثير الاستهجان أن ملايين العائلات الغربية كانت تتمتع بمشاهدة الحط من الكرامة الإنسانية، وذلك برفقة أطفالهم، بل حولوا سود البشرة لأهداف لهم في ألعاب الرماية.
إن القيم الكونية التي انبنت عليها الحداثة كالحرية والكرامة وحقوق الإنسان والتحولات التي شكّلتها في المجال السياسي بتحول الإنسان من رعية إلى مواطن، تستمد منه كل سلطة شرعيتها، وتحافظ لأجله كل دولة على الحرية والكرامة، إن الدولة الديمقراطية أفضل الخيارات في إدارة الشأن العام، لأنها تساوي الجميع أمام القانون، وتضمن الحفاظ على الحقوق للكل لفائدة الكل، دون تمييز بينهم لأي سبب كان. كما أن وضع العلم في صدارة اهتمام المجتمع خدمة للإنسان وحفاظاً على حياته وتحقيق رفاهه أمر مطلوب لذاته، وغاية قصوى من غايات الاجتماع الإنساني، على أن يتحرر العلم من العلوم العنصرية التي تشكلت في الفترة الاستعمارية، ويقطع معها ويخرجها خارج بيته كما تخرج الأدران.
كل هذا أمر محمود، ومطلب إنساني لتحقيق المساواة والعدالة والرفاه للناس كافة، ولعله من علامات التقدم الحضاري الإنساني عامة، بعيداً عن خصوصيات كل مجموعة بشرية. فالقيم الكونية تتكامل مع الخصوصية، تثريها دون أن تتحول لخصم لها تقصيها وتنفيها وتلغيها على أساس أن النموذج الغربي لها هو الإمكانية الوحيدة لتحقيقها، في حين أنه توجد نماذج أخرى أكثر إنسانية والتزاماً بتلك القيم مثلما هو الأمر في ماليزيا وسنغافورة مثلاً، فقد تحررت القيم الكونية هناك من العداء للخصوصية، كما تحررت أيضاً من كل أشكال العنصرية والانغلاق.
إن الغرب الذي بدأت مع نهضته الحداثة، وتبلورت القيم الكونية في شكلها النهائي (هناك إشارات لهذه القيم في كتابات الفارابي والبيروني وابن سينا وابن رشد وجلال الدين الرومي)، كان أول من بعثرها ورماها منذ الفترة الاستعمارية برؤية دونية لبقية شعوب العالم وحضاراته واعتبار ثقافته الأفضل والأهم والأكثر تقدمية، وأن الإنسان صاحب اللون الأبيض المؤسس لها أفضل الألوان وأكثرها ذكاء.
وبسبب ذلك خاض حروب إبادة واستعباد ضد بقية العالم، ولا يزال لليوم يمارس ذلك تحت عناوين متنوعة ومختلفة، مثل تحرير العراق (شعار احتلال الولايات المتحدة للعراق وإعادته للمرحلة الطائفية وتدمير كل أسس الدولة الحديثة، بحل الجيش العراقي، حتى أصبح العراق دويلات طائفية وعرقية تتصارع فيما بينها على حساب أمن الشعب العراقي وكرامته وحريته)، والخلط المتعمد بين المقاومة والإرهاب (إعطاء الضوء الأخضر لإسرائيل وعصابات المستوطنين لإبادة جماعية للشعب الفلسطيني باسم محاربة الإرهاب).
الفاشيون الغربيون
ما يحدث اليوم من مظاهر عنصرية وتمييز على الحدود بين أوكرانيا وبقية أوروبا، وما يشاع عن استخدام الفاشيون القوميون الأوكرانيون الطلبة الهنود والأفارقة وغيرهم دروعاً بشرية، ومنعهم من المغادرة نحو دولهم تحت أنظار كل المنظمات الدولية والأوروبية المهتمة بحقوق الإنسان هي الدليل على المعايير المزدوجة للغرب.
لقد ترك الجيش اليوناني عشرات اللاجئين من الشرق الأوسط يموتون برداً على حدود اليونان، بعد نزع ملابسهم عنهم، ولم يحرك ذلك ساكناً للمجتمعات الغربية، ولكن اليوم في هذا الصراع الأوروبي بين شرق أوروبا وغربها، تحرك الكل بما في ذلك الاتحاد الدولي لكرة القدم، الذي اتخذ قرارات كان يعدها سابقاً، حين كانت إسرائيل تغتال أطفال غزة، والولايات المتحدة تبيد أطفال العراق في ملجأ العامرية، يوم 13 فبراير/شباط 1991، (قتل 400 إنسان بين نساء وشيوخ وأطفال حتى التصقت بقاياهم في جدران الملجأ)، مخالفةً للروح الرياضية، وكم من لاعب عربي عوقب لتضامنه مع أطفال غزة والعراق.
إن ازدواجية المعايير القِيَميّة في الغرب أمر واقع مُعاش، يُدرَك كل يوم، ليس فقط من الغرب ذاته، بل من أتباعه في الدول الخاضعة، والتي تحكمها أنظمة استبدادية قهرية. فبقدر تنديد الغرب باستبداد بوتين في روسيا بقدر دعمه المطلق لكل الحكام المستبدين في العالم والصمت الكامل عن جرائمهم بحق شعوبهم، والتي تتعارض كليّاً مع القيم الكونية، التي يدعي الغرب أنه الوصي عليها.
لقد كشفت حرب أوكرانيا معايير التحضُّر المزيفة التي يعتمدها الغرب، وكشفت الوجه القبيح لنخبته، وهو أمر يتطلب من بقية العالم إعادة النظر في علاقته به، وأن ينظر إلى قيم الحداثة بوصفها قيماً إنسانية لا قيماً غربية، وأن يبني نموذجه الخاص السياسي والفكري، لتحقيق تلك القيم في أرض الواقع، بعيداً عن كل هيمنة غربية. لقد حان وقت تحرير عقل بقية العالم من هيمنة العقل المركزي الغربي، وأن يفكر ذلك العقل خارج الصندوق الغربي خدمة لشعوبه وللإنسانية جمعاء.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.