ما سر تلك السعادة الدافقة من وجوه الورود؟ تلك البهجة العارمة التي لا تعرف للفرح حدوداً؟
كأن شمساً في فجر مَنشئها فطرت نورها في وجه صقيع البؤس فتذيبه.. عبقرية مبهمة الكُنْه قد تضحك قبالة اليأس البهيم فتبيده.
ذخيرات من الضحكات قد احتفظت بلُبّ البراءة في عقر دنس الوجود، أعجزت كل البحوث والدراسات، التي امتطت للبحث الحثيث عن السعادة سبيلاً. ها أنتم تزرعون حقولاً وبساتين من السعادة والفرح في المخيمات بين تلك الحارات الاصطناعية الهاوية، التي لم تُقدّ بأنفاس الهوية، ولا حجر الثقافة، بل بأيادي الخوف والهلع واللجوء.
تلك البراءة الأولى التي لم تهزمها أفواه المدافع الشرسة ولا أمطار القنابل الفتّاكة.
ما سر تلك البهجة التي لا أمل إذاً في انتزاعها في خفتها أو الحد منها؟
أتعلمون من أنتم؟ أنتم الأمل.
أتعلمون حجمكم؟ نور ملأ شعاعه كل الأركان، بعدما يئست الظلمة في الكهف. أتعلمون دوركم؟ جبّارة كسور وجروح غائرة.
أتعلمون قدركم؟ أنتم قَدَرُها القادم ولا شيء بعد.
درب طويل في انتظاركم أيها الصغار، ومهمّة واعرة جسوم، ولا أخال قلباً طوّقته المحن والنوازل وصروف الدهر من كل صوب وحدب أن ينكسر وتخنع شوكته إذا ما أعادت العقبات والقحم كرّتها واعترضته العائقات الهالكات.
نفوس مدرّبة في معسكر الحياة، أشد عساكر الكون فتكاً وأقلّها رحمة فإذاً.. "لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ".
ستكونون أنتم مستقبلها وقادمها، تلك البلاد التي انْفتقَت يوماً شرايين روحِها في صمت، أزهقت أنفاسها في نزفٍ طويل، وصل سيله إلى أوروبا، وانتشر حول العالم.
تلك البلاد التي لم يسمع أحد أنينها، صراخها، رهبتها، فزعها. تلك البلاد التي صار الموت صديقها الوحيد الذي يزاحم ضوءها وظلامها.
تلك التي امتدّ على ظهرِ مساحتها جسدٌ عَرف للخراب لوناً، وللوهن طعماً، وتجرّع من كأس مرار الخرس والكبت ما شاء له القدر أن يتجرّع، ولكن رغم حطامها الكبير فإنها تحمل أثراً استوطن في قلوب الكثيرين منكم ومن غيركم.
لم تسافر سوريا يا صغار ولم تمُت، هي باقيةٌ ما بقيت الدنيا، رغم الداء والأعداء كالحمامة فوق القمة الشمّاء، كالمنارة في قلب شرق الهوى، كجبل راسخ أصمّ تتسلّط قمّته في فضاء كل غادر وأرقم.
وبعد أن انفتح باب جهنّم على مصراعيه، وذاقت العذاب الأكبر حتى فكّر بعضكم أنّها الطامّة الكبرى قامت أخيراً من هول ما حدث، ولكنها في الواقع لم تكن سوى لعبة قذرة "بائخة"، ونَزْوة فكرٍ عاطب سقيم، أودى بالآلاف المؤلّفة من مواطنين أبرياء.
وها نحن نتّعظ ونمدّ أسماعنا وننكِّس أعناقنا، وحُقّ لنا أن نسمع للحَقِّ وهو يُجبر خواطر عباده بلطائف ذكره في قصّة فرعون الطاغية، الذي "عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ"، وقد استطال الفساد حدّ منتهاه، وأقفر سبيل رشده، وأُغلقت بوابات الرأفة في جوفه، وعَمِي ظُلمه على قوْمه، حتى اكتَحلت أيامهم بسُخمة القهر والذل.
ولكن ملك الملوك العلي الذي لا يُعلى عليه أحد أبى إلا أن ينصر بني إسرائيل في قوله تعالى "ولَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ"، ويرُدّ موازين العدل إلى نصابها، ويضرب بسهم الحق ليزهق الباطل "إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً"، ويمْحُ أثر الجهل والكفر بآية اليقين، ويقلب كفّة النصر إليه بواسطة نبيه موسى عليه السلام، وذلك بعدما سلك معه سبل الرفق واللين كلّها، ولكن فرعون أَبَى واستكبر، بل إنه توعَّد بني إسرائيل إن لم يُعْطوه الخضوعَ والطاعةَ فسوف يصبُّ عليهم جام بطشه وعذابه، وأتى نصر الله أخيراً "إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِع".
وفلق البحر لأجلهم، وهلك الطاغوت أمام أعينهم، واستردّ بنو إسرائيل حرياتهم، وصاروا ملوكاً يملكون أموالهم وإرادة إقامة دينهم "وَءَاتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّنَ ٱلْعَلَمِينَ"، ليس هذا فحسب، بل وشرفهم الله جلّ في علاه أعزّ الشرف في قوله تعالى "يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ".. "وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ".
فانظروا كيف كان نصر لله جلّ جلالته، كبيراً عزيزاً مهيباً جلياً لقوم لم يفعلوا سوى أنّهم آمنوا به حينها، فإذاً أهل الشام "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا"، واعلموا أنّ الله ولي المستضعفين وهو القهّار فوق عباده.
ها هي سوريا الجريحة تتنفس أولى نُسيْمات العافية.. كيف ما أتت لا يهم، بعدما جار عليها الزمان، وأي زمان لئيم فاسد قبيح لم يؤد للكرام حقها ولم يَهْرع للعظام عزّها.. ها هي في انتظاركم كي تزرعوا على أرضها شجر الأمل، وتسقوها شربة هنيئة طيبة تشفي قروح المحن ولهيب الفتن، بعدما ثملت من تجرع نهر الدم لبني حشاها. درب طويل لبِنائها وإعمارها حجراً وعباداً وصلاة ومصابيح وحباً ولهفة وقبلاً وأحضاناً، وعزم ماض لاستنهاضها من تحت أكوام الرماد بعد أن ركب الفناء رحاله إلى حياة الهناء المطمئنّ واستقر، ولترمّموا ثقافة أصابها الشرخ في الصّميم حد التشظّي وزلزلت زلزالاً.
واعلموا يا عيدان اللّين أنّ الأيام دول، فلا يَأْمن أحد هذه الدنيا ولو تبرّجت للعيان بالقمر ولبست ثوباً مرصّعاً بالنجوم وتأنّقت في أبهى الحلل. واعلموا أيضاً أنّه لا منفذ من قضاء الله ولا مردّ لقدره، ولكنّ الفرق في مدى شحذ الهمم وربط الجأش وشدّة الأيد ومضيّ الجنان والإصغاء إلى صوت الإخلاص الصدوق.
وأبقوا اسم الله صوب أعينكم طاهراً نقياً صافياً كما أدركته الفطرة، وأبانه الحق، وسمْت الإسلام الحسن، وقولوا الله أكبر من كلّ زور وباطل وكذب أُريدَ به ضلال وتشْويه وفساد، والله أكبر من كلّ جور وقهر. ولعل فتحاً قريباً يجود به الرحمن يُبرد به أرواحاً ويسكن به جروحاً ويطفئ أخيراً تفحم المحن.
درب طويل في انتظاركم يا أبناء سوريا، فلا كلل ولا ملل ولا رفث ولا فسوق في سبيله.
مسير عسير في بحر ذي صخور والحجارة، ولكنه يبقى وحده دأباً للمجاهدين المقاتلين المحبين المؤمنين.
يد الله فوق أيديكم، إذ تخوضون في مضمار الوهن وثقل الذاكرة ووجع الفقد، ولكن فجر النّصر والظّفر بدأ يلوح أوّل خيطه الأبيض في سماء أرضكم تلك، فلا تُسْقِطوا جيادكم قيد الجهد والإعياء وقد علِمت سوريا أنّ لرَحِمِها أبناء.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.