لا شك في أننا بتنا كعرب نستخدم ألفاظاً لا حصر لها في غير موضعها، بعضها عربي خالص، وبعضها الآخر أعجمي نضفي عليه ما ليس منه أو فيه، وكل هذا مقبول في عرف التغير اللغوي، خاصةً تغير المعنى تمدداً (مثل: "السيارة" التي لم تعد تدل فقط على القافلة)، وانحساراً (مثل: "الحج" الذي بات يدل على عبادة محددة بزمن ووقت معينَين)، وتشكلاً بصفة لم تكن فيه من البداية سواء كانت إيجابية (مثل: "فظيع") أم سلبية (مثل: "باشا").
لكن هذا التغير في المعنى يمكن تقبُّله بعد مرور سنوات وسنوات عليه حتى يعتاده الناس، أما التغير الذي نراه أمام عيوننا فيكاد الفرد ألا يتقبله، خاصة عندما يكون مبالغًا فيه من وجهة نظره على الأقل.
ولهذا، أجدني أقف كل مرة مصدومًا عندما أرى كم الاستخدامات الجديدة لكلمة "دولي".
معنى "دولي"
الكلمة شهيرة ولا يحتاج الأمر لتفصيل معناها إلا لغرض التأصيل. فالكلمة صفة مشتقة من "دَوْلَة" حسب بعض الآراء أو من "دُوَل" حسب آراء أخرى، وهي تشير إلى شيء تشترك فيه أكثر من دولة مثل بطولة الأولمبياد أو كأس العالم في كرة القدم، وهي مسابقات يشارك فيها عدد كبير من الدول.
تشير كلمة "دولي" غالبًا إلى عمل أو حدث لا يتركز في إقليم واحد حتى وإن كان العمل أو الحدث يحدث بين أكثر من دولة؛ فلا يطلق على الأحداث العربية غالبًا كلمة "دولي" بقدر ما يطلق عليها "إقليمي".
ويدل هذا على أن كلمة "دولي" لا تستخدم بمعنى "بين الدول" إلا في حالة الاختلاف بين الدول، وهذا غير واقع بين الدول العربية التي تشترك في اللغة والتاريخ والعادات والتقاليد والديانات بدرجات تكاد لا توجد في إقليم آخر على مستوى العالم.
المؤتمر الدولي
ومع كل هذا، ليس مستغربًا أن تجد جامعة عربية تنظم مؤتمرًا علميًا لا يحضره إلا باحثون من الجامعة نفسها أو من جامعات قليلة مجاورة وتسمي هذا المؤتمر "دولي". والغريب أنك لو ناقشت أحدًا من المسؤولين عن المؤتمر في سبب تسميته بالدولي، فقد تندهش أن الإجابة: "لأن المؤتمر مفتوح لمشاركة الجميع من دول عدة"، رغم أن هذا الأمر "توقع" أو "أمل" أو "إمكانية" وليس "حقيقة مؤكدة". ولهذا السبب عينه، ربما، لا يوجد مؤتمر علمي كبير يطلق عليه صفة "دولي" في أي دولة محترمة إلا وكان به عشرات وربما مئات الباحثين من جميع القارات، مع العلم أن هناك عشرات المؤتمرات الدولية حقيقةً ولا يسميها منظموها "دولية".
المجلة الدولية
وتقترب من المؤتمرات المجلات العلمية التي يطلق على كثير منها في عالمنا العربي "مجلات دولية" مع إبراز "دولية" بخط بارز على أغلفتها التي تشير بشدة إلى "محلية" الطباعة السيئة والتصميم الأسوأ.
أما الموضوعات المنشورة في هذه المجلات فهي في مجملها محل شك في إطلاق صفة الدولية على المجلة. والمتصفح لمجلات علمية دولية حقيقية سيعرف الفرق لأول وهلة، ألا وهو تنوع الأبحاث المنشورة وحداثتها ودقة التحليل بها ومساهمتها في حل مشكلات معاصرة ومشاركة عدد كبير من الباحثين بها من دول مختلفة وجامعات أكاديميات ومراكز بحثية. وللعلم أيضًا، أكثر هذه المجلات العلمية لا يطلق مصدروها عليها صفة "دولية".
المستشفى الدولي
"قابلني عند المستشفى الدولي بعد ما تنزل من الكوبري"… جملة سمعتها من صديق عبر التليفون، وتخيلت أنني سأرى مستشفى كبير الحجم تتنوع جنسيات من يعملون به من أطباء وممرضين وموظفين أو جنسيات من يتوافدون عليه من المرضى، وكل هذا ضمني داخل كلمة "دولي" في ارتباطها بالمستشفى. ولكن ما رأيته كان مستشفى مغرقًا في المحلية بلا جراج أو حديقة وكل رواده من البسطاء "ملح الأرض" المحليين. فأين الدولية من هذا؟
الأكاديمية الدولية
الأمر نفسه ينطبق على الأكاديميات الدولية، وما هي بأكاديميات ولا دولية، بل هي مجموعة من المراكز التي لا تزيد مساحتها في الأغلب الأعم عن شقتين متجاورتين لا يزيد حجمها عن ٣٠٠ متر مربع. فهل قرأ مؤسسو هذه الأكاديميات تعريف "الأكاديمية" في أي مرجع؟ ألم يسمعوا على الأقل عن أكاديميات الشرطة والفنون والأكاديميات البحرية والرياضية والملكية ليعرفوا – ولو بطريق غير مباشر – أن كلمة "أكاديمية" أكبر بكثير من مؤسساتهم؟
طبعًا هناك مئات الأمثلة الأخرى التي تبرهن على أن لصق كلمة "دولي" بجوار أي مؤسسة أو نشاط بات أمرًا مزعجًا، ومنها "مدرسة دولية" و"اتحاد دولي" و"جريدة دولية" و"حديقة دولية". ومن منطلق "هي جات عليا أنا ووقفت؟"، يحق لي أن أسمي هذا التطور "تطور دولي".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.