ما يجري في تونس خلال الشهور الأخيرة، لا يمكن وصفه إلا بالانتكاسة الحقيقية لبلد عاش 10 سنوات بعد الثورة، في ديمقراطية لا يمكن أن نقول عنها إلا أنها شَكَّلَتْ استثناءً عالمياً وسط دول عربية تغلب عليها السلطوية وحكم الاستبداد.
ومن المفارقات التي ما زِلْتُ لم أستسغها خلال حكم قيس سعيّد؛ أنه كيف لرجل بمثل هذه المواصفات أن يكون حاكماً لدولة عاشت الثورة وذاقت حلاوة الحرية؟!
قيس سعيد جاء بلا ماضٍ نضالي أو برنامج سياسي واضح؛ لطالما كانت له خرجات يتكلم فيها كلاماً عاماً "لا ساس له ولا رأس" كما نقول في المغرب. حيث كان يأتي بمفردات وجمل وأفكار مستوردة أو هلامية لا منطق في تطبيقها على أرض الواقع، ومع ذلك فقد دغدغت شعبويته مشاعر التونسيين ولاقت رواجاً في مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة في ظل منافسين ضعفاء إما بماضٍ يشوبه فساد وإما آخرين لم تكن لهم حاضنة اجتماعية كبيرة أو لم
يأخذوا حظهم من الإعلام والتسويق اللازم، مما جعل شعبوية قيس سعيّد تهيمن على منافسيه.
لتصبح أسئلة من قبيل: من يدعم الرجل؟ كيف نجح شخص بهذه المواصفات في تصدر انتخابات الرئاسة في تونس؟ ملحة وضرورية.
وصول قيس سعيد إلى الحكم في نظري راجع إلى ثلاثة عوامل أساسية تمثلت في التالي:
أولاً: الخطاب الشعبوي الرهيب الذي يمارسه الرجل منذ ترشحه إلى الآن، مع ازدياد الحدة بشكل كبير إلى درجة العنف اللفظي وقلة الحياء في الشهور الأخيرة؛ هذا الخطاب الشعبوي يجذب فئات واسعة من الشعب ملّت من الخطاب الدبلوماسي والِعلمي، الشيء الذي جعل بعض الفئات تجد ذاتها في مصطلحات من قبيل "الشعب يريد" و"محاربة الفساد" و"سلطة الشعب" كلها مصطلحات تجعل صاحبها يُعَيِّنُ نفسه ناطقاً باسم الشعب أو كبطل جاء من كوكب آخر لإنقاذ المواطنين بحلول سحرية قابلة للتحقيق في أيام معدودة.
ثانياً: استعمال الدين والقضية الفلسطينية كمَطِّية لكسب المصداقية؛ من أبرز مميزات خطاب سعيّد هو إدخال الدين في أغلب خطاباته من قبيل آيات وأحاديث نبوية وأحداث تاريخية لشخصيات دينية معروفة، هذا الاستعمال الانتهازي للنص الديني، إضافة إلى الخطاب الشعبوي المفرط، جعل من الرجل إنساناً "كاملاً أميناً صادقاً" أمام أنظار فئات واسعة من الشعب؛ فالرجل من خلال هذا الخطاب هو شخص متدين صارم، ابن الشعب، يتكلم باسم الشعب وجاء لخدمة الشعب! كما أنه بعيد عن الأحزاب التقليدية وحساباتها الضيقة، الشيء الذي زاد من حشد فئات متدينة يبهرها الخطاب الديني وتتلهف لرؤية شخص بهذه الجرأة على منصة الحكم.
وقد شكّلت خرجته المعروفة التي اعْتَبَرَ فيها التطبيع مع كيان الاحتلال "خيانة عظمى" نقطة فاصلة بالنسبة لي في مشوار الرجل؛ الشيء الذي جعل الكثيرين يرون أن سعيد لا يخاف في قول الحق لومة لائم وأنه رجل مبدئي ذو توجه واضح بعيد عن اللف والدوران المعتاد في السياسيين، مما جعل حتى الحركات الإسلامية وأنصارها في تونس يدعمونه في المرحلة الثانية من الانتخابات الرئاسية.
ثالثاً: الدعم الضخم للرجل في مواقع التواصل الاجتماعي؛صفحات تُقَدّر بالعشرات أو المئات ساندت سعيّد في فترة ترشحه وما زالت لحد الآن، إضافة إلى مئات الحسابات التي من الواضح أنها وهمية تحاول الترويج لشعبيته واحتقار منافسيه ومعارضيه بل سبهم في عديد الأحيان. هذا الدعم اللا منطقي والذي لا يمكن أن يكون اعتباطياً أو نتيجة "حب الرجل" فهناك عشرات الشخصيات المعروفة على المستوى العالمي، لكن لا تعرف هذا النوع من الدعم الرهيب الذي وصلت إليه صفحات وحسابات خاصة على فيسبوك في دعم سعيّد.
هذا الحشد الإلكتروني يعيد طرح القضية التي أثارها النائب في البرلمان التونسي راشد الخياري، الذي جاء بمجموعة من القرائن التي تشير إلى تورط قيس سعيد في عملية دعم أجنبي قادتها فرنسا وأمريكا في عهد ترامب من أجل وضع سعيّد على سدة الحكم؛ كما أن الملاحقات القضائية العسكرية التي لحقت النائب المستقل راشد الخياري تثير الكثير من الاستغراب والتساؤل عن سبب هذه الملاحقات المتواصلة إلى حد الآن، خاصة أنها جاءت بعد طرحه لقضية الدعم الأجنبي لحملة الرئيس التونسي؟ دليل آخر يزيد من صدقية أطروحة الخياري، هو محكمة المحاسبات التي أشارت إلى أن هناك مرشحاً كانت حملته تشوبها خروقات في إشارة إلى الرئيس، إلا أن حصانته حالت دون متابعته. كما أن رد فعل سعيّد بعد صدور تقرير محكمة المحاسبات أبان عن قلقه، بل تبرأ من كل الصفحات التي تدعمه بعد أن كان يفتخر بها في وقت مضى.
هذه العوامل الثلاثة، كانت محورية بالنسبة لي في وصول قيس سعيّد إلى الحكم. أما بخصوص أسباب ودواعي انقلابه فهي تبدو واضحة وتتضح كل يوم؛ فالرجل على ما يبدو هو ابن المنظومة القديمة بامتياز، لم يشارك في
الثورة ولا يعترف بها، يؤمن بتجميع السلطات ويرفض مبدأ فصل السلطات، لا يؤمن بالرأي المخالف حتى ولو كان من طرف أنصاره! يحترف الكذب والشعبوية والتضليل، وَفِيّ للاستعمار الفرنسي، ولعل اعتبار هذا الأخير "حماية" وتقبيل كتفي ماكرون هما أبرز دليل على تبعية الرجل.
وبالتالي فهذه التبعية لا يمكن أن تكون جاءت من فراغ، مما يرجع بنا إلى قضية الدعم الأجنبي في حملة سعيّد الانتخابية، ويساعد على فهم اللعبة بشكل واضح وشفاف.
وفي الأخير، يمكن القول إن الأزمة السياسية في تونس قد شارفت على نهايتها، أو لنقل إن انفراجاً سياسياً يلوح في الأفق، خاصة مع تزايد حدة الأزمة الاقتصادية وتقارب القوى المعارضة أكثر فأكثر من بعضها البعض.
أما بخصوص الضغط الخارجي فقد انخفض كثيراً مع بداية الحرب الروسية الأوكرانية، مما يجعل الحل بيد الشعب التونسي والنخبة السياسية، إضافة إلى مؤسسة الجيش والأمن اللتين تتحملان مسؤولية كبيرة وكبيرة جداً في تدهور الأوضاع في تونس، سواء باختيارها الحياد السلبي في أوقات مفصلية أو الاصطفاف مع الانقلاب في فترات أخرى من الأزمة، الشيء الذي يجعل المؤسستين في موقع المسؤولية، وأي تغيير في موقع هاتين المؤسستين سيكون له الثقل الأكبر في شكل الخريطة السياسية التونسية مستقبلاً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.