لطالما امتلأَت شوارع مصر بمواهب كرة القدم، ولطالما كانت منبع المواهب لمنتخب مصر ولكل أندية كرة القدم المحترفة، فكثير من نجوم مصر كان الشارع هو من بدأ قصة نجاحهم قبل صعودهم قمة المجد.
وعلى الرغم من هذا كان أيضاً الشارع هو المكان الذي دُفنت فيه الكثير والكثير من المواهب التي لم تجد من يُخرجها إلى النور. ولضعف الاستكشاف والكشافين أصبح هناك فقرٌ في ما تقدمه الكرة المصرية من لاعبين في الوقت الأخير.
ولكن قصة اليوم هي نجاح من نوع آخر، نجاح من الشارع والساحات وإلى الشارع والساحات، فلم يعرف طريق الاستادات الضخمة، لكن جاء إلى "استادِه" الخاص في شوارع إمبابة الجماهيرُ والصحافة والإعلام. ليحلق في شوارع مصر "حافي" القدمين وبالكرة "الشراب" ليصبح أفضل "حافي" في التاريخ.. إنه الأسطورة الشعبية "سعيد الحافي" الذي غادر دنيانا قبل أيام قليلة.
ليالي العم سعيد الحافي
اليوم تمتلئ الشوارع بالجماهير في ليالي دوري أبطال أوروبا أو مباريات المنتخب في إفريقيا أو مباريات الأهلي أو الزمالك، ولكن في مطلع الثمانينيات كانت تمتلئ شوارع إمبابة بالمستمتعين بسحر كرة القدم الشعبية قبل أن ينتقل الحافي إلى العباسية والسيدة زينب ليبدأ في الاحتراف الخارجي لمحافظات أخرى، فذهب للإسكندرية وغيرها من المحافظات.
"كان مرتب أكبر موظف في الشهر أقل من ربع ما أجنيه من المباراة الواحدة، فكنت أحصل على عشر جنيهات للمباراة".
هكذا عبَّر العم سعيد الحافي عن نجاحه.
وتابع: "الكرة تجنُّ جنوني وما زلت أشاهدها بالشغف نفسه، العشرات كانوا يتجمَّعون لمشاهدتي، وكان التجار يأتون من كل المحافظات ليشاهدوا مبارياتي".
ويحكي عن أحد المواقف: "كان هناك رجل جاء لمشاهدتي وأنا ألعب وبعدما انتهيت جاء ليخبرني بأنه طلَّق زوجته في صباح اليوم نفسه ولكنك (سلطنتني)، والآن سأردُّها لعصمتي بسببك".
وفي ذلك الوقت كانت بطولات كرة القدم الشعبية في أشد رواجها؛ بل كان لها جمهور خاص بها، وكان يتم اختيار الفرق المشاركة في البطولات بعناية؛ لتقدَّم بأفضل شكل ممكن للجمهور.
وكان ثمن الكرسي لمشاهدة المباريات 5 قروش مصرية. وكان يتجمع حول سعيد المئات، مما يجعل حتى الشرطة والجيران يظنون أنها مشاجرة ولكن يكتشفون أنَّ تجمُّع الناس سببه مشاهدتهم لسعيد وهو يداعب الكرة، فكانت لديه مهارة "التنطيط" لكل شيء؛ فحتى الليمون والبلي الصغير لم يَسلم من مهارته!
علقة الإسماعيلية
سيد يوسف، نجم الترسانة السابق وشقيق النجمين إبراهيم وإسماعيل يوسف وزميل سعيد في رحلته بالملاعب الشعبية، كشف بعض التفاصيل عن حياة الرجل التي اتسمت بالغموض.
"كان لدينا فريق خاص بإمبابة، وكان لكل فريقٍ شخص يشبه الراعي في الوقت الحالي، وكان الراعي الخاص بنا يعطي سعيد 10 جنيهات في المباراة".
وعن أبرز المواقف التي يتذكرها: "في مرة من المرات تلقينا عرضاً لمواجهة فريق من الإسماعيلية، لأنهم كانوا يريدون مواجهة سعيد، وذهبنا للإسماعيلية، وعندما رأينا الفريق الخصم وجدنا نجوماً مثل حمادة الرومي ومحمد حازم، وكانت مباراة حماسية قدَّم فيها سعيد عدداً من المهارات، ثم راوغ حمادة الرومي نجم الإسماعيلي بشكل أغضب الأخير، مما أشعل مشاجرة واشتباكات في الملعب أنهت المباراة وكنا فائزين".
وأكد أن أعظم من لعب الكرة الشراب هو سعيد الحافي، وأنه حاول كثيراً ضمه لعدد من الفرق في الدوري المصري إلا أن مشكلة "الحذاء" كانت العائقَ!
محاولة فاشلة للدخول لعالم كرة القدم الاحترافية
بعد الشهرة التي اكتسبها سعيد الحافي، حاول الأهلي عن طريق مكتشف النجوم في هذا الوقت "عبده البقال" ضمَّه إلى صفوفه وذهب إلى اختبارات الأهلي، ولكن كانت المشكلة أنه لم يكن من المسموح به أن يلعب "حافي" القدمين، وكان السبب الذي يمنع سعيد من المشاركة بحذاء رياضي هو إصابته بـ"الفلات فوت"، ورغم محاولات والده صناعة حذاء خاص له، لم يظهر في الاختبارات بشكل جيد يمكنه من اللعب في الفريق الأحمر.
وعن رفضه اللعب في الأهلي واختياره اللعب بكرة الشراب في الشارع للمقابل المادي الأفضل، نفى سعيد قائلاً: "نعم كنت أكسب من الكرة الشراب ولكن من يرفض الانضمام للأهلي؟ بيبو الخطيب سأل عليا أكثر من مرة عندما سمع بموهبتي".
اعتزال الحافي
اعتزل سعيد الحافي كرة القدم عندما وصل إلى سن الخمسين، وأقيمت له أول مباراة اعتزال للاعب مصري، أقيمت في مسقط رأسه بالشارع الذي بدأ منه، شارع النصوح في إمبابة عام 1986، وشارك في المبارة العديد من أساطير الكرة المصرية مثل إسماعيل وإبراهيم يوسف وشوبير وزكريا ناصف ومصطفى عبده وحمدي نوح.
ويحكي أنه من المواقف الطريفة أن فاروق جعفر سبَّه من كثرة إعجابه بموهبته ووصفه لما يفعله بأنه ساحر.
الحافي الحريف في السينما
ارتبط اسم سعيد الحافي بقصة فيلم الحريف لعادل إمام وإخراج محمد خان، واستطاعوا أن يُخرجوا حياة سعيد في فيلم سيعيش كفكرة إنسانية، حيث ألهمت موهبته الكاتب بشير الديك وبعدها ذهب المخرج محمد خان لإمبابة لدراسة بطل فيلمه الجديد، وجلس مؤلف الفيلم عدة مرات معه للحديث عن تفاصيل حياته ومنحوه 100 جنيه، وقرر بعدها أن عادل إمام هو من سيجسد شخصية سعيد بالفيلم، وجرى تصوير الفيلم في حي بولاق، ليمثل بيئة قريبة من الواقع الذي عايشه سعيد أثناء حياته.
"زمن اللعب راح"
يحكي سيد يوسف، صديق عم سعيد الحافي، قائلاً: "لم يتزوج بسبب حبه للكره الشراب، وكان مقيماً مع شقيقته قبل أن تتوفى منذ سنوات، وتولى بعدها ابن شقيقته رعايته".
وقال إسماعيل أحد أبناء أخت عم سعيد الحافي، في لقاء صحفي، إنَّ خاله فارق الحياة قبل نقله للمشفى، وإنه توفي في إحدى دور رعاية "المسنين" والتي كان يقيم فيها منذ 5 أشهر بعد طلب من الطبيب المعالج.
إلا أن ابن أخت الحافي، الآخر، والذي يدعى "فتحي"، أخبر في لقاء مع صحيفة "مصراوي"، بأنه كان يقيم في دار المسنين منذ 5 أشهر بدون علم أسرته، وأنه كان مختفياً منذ سبتمبر/أيلول الماضي 2020.
حيث إنه ومنذ مطلع الألفينات أصيب بجلطة في المخ أثرت على ذاكرته؛ مما أدى إلى إصابته بمرض ألزهايمر: "كان بينسى كل حاجة ما عدا ذكرياته مع كرة القدم وخالتي أُمنية.
وهذا ما أثَّر بشكل كبير في لقاءاته التلفزيونية والصحفية والمعلومات القليلة حول حياته".
فيبدو أن "الحاوي سعيد الحافي" قضى آخر أيامه في دار الرعاية أمام التلفاز يشاهد معشوقته الوحيدة كرة القدم، وكان يعلّق على المباريات ويحللها مع باقي نزلاء الدار كأنه محلل رياضي، وحرص سعيد على أن يضع كل ميدالياته وكؤوسه بجواره في سريره بالدار؛ لتكون برفقته دائماً.
"لا تتعجب حين أقول لك إن كرة القدم هي حياتي حرفياً، بها حييت وأحيا وأموت".
هكذا ودَّعنا سعيد فتحي الحافي في آخر لقاء له قبل أن توافيه المنيّة لتكتب نهاية أسطورة من أساطير كرة القدم الشعبية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.