سمَّوها حرب الشرق.. يوم قاتل الجزائريون الروس وهزموهم في الأراضي الأوكرانية

عدد القراءات
1,012
عربي بوست
تم النشر: 2022/03/10 الساعة 12:34 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/03/10 الساعة 15:00 بتوقيت غرينتش
صورة تعبيرية / الشبكات الاجتماعية

في التراث الشعبي الجزائري الخاص بمنطقة الأوراس وبعض مدن الشرق الجزائري، أغانٍ قديمة وأمثلة تتحدث عن الروس، بشكل يدعو للغرابة، إذ لا صلة تاريخية قديمة، ربطت السكان المحليين بالجنس السلافي، مثل تلك التي وثقها التاريخ عبر علاقات مع الإغريق والفراعنة والفينيقيين والرومان.

 ورغم ذلك ثمة في الضمير الجمعي مثال شعبي يقول: "يوم يجيء الروس قلاع الضروس، يلوح عشرة في البرنس".

إنها كلمات تصف هؤلاء بالقوة والصلابة وأحياناً بالوحشية، لذا فهم يقتلعون الضروس ويكومون عشرة أشخاص في البرنس الواحد.

قد تكون تلك الصور التي استوطنت المخيال الشعبي الجزائري الذي يوظف مصطلحا آخر فيصف كل هجوم ودخول قوي بمفردة "دخل عليه دخلة الروس"، شظايا من مرويات المحاربين الجزائريين الذين جندهم جنرالات الجيش الفرنسي الاستعماري في صفوفه، أو من أولئك المتطوعين الأحرار، في حرب القرم -1853-1856-التي دارت رحاها في الأراضي الأوكرانية، بين تحالف ضم فرنسا وبريطانيا وتركيا جهة، ضد روسيا التي رغبت في عهد نيكولا الأول نقل النفوذ من البحر الأسود إلى البحر المتوسط. 

1- الروس أطلقوا عليهم اسم " التُرْكُوسِ" بسبب اللباس 

يوم قاتل الجزائريون الروس

تشير مصادر تاريخية إلى أن عدد الجزائريين "الأهليين" الذي جنَّدتهم فرنسا النابليونية الثالثة في تلك الحرب، التي تعرف أيضاً بحرب الروس، بلغ 2800 جندي، وهم شكلوا أولاً في إطار ما يُعرف بالقوات المساعدة، الذين استعين بهم لبسط السيطرة على الأراضي الجزائرية وإخماد المقاومات المندلعة هنا وهناك، كما كان الحال مع فرق "السبايهية" أو فرق "الزواف" الذين أنشأتهم في عدة مدن بالبلاد مشكّلة من عناصر محلية قبل أن تصبح فرنسية خالصة، لما تقرر تعويضها بفرق معاونة تشكلت من أسراب وفيالق وأفواج. يقول جاك فريمو، أستاذ التاريخ بجامعة السوربون في مقال عنوانه "أولى طلائع القوات المساعدة بالجزائر" بأن الجنرال ديكروا لم يكن راغباً في ضم المحليين للجيش الفرنسي فهو قال: "من العار أن نجعل جيشنا خردة من السكان المحليين"، لكن الباحث يعقب بما يلي: "غير أن  حملة جزيرة القرم منحت صورة لائقة عن هؤلاء "التركوس"، الذين تكرست شهرتهم أكثر بفضل سلوكهم المثالي في معارك ويزمبورغ و فروشفايلر".

ولا تستغرب من كلمة "التركوس" فهي لا تعني الأتراك في شيء رغم أنهم كانوا طرفاً في الحلف، وإنما هي اللفظة التي أطلقها المقاتلون الروس على أولئك الجزائريين الذين كان لهم لباس شرقي عبر السروال والشاشية الحمراء والصدرية، ما دفعهم للاعتقاد أنهم عثمانيون أتراك، طوال تلك الحرب التي ستسمى أيضاً "حرب الشرق".

2- سرقة كنيسة المهد ببيت لحم تجدد الصراع بين الكاثوليك والأرثوذكس

يوم قاتل الجزائريون الروس
كنيسة المهد ببيت لحم

لا أحد توقع أن تأتي حرب الشرق بغتة، عندما زار الأميرال الروسي ألكسندر سرغاي متشنيكوف، قصر السلطان العثماني بتركيا في 5 مايو/آذار 1853. 

أبدى موفد القيصر سلوكاً متعجرفاً، مع وزراء البلاط، متجاوزاً كل الأعراف الدبلوماسية، مطوراً كراهية عجيبة ضد الأتراك، قيل إنها بسبب عقدة لازمته بعد أن فقد إحدى خصيتيه في نزاع سابق مع العثمانيين. لكن ذلك الخيلاء القيصري، تعدى الحدود وهو ينقل، للسلطان عبد المجيد الثاني رسالة تهديد للقيصر نيكولا الثاني: "لديكم خمسة أيام للرد على طلب منحنا حق التصرف في الكنائس الأرثودكسية اليونانية بالقدس، وحق التدخل لحماية الأرثوذوكس المنتشرين في تراب الخلافة".

أدرك الخليفة العثماني أن المطالبة بحق التصرف في الكنائس الأرثودكسية، المتجددة منذ حادث سرقة نجمة فضية من كنيسة المهد، ببيت لحم، في العام 1847، سيؤجج الصراع بين فرنسا حامية الكاثوليك وروسيا حامية الأرثودوكس، ولن يكون سوى ذريعة مقدسة لإشعال النار، ذلك أن الكنائس المسيحية، سواء أكانت رومانية غربية أو يونانية شرقية، هي تحت الوصاية الكاملة لتركيا بفرامانات سلطانية عليا منذ 1517، وبأن حق التدخل لحماية الأرثوذوكس المتوطنين بالخلافة، يعني بتر تلك الأقاليم، وبخاصة أن "المطلب" تزامن مع غزو روسيا لمولدافيا وفلاتشيا، التابعتين للعثمانيين، لذا أغلق الباب العالي الباب على مبعوث القيصر، متهيئاً لإعلان الحرب.

تفطن الفرنسيون والأتراك والنمساويون والبريطانيون أن المطلب الديني ليس سوى حصان طروادة يخفي في بطنه نية التوسع التمدد البحري من ميناء أوديسا عبر البحر الأسود والتهام دول البلقان المتاخمة له، والبحث عن منفذ إلى البحر المتوسط عبر مضيقي البوسفور والدردنيل، ثم تهديد طريق الهند التجاري الذي تسيطر عليه بريطانيا. هكذا سيلتئم شمل الحلفاء، بانضمام، فرنسا التي صار لها حاكم جديد هو نابليون الثالث منذ العام 1852، فتحكمت فيها رغبة حماية مصالحها البحرية في المتوسط، وتطلب الأمر إعداد جيش قوامه 300.000 رجل، ولم يكن هناك أفضل من جنرالاتها في الجزائر وهم "سانت أرنو" و"ماكماهمون" و"كانروبير"، الذين اكتسبوا خبرة ميدانية في حملة استعمار الجزائر، وسحق المقاومات الشعبية الناشبة في البلاد.

3- أوبئة وأوسمة في معارك ألما ومالاكوف وسيفاستوبول

في مؤلف عنوانه "حملة القرم حتى حصار سيفاستوبول. وقائع حرب الشرق" الصادر العام 1857، يشتكي كاتبه البارون بازانكور، من تصرفات بعض الجنود "السبايهية" الذين تميزوا بعدم الانضباط والتخلي عن المواقع والتفكير في الغنائم واللصوصية، وأما الكتاب الذهبي للرماة الجزائريين للجزائر العاصمة، الصادر في الجريدة الرسمية، ص 146 – 1866، ينقل شهادة اعتراف مثيرة في حق هؤلاء: 

يوم قاتل الجزائريون الروس

"في ليلتي 14 و15 مارس/آذار 1855، انقضت ثلاث كتائب للرماة الجزائريين، تحت قيادة جيبون، على كتلة من المشاة الروس، عبر قتال متلاحم بالحراب، فالحقوا بها خسائر نكراء قبل أن يضطروها للفرار".

ثم أعادت الكرة من جديد في يونيو/حزيران 1855، بالسيطرة على موقع الحلمة الخضراء بمالاكوف، تحت قيادة الجنرال ماكماهون، بيد أنها فقدت خلال المعركة 28 ضابطاً و398 جندياً، وحصلت بموجب ذلك على تنويه خاص من الجنرال سانت أرنو نظير "الدور النشط الذي قاموا به في الاستيلاء بالقوة الرئيسية على المعاقل الروسية قرب سيفاستوبول". 

استغرق الوصول إلى تلك المدينة والمرفأ عاماً كاملاً من المعارك، والمناوشات، عبر ساحات هيئت بخنادق، لكن الكارثة الكبرى وقعت لا جراء القتال بل بسبب الأوبئة الفتاكة، التي نخرت الجيوش، وانتقلت كالنار في الهشيم خلال حصار سيفاستوبول، التي تكفل 35.000 عسكري روسي بحمايتها بقرابة 500 بطارية مدافع. ستبيد جوائح الكوليرا وأمراض، الكوليرا والإسقربوط الذي يسبب تساقط الأسنان والضروس جراء تآكل اللثة، والزحار، والتيفوس، ما يناهز 75.000 جندي بينهم القائد العام للحملة سانت أرنو نفسه، فيما لم تخلف تلك الحرب التي استعملت فيها المدافع والسفن غير 20.000 قتيل في الجانب الفرنسي.

سقطت المدينة فانتهت الحرب بخسارة روسية مدوية لم تكن في حجم أحلام القيصر، الذي اكتشف تطور الأسلحة الفرنسية والبريطانية، وكان ذلك عاملاً حسمها لصالحهم في عناء كبير.

وأما الفيالق الجزائرية الأهلية للرماة المسماة "التيرايور" فقد فقدت 2800 جندي، لكنها خرجت بتنويهات عسكرية كبيرة، بينها أول وسام جوقة استحقاق في تاريخها وقد ناله عريف جزائري يسمى محمد الحاج ولد قدور بعد أن فقد ذراعيه بقذيفة مدفعية الروسية.

4- الشاعر محمد الجزائري في مواجهة ليون تولستوي

لعل جدلاً سيحتدم الآن عبر هذا السؤال الذي قد يطرحه القارئ. ماذا يفعل هؤلاء الجزائريون في صفوف القوات الفرنسية بعد عقدين من استعمار البلاد ولما تنقض غير سبع سنوات عن نهاية مقاومة الأمير عبد القادر الجزائري؟ 

يوم قاتل الجزائريون الروس
الأمير عبد القادر الجزائري 

قد يذهب البعض إلى اعتبارهم مرتزقة، لكن الأستاذ إبراهيم لونيسي، أستاذ التاريخ بجامعة سيدي بلعباس، وصاحب دراسة قيمة عن جزائريّ حرب القرم، نشرت شهر يوليو/تموز 2008 في المجلة التاريخية المغاربية التي تصدرها مؤسسة التميمي، فيلفت النظر عبر "عربي بوست" إلى "ضرورة تفادي الحكم الجزافي دون إلمام بظروف تلك الأحداث التاريخية"؛ إذ ينبغي التأكيد أنه علاوة على هذه الفيالق الجزائرية المجندة في الجيش الفرنسي، التي نالت إعجاب نابوليون، غداة زيارته للجزائر سنة 1860، فطلبها للانضمام بلباسها ونوباتها الموسيقية للحرس الإمبراطوري، لم تكن الوحيدة في تلك الحرب؛ بل شارك فيها متطوعون جزائريون انتقلوا إلى هناك فرادى وجماعات للقتال تحت راية العثمانيين ضد الروس، بسبب عامل مهم هو "العاطفة الدينية"، وهذا ما يلخص في نظره ملاحظة هامة تدور حول "الارتباط الشعبي بالخلافة العثمانية بعد ربع قرن من مغادرتها البلاد"

وطبعاً لم يخلُ الأمر من استغلال فرنسي لتلك العاطفة الدينية لصالحها؛ حيث يجزم "ما من شك، لجأت فرنسا للتوظيف الديني توظيفاً محدوداً دون التمادي فيه خشية تحوله ضدها".

 لذا فقد سادت حالة غليان شعبي كبير على مدار أعوام، فبث الشيوخ خطباً حماسية متعاطفة مع الخلافة العثمانية، الرامزة للإسلام، لا بل إن شاعراً شعبياً هو محمد بن بلقاسم الجزائري نظم قصيدة طويلة من مئة بيت حول تلك الحرب، يقول فيها مطلعها:

انصر علام عبدك أمير المؤمنين..   عبد المجيد ناصر الدين المختار

قاموا جنود الإسلام معه مسبلين..   في نصر دين الرب نفني الأعمار 

ولم يكن وحده، ففي الجانب الروسي كان ثمة جندي شاب، 28 سنة، يحارب ويكتب، ليصدر مؤلفاً سيروي عبره تجربة الإنسان مع آلام الحروب، في ذلك الحصار المشؤوم، عبر مؤلف "قصص سيفاستوبول"، ثم وبعيد سنوات من وحي حرب القرم رواية عالمية هي "الحرب والسلم" ذاك هو الأديب العظيم ليون تولستوي.

***

اليوم، عندما تمر قرب نهر السيم يصادفك جسر دشنه نابوليون الثالث، العام 1856، باسم ألما، تخليداً لانتصاره في حرب القرم، عبر معركة ألما التي لعبت فيها فرقة الزواف دوراً كبيراً، فعند حافته العريضة ينتصب تمثال لجندي زواف بلباس تقليدي جزائري مخلداً ذلك الدور.

أما مغامرة بعض هذه الفيالق والأفواج الجزائرية، مثل الفيلق الثاني للرماة الجزائريين، والفوج الثالث للرماة، فقد استمرت في حروب أخرى مثل الحرب الإيطالية العام 1859، ثم حرب المكسيك بين أعوام 1862 و1867، مروراً بحملة مدغشقر، والحربين العالميتين الأولى والثانية.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

طاهر حليسي
كاتب صحفي جزائري
طاهر حليسي، كاتب صحفي، يعمل حالياً مديراً لمكتب "الشروق" الجزائرية في مدينة باتنة،التحق بالصحيفة عام 2000، بعد تجربة إعلامية كمحرر مزدوج اللغة (عربي فرنسي) بجريدة الجمهور الأوراسي، ثم صحفي كاتب مقالات رأي وتحاليل ومترجم بأسبوعية "الأطلس". عمل رئيس تحرير بعدة صحف أسبوعية منها "الراية" و"الوئام".
تحميل المزيد