قد يبدو هذا السؤال غريباً نوعاً ما، على من سبق لهم أو لهن أن سمعوا عن هذا الفيلسوف، إذ يبدو أنه لا شك عندهم في أن الجواب نعم، غير أنه بعد التمعن في بعض كتابات هذا الفيلسوف المليئة بالرموز يصبح من الصعب المجازفة والجزم بجواب من هذا القبيل، فنيتشه هو مثل كثيرين غيره، ممن أسيء فهمهم، وقُرئت الكثير من أقوالهم خطأ، خاصة تلك المتداولة بكثرة على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي في معظمها يبدو أنها تحط من قيمة المرأة، غير أن الصواب قد يكون غير ذلك لمن يقرأ كتب هذا الفيلسوف بتمعن، وليس موضوع المرأة وحده الذي قد يكون ظُلِم فيه هذا الفيلسوف، بل في مواضع أخرى من مثل الدين، حيث إنه اشتهرت عنه المقولة المشهورة "لقد مات الإله"، كما اشتهرت عنه عبارات أخرى عن المرأة من قبيل المرأة فخ نصبته الطبيعة للرجل، وغير هذا كثير، لكن هل فعلاً كان يقصد نيتشه ما يريد أن يُقوَّل اليوم، أم ترى أن لغته الرمزية والساخرة في أحيان كثيرة كانت تعني أمراً آخر غير ما يُروج عنه اليوم؟
في كتابه هذا الإنسان يفصح نيتشه عن الكثير من آرائه ومعتقداته، وبشكل خاص الحديث عن مواضيع بعض كتبه وسبب تأليفها، وفيها يبدو خطاب نيتشه في كثير من مواضيع الكتاب أقرب إلى اللغة المباشرة منها إلى الرمزية، بخلاف كتبه الأخرى، مثل إنسان مفرط في إنسانيته أو العلم المرح، وأيضاً كتابه الأشهر هكذا تكلم زرادشت، ولهذا يستهلّ كتابه هذا بعبارة "يبدو أنه من الضروري أن أفصح عمّن أكون"، كما أنه تحدّث في كتابه ذا عن بعض الانتقادات التي كانت توجه لكتاباته، وذلك في حينه، ومنها أن القليلين هم الذين كانوا يفهمونه، أو بعبارته هو العباقرة والأحرار هم فقط من يمتلكون القدرة على النفاذ ببصيرتهم إلى فحوى ومغزى ما يعنيه هذا الفيلسوف بكتاباته، وربما قد كان مصيباً هذا الفيلسوف في قوله هذا، فالكثيرون هم من لا يفهمونه، فهناك من يمجده حد جعله صنماً، وهناك من احتقره حد أنه يصفه بالجنون، وقليلون هم أولئك الذين نظروا له بموضوعية، ورأوا أنه مجرد فيلسوف جعلته المحن والآلام التي عاشها يصبح أهم فيلسوف في العصر الحديث، بل ومؤسساً لعهد فلسفي جديد، هو عصر ما بعد الحداثة.
كان لتمكنه من تخصص فقه اللغة، وانتمائه إلى عائلة مسيحية متدينة، وتأثره كذلك بالفيلسوف المشهور شوبنهاور الأثر البليغ على تكوين شخصيته، كما أنه تولدت لديه ملكة قراءة النصوص بطريقة لم يسبقه إليها أحد، بل وسيؤلف كتاباً يحمل عنوان جينالوجيا الأخلاق، والذي سيؤسس به لمذهب جديد في البحث المعرفي، وهو ما أصبح يطلق عليه بالجيولوجيا في العلوم المعرفية المعاصرة، وبتوظيفه لهذا المنهاج أعاد النظر في الإرث المسيحي، وبعد القراءة المتمعنة للتراث الديني المسيحي قرر أن يتخلى عنه، ورأى أنه لا يليق بفيلسوف حر أن يتبنى أخلاق العبيد، بل وأصبح يدعو إلى الأخلاق التي تمجد القوة والشهامة، بدل أخلاق الذل والخنوع التي كانت موجودة في الدين المسيحي، بل إن حاسته المرهفة وتكوينه المتين في الثقافة الإغريقية جعلاه ينظر إلى الواقع بنظرة مخالفة للسائد، وهذا ربما هو ما جعل الكثيرين يتهربون من قراءته، بل وينسجون حوله تخاريف، ولهذا فهو يستهل كتابه هذا الإنسان والذي يعني به نفسه، بقوله "إنني لست بأي حال من الأحوال إنساناً مثيراً للرعب، لست وحشياً أخلاقياً، بل أنا بطبعي نقيض ذلك النوع من الناس الذي تم تبجيله حتى الآن باعتباره فاضلاً".
تحت عنوان لماذا أنا شديد الحكمة يذكر نيتشه ما يلي "لقد مات أبي، أما أمي فتحيا فيّ وتصبح عجوزاً"، المعروف عنه أن والده الذي كان مبشّراً لوثرياً توفي وهو في سنته الرابعة، فقامت أمه وأخته بتربيته، بل أخته ظلت تتكفل به إلى حين وفاته، وخاصة في أيامه الأخيرة حين مرض، ولذلك فهو يشير بهذه الجملة إلى أن أمه تحيا فيه، وربما يعني بذلك أن شخصيتها، بل وربما ثقافتها ظلتا تلازمانه إلى آخر أيام عمره، وإن كان ظل يتذكر أباه، ويرى أنهما كتب عليهما القدر نفس المأساة، ففي السنة التي تُوفي فيها أبوه أصبحت حياته في الانحدار كما يقول، غير أن الشخصية التي طبعته كما تعبر جملته السابقة هي أمه وأخته، هذا في محيطه العائلي، أما فيما يخص علاقاته العاطفية، والتي كتب عنها الكثير، فيذكر أنه كانت هناك نساء كثيرات، تقدم لخطبتهن فرفضنه، وهذا حسب ما يعتقد بعض الكتاب ما جعله يدخل في حالة من الإحباط والاكتئاب، غير أن هذا الأمر قد يكون مبالغاً فيه، فصحيح أن للظروف التي عاشها دوراً في تقلب مزاجه، غير أن ما ينبغي أن يذكر في هذا السياق أنه مثل أستاذه شوبنهاور لم يكونا سوداويين بالمعنى السلبي للكلمة، وإن كان هو نفسه يظل يردد ذلك، غير أن من يقرأ كتابه "هكذا تكلم زرادشت" يكتشف أن فيلسوفاً يمتلك إشعاعاً من الطاقة الإيجابية في داخله، يبعد أن يكون سوداوياً، أو مكتئباً، صحيح أنه كانت تعتريه حالات من التقلب المزاجي بسبب مرضه، لكن ذلك لم يكن ليؤثر على حالته النفسية، ورؤيته للواقع، ويجعل رؤيته له مشوهة.
خاض نيتشه غمار تجربة عاطفية كان يأمل أن تتوج بالزواج، غير أن جواب الفتاة الروسية لو سالومي، الفيلسوفة والروائية والمحللة النفسية، كان الرفض، ولم يكن نيتشه وحده الذي عشق هذه الفتاة، بل عشقها فيلسوفان آخران، هما ريلكه وفرويد، أعجب نيتشه بشخصية هذه الفتاة، ويصفها بأنها كانت حادة الذكاء، وأنه لم ير امرأة مثلها، كما أنها كانت ملهمته في كثير من كتاباته، وبشكل خاص كتابه هكذا تكلم زرادشت، كما أنها كانت ملهمة الفيلسوفين الآخرين، وهما فرويد وريلكه، كما أن نيتشه أشار لها في غير ما موضع من كتبه، ووصفها بعبارات بليغة ومنمقة، تدل على إعجابه بشخصيتها، بل وهيامه في حبها، وربما هي المرأة الوحيدة التي اعتقد نيتشه أنها النموذج الفريد الذي يصلح لأن يتزوجه، فهل يكون اضطراب علاقات نيتشه بالنساء هو من جعل أقواله متناقضة بشأنهن، يبدو أن ذلك مستبعد، فنيتشه يعشق نوعاً واحداً من النساء.
بالعودة للكتاب المشار إليه سابقاً "هذا الإنسان"، وتحت عنوان لماذا أكتب كتباً جيدة، يبدي نيتشه رأيه في الحب، وفي النساء أيضاً، يعتقد أنه يعرف النساء حق المعرفة، وأن الرجل يجب أن يتميز برباطة الجأش والصلابة، ليكون قادراً على أن يحب، وفي اعتقاده أن هذا هو النوع المفضل لدى النساء، أو يكون حسب رأيي هذا هو النوع المفضل لدى لو سالومي، التي هام في عشقها نيتشه، والتي كانت مسترجلة أكثر منه، كما تذكر بعض المصادر، فنيتشه منسجم مع أخلاقه، فهو لا يحب المرأة الضعيفة الخانعة، بل يحب المرأة القوية، الشجاعة، كما أنه لا يحب المرأة الفاشلة، بل يرى أن دعاة الحرية والمطالبة بحقوق مساوية للرجال هن الفاشلات، ويقصد بهن الفاشلات في إنجاب الأطفال، يرمن ذلك بغية التغطية عن حقيقتهن بتسميم ضمير الأخريات، وما ذلك إلا علامة المرض لديهن، حسب رأيه، فالمرأة الحقيقية في اعتقاده "هي تلك التي ترفض رفضاً باتاً أي صنف من أصناف الحقوق، فالطبيعة والحرب المستمرتين بين الجنسين يضمنان لها التفوق بكل سهولة"، ويسمي هذا الأمر بالأنثوي الخالد، وأنه أول عالم نفس يُعنى به.
وأما تعريفه للحب فيبدو أنه غريب كذلك، فهو يرى أن هناك تعريفاً فريداً ومتميزاً ينبغي أن يحظى به الفيلسوف، فيرى أن الحب هو "حرب يخوضها كل وفق إمكاناته، أما جوهره فهو الحقد الذي يكنه كل جنس للآخر"، قد يبدو أن نتشه متناقض في أقواله بشأن المرأة والحب، والدين، والأخلاق… غير أن هذا الالتباس قد يزول لمن يقرأ نيتشه في سياقه، فصحيح أنه ينكر الدين، لكن السؤال الذي ينبغي أن يطرح هو: هل ينكر جميع الأديان، بل على العكس فهو يرى أن هناك فائدة للدين، كما بيّن ذلك في مقال في كتابه إنسان مفرط في إنسانيته، وهل فعلاً هو يكره النساء، أم أنه فقط يكره نموذجاً معيناً منهن، والذي يبدو من خلال حياته العائلية أو العاطفية أنه كان معجباً بالنساء، وأن لهن عليه فضلاً، فبدءاً من أمه وأخته اللتين قامتا بتربيته، ومن بعد برعايته، مروراً بعشيقته التي ألهمته وجعلته يكتب أفضل كتبه، غير أن نيتشه يحتاج إلى قاموس لقراءته وفهمه، وليس مجرد قراءة عابرة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.