البلقان.. “برميل بارود” أوروبا

عدد القراءات
984
عربي بوست
تم النشر: 2022/03/10 الساعة 12:44 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/03/10 الساعة 14:43 بتوقيت غرينتش

""لماذا يا علي؟ لماذا لم تخبرنا بأن الصرب قادمون؟

كان ذلك عتاباً خفيفاً للقائد البوسني الراحل، علي عزت بيغوفيتش، خلال اجتماع مع مجموعة من نخبة مسلمي البوسنة "البوشناق"، بعد أشهر من اندلاع حرب البوسنة (1992-1995).

مردّ السؤال في الواقع أن أحداً في سراييفو، ربيع عام 1992 الكئيب، لم يكن يتوقع أن ما حدث بالفعل، كان ليحدث.

كيف أجاب "عزت بيغوفيتش"؟ سأجيب على هذا لاحقاً، لكن المهم أن عليّاً أدى ما عليه ورحل، وبقي على البوشناق الحفاظ على ما أنجز، وهي مهمة لا تقل صعوبة، وستواجه، عاجلاً أو آجلاً، اختبارات ربما تكون أكثر دموية.

هل تعلم البوشناق دروس الماضي؟

تعلم البوشناق ذلك الدرس؛ إذ يحاول بعضهم الحفاظ على حالة الاستعداد الدفاعي، في النطاق المحدود المتاح، فيما أصبح كل خطر قريب أو بعيد يدفع عموم الشعب إلى ترقُب الأسوأ.

لكن قيود اتفاقية "دايتون" في المقابل تضع أمام ساسة البوشناق خياراً واحداً للحفاظ على كيانهم ووجودهم: استجداء الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة.

نعم، هي أمريكا نفسها التي دفعت أوكرانيا إلى الهاوية.

هذا الدرس تحديداً لم يتعلمه البوشناق، لكن لا خيارات أخرى أمامهم.

عام 1992، عندما كان الغرب في قمة زهو انتصاره بالحرب الباردة، وتفكيك المعسكر الشرقي، اكتفت واشنطن ورفيقاتها الغربيات بمراقبة أعمال القتل والتشريد في البلقان، ولم تتدخل حتى وصلت الحرب إلى منعطفها الأخير، لتقوم هي في النهاية بهندسة "السلام" وإعادة رسم خريطة المنطقة.

مجدداً، يستبعد قطاع كبير من البوشناق حرباً أخرى قريباً، لكن دويّ صفارات الإنذار في أوكرانيا يُحيي في الأذهان ذكريات مؤلمة.

أضف إلى ذلك أن الكثير من عناصر "وصفة الحرب" راسخة في البلاد، بفضل هدية "دايتون".

لم تؤسس اتفاقية السلام لدولة مدنية بسيادة مستدامة، بل رسمت صورة بشعة تشوّه ملامحها شقوق عرقية ودينية ومناطقية، مع وصاية خارجية، على شاكلة معاهدات "الانتداب" الاستعمارية القديمة.

فهل تلقي روسيا أخيراً شعلة من نار أوكرانيا، وتفجر برميل بارود البلقان؟

في العمق، يعاني البوشناق من معضلتين رئيسيتين، أولاهما التطرف والتشنج الشديدين لدى صرب البوسنة، والمخاوف من أن تقدم روسيا على تحريكهم لشن حرب جديدة، وضرب استقرار أوروبا من خاصرتها الجنوبية الشرقية، في إطار الصورة الكبيرة لمواجهة موسكو مع الغرب.

أما المعضلة الثانية فهي عبث كرواتيا بالسياسة الداخلية للبلاد، على أمل تحقيق حكم ذاتي لكروات البوسنة في بعض المقاطعات التي يشكلون أغلبية سكانها، على غرار إقليم صرب البوسنة، وهو عامل أقل خطورة، ما دامت "دايتون" توفر لمكون بالكاد يمثل 15% من السكان فرصة المشاركة بالحكم.

قنبلة الديموغرافيا

أصبحت تلك النزعات أكثر تطرفاً في السنوات الأخيرة مع ارتفاع نسبة المسلمين، وتآكل المكونين الصربي والكرواتي، مقارنة بما كان عليه الحال قبل الحرب وبعدها.

في الواقع، فإن المسلمين هم من بات يحق لهم الاعتراض على "دايتون"، التي قامت على أساس المساواة، إلى حد كبير، بين المكونات الثلاثة، على اعتبار أن أياً منها لا يتمتع بأغلبية ساحقة.

عام 2013، أجرت البوسنة والهرسك أول إحصاء سكاني منذ الحرب، لكن إعلان النتائج المتعلقة بالمكونات العرقية تأخر ثلاثة أعوام كاملة، جراء اعتراضات صربية.

مقابر ضحايا البوسنة في حرب البلقان

أخيراً، تم الإعلان عن النتائج؛ المسلمون أصبحوا أكثر من نصف السكان في بلد رسموا حدوده بدمائهم، فيما تراجعت نسبة الصرب والكروات إلى 30.8 و15.4%، على الترتيب.

حالة قلق شديد عاشها البوشناق خلال تلك السنوات، جراء الخشية من ردة فعل المتطرفين الصرب.

بأي منطق تخشى الأغلبية من أغلبيتها؟ إنها لعنة "دايتون".

ومع ذلك، يواصل البوشناق التمسك بالاتفاقية أكثر من غيرهم، ففي النهاية، لدى الصرب والكروات من يقف معهم في الجوار، فيما المسلمون محاصرون.

الصدمة الكبرى لصرب البوسنة، على المستوى الديمغرافي، تتمثل في عودة البوشناق المهجّرين، وإن بوتيرة بطيئة، إلى قرى ومدن الشرق والشمال، ضمن حدود "الجمهورية الصربية"، ما يشكل "تهديداً" على المدى البعيد، ويدفع إدارة الإقليم تبني قوانين تعسفية بحق المسلمين، تمس حرياتهم الدينية تحديداً.

تشكل الديمغرافيا قنبلة موقوتة في البوسنة، لا سيما أن المسلمين لم يصبحوا أغلبية وحسب، فقد تمكنوا من التحقيق العديد من الإنجازات على المستوى الاقتصادي خلال العقدين الماضيين بفضل السياحة والاستثمار في سراييفو وغيرها من المدن الرئيسية، وهي قفزات كبيرة بالنسبة لبلد تنهشه البطالة ويفتقر إلى الموارد.

في المقابل، يعيش أغلبية الصرب في إقليمهم تحت وطأة الفقر والبطالة، ويأتي الجزء الأكبر من معوناتهم الاجتماعية من الضرائب التي يدفعها البوشناق في سراييفو وزينيتسا وتوزلا وبيهاتش وغيرها.

كوسوفو ووحدة المصير

مع ازدياد المسلمين وازدهارهم "النسبي"، يزداد اهتمام صرب البوسنة بالانفصال عن سراييفو والالتحاق ببلغراد، لكنَّ عاملاً آخر يلقي بظلال أكثر كآبة، وهو سعي إقليم كوسوفو، ذي الغالبية الألبانية الساحقة، للانفصال عن صربيا.

يهدد عموم الصرب في البلقان بانتزاع إقليم الجمهورية الصربية الذي يشكل نصف مساحة البوسنة والهرسك، في حال اعترف المجتمع الدولي، وسراييفو تحديداً، بانفصال كوسوفو عن بلغراد، وهو الإقليم الذي يشكل، بحسبهم، عمقاً تاريخياً للهوية الصربية الأرثوذوكسية.

مواطن بوسني في أحد شوارع البلاد وآثار الحرب بادية

صحيح أن ذلك يبث الذعر في المدن البوشناقية كلما حدث تطور ما في ملف كوسوفو، لكنه في الوقت ذاته أدى إلى وحدة مصير بين عموم المسلمين في البلقان، على اختلاف عرقياتهم وتوزعهم الجغرافي، بعد عقود من الانفصال التام بفعل سياسات يوغوسلافيا السابقة من جهة، وانغلاق ألبانيا إبان ديكتاتورية "أنور خوجا"، من جهة ثانية.

اليوم، وجراء ربط الصرب أنفسهم بين مصير كوسوفو وإقليم صرب البوسنة، فإن المنطقة كلها قد تشهد انفجاراً على جبهات متعددة، تتجاوز حدود البوسنة والهرسك وكوسوفو.

فالألبان يشكلون نحو ثلث سكان مقدونيا، ويزدادون بوتيرة سريعة، فيما ألبانيا الأم تشهد صحوة قومية إسلامية غير مسبوقة، والبوشناق بدورهم يتواجدون أيضاً بقوة في كل من صربيا والجبل الأسود، وسط طموح كبير لديهم بإعادة رسم حدود إقليم "السنجق" الذي تم اقتسامه بين بلغراد وبودغوريتسا، لدى نيل الأخيرة الاستقلال عام 2006.

صحيح أن صربيا الأم تتمتع بالقوة العسكرية الأكبر في المنطقة، لكن تجارب البوسنة وكوسوفو تشير إلى أن انفجاراً كبيراً في البلقان سيؤدي إلى هزيمة ساحقة للمكون الصربي على مختلف الجبهات، لا سيما أن بلغراد تعاني اقتصادياً وسياسياً، وتبعد آلاف الأميال عن موسكو، سندها الحقيقي الوحيد.

جبهة بين روسيا والناتو

وبالحديث عن موسكو، التي نقلت مواجهتها مع الناتو بقيادة واشنطن إلى شفير الهاوية مؤخراً، فهي تحارب اليوم في أوكرانيا، وعينها الأخرى مثبتة على البلقان.

صواريخ جافلين المضادة للدبابات تصل أوكرانيا/getty images

لقد كان لافتاً إشارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في خطاب إعلان الحرب على أوكرانيا، إلى إقليم كوسوفو، في سياق حديثه عن "نفاق الغرب"، الذي يدعم انفصال الألبان عن صربيا، فيما يقف ضد طموحات أقليات أخرى في أوكرانيا وجورجيا وغيرهما.

ساكن الكرملين محق تماماً، لكنه يمارس الازدواجية ذاتها في إطار تجاذب الكبار، الذي يأتي في النهاية على حساب الشعوب.

حديثه عن كوسوفو والبلقان في سياق إعلان الحرب على أوكرانيا قد يشير إلى احتفاظه بورقة إشعال الجبهة الجنوبية الشرقية لأوروبا، في حال تعثر على الساحل الشمالي للبحر الأسود.

فهل يكون ذلك التحرك، إن تم، في كوسوفو أم البوسنة؟

للإجابة على هذا السؤال علينا أن نرى أولاً ما يريده صرب صربيا.

الساحة الأكثر أهمية بالنسبة لبلغراد هي كوسوفو، فصرب البوسنة وضعهم مضمون بموجب اتفاقية دايتون، التي يريد البوشناق أكثر من غيرهم الحفاظ عليها.

أما كوسوفو، التي باتت نحو 51٪ من دول العالم تعترف بها، فوضعها على المحكّ.

كما أن قدرة موسكو على تحريك بلغراد تتراجع بانتظام، بينما تزداد في صربيا أصوات من يريدون الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

لكن تلك النزعة الصربية نحو الغرب تتوقف عند الحديث عن كوسوفو.

عام 2017، أظهر استطلاع أن أكثر من 51٪ من الصرب يريدون الانضمام للاتحاد الأوروبي، لكن أكثر من 70٪ منهم قالوا إنهم لن يرغبوا بذلك، إذا كان الثمن هو الاعتراف بانفصال كوسوفو.

لكن حرباً في كوسوفو ستحرك الألبان في ألبانيا ومقدونيا، من جهة، والقوميين الصرب في مقدونيا أيضاً، بالإضافة إلى الجبل الأسود، من جهة ثانية، وثلاثتها دول أعضاء في الناتو، ما سيدفع الحلف إلى التدخل مباشرة، وربما العودة إلى قصف بلغراد كما حدث عام 1999، وحسم المعركة من بدايتها.

هذا في حال لم تنتقل نيران الحرب إلى البوسنة، ودفعت كرواتيا، العضو أيضاً في الناتو والاتحاد الأوروبي، إلى التدخل.

في ظل هذا المشهد، فإن حسابات موسكو في كوسوفو أكثر تعقيداً، وقد تؤدي حرب هناك إلى إخراجها من المنطقة تماماً.

تدرك بلغراد ذلك جيداً، وهو ما يدفعها إلى المناورة مع الغرب الذي يحاصرها، والانحناء أمام العاصفة الحالية، كما ظهر في تصويتها بالأمم المتحدة لصالح إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا.

ماذا عن خيار إشعال جبهة البوسنة؟

أما في حال لجوء موسكو لخيار تحريك صرب البوسنة المتطرفين للانفصال بإقليمهم عن سراييفو، مع حرص على أن تبقى المعركة في نطاق حدود البوسنة والهرسك، فإن تدخل الناتو غير مضمون، بل وقد يسعى إلى ضبط تحرك الألبان في عموم المنطقة، وسيكون على البوشناق القتال وحدهم.

وهنا، أعود إلى اجتماع علي عزت بيغوفيتش مع رفاقه في ذلك اليوم من عام 1993.

لماذا قلت يا علي: ناموا بسلام، لن تحدث حرب؟

أجاب علي، واختصر هنا: قررت أن أبث رسالتين؛ المعلنة إلى السلطات الصربية والمجتمع الدولي، بأننا معنيون بالسلام، والثانية إلى اللجنة الوطنية، مفادها أن أجمعوا السلاح واستعدوا. وبدأنا بذلك منذ منتصف عام 1991. الحديث عن الحرب كان سيعرضنا للاعتقال، فيما كان علينا أن نظهر وجهاً مسالماً أمام المجتمع الدولي، واليوم نقاوم على كل الجبهات بفضل استعدادنا السري المسبق.

نعم، على البوشناق أن يستعدوا للأسوأ، ولن ينفعهم الاتحاد الأوروبي الضعيف، ولا الناتو الذي تقوده واشنطن، غير العابئة بمصائر الملايين من البشر.

على البوشناق أن يتذكروا كيف ساهم المجتمع الدولي بمذبحة سربرنيتسا، وكيف ضربت الولايات المتحدة والناتو قوات البوشناق المتقدمة، في ذلك الوقت، بقيادة الجنرال عاطف دوداكوفيتش، نحو عاصمة صرب البوسنة، بانيالوكا، في الفصل الأخير من الحرب.

قامت واشنطن بكل ذلك لوقف زخم الانتصار وانقلاب المعادلة بعد سنوات من المقاومة والصمود، ولإجبار علي عزت بيغوفيتش على توقيع "دايتون" والإبقاء على جذور الاضطراب قائمة في هذا البلد المُتعب.

حسابات الربح والخسارة لدى روسيا وصرب البوسنة المتطرفين، الذي يقاتلون حالياً كمرتزقة في أوكرانيا؛ لا تصب في صالحهم، لكن الجنون الذي دفع بوتين إلى غزو كييف قد يصل مداه إلى قلب سراييفو.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد العابد
صحفي وباحث
تحميل المزيد