صار من الأعراف السياسية التقليدية، والتي باتت شبه إلزامية في العقود الأخيرة، أن يصاحب كل تغيير أو محاولة تغيير سياسي خارطة طريق، تجلي الأوهام وتزيح الشكوك وترسم طريقاً واضح المعالم لخطى تنفيذية يقوم بها الساسة؛ للوصول إلى الاستقرار السياسي ووقف الاقتتال الأهلي إن وقع.
على سبيل المثال، إذا وقع انقلاب عسكري في دولة هنا أو هناك أو أصبح الرئيس غير قادر على ممارسة مهامه لأي سبب كان، ينسى الدستور؛ إذ يقوم المنقلبون أو الرئيس الجديد بتعطيل الدستور أو إلغائه وعرض خارطة طريق عادة ما تكون بإعلان دستوري مؤقت يحكم البلاد، أو وثيقة دستورية يكون فيها الوضع صياغة دستور ثم انتقال لمرحلة عقد الانتخابات بأنواعها وهكذا.
في ليبيا، أعلن المجلس الوطني الانتقالي المناوئ للرئيس الليبي السابق معمر القذافي إعلانا دستورياً وكلف حكومةََ انتقالية تهيئ الأجواء لانتخابات برلمانية، لكن بعد ذلك سادت فوضى يطول سردها.
بعد نهاية الاقتتال والاحتراب في ليبيا وأمام أزمة دستورية عنوانها انقسام برلماني وحكومي ورئاسة متنازع عليها بين فايز السراج وعقيلة صالح وغيرهما من السياسيين والعسكريين، عقد "مؤتمر برلين" الذي حدد مساراته الخمسة والتي منها الدستوري والسياسي، ونظراً للاختلاف العميق بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة انبثقت لجنة "الحوار السياسي الليبي" أو لجنة "الـ 75" وأنتجت بعد ذلك "خارطة طريق" من اجتماعات استضافتها تونس، والتي كان أحد مساراتها انتخاب حكومة ومجلس رئاسي.
خارطة الطريق تبين أن السلطة التنفيذية تكون على الحياد ولا تشارك في الانتخابات- وهذا ما تم خرقه لاحقاً- وتقيم الانتخابات بين المتنازعين لغرض تجديد الشرعية وهذا ما لم يحصل أيضاً.
انهيار خارطة الطريق يعني أنه لا مفر للمستقبل إلا أمران، أولهما الاحتراب الأهلي حتى يقضى الله أمراً كان مفعولاً، وآخرهما هو التيه والفراغ والفوضى حتى تقوم الحرب من جديد.
حكومة الوحدة الوطنية فشلت في إقامة الانتخابات لعدة أسباب يطول ذكرها، وباعتبار أنها السلطة التنفيذية المسؤولة فهي تتحمل مناقب ومثالب الأمور على علَّاتها، ومن أبجديات السياسة أيضاً أنه لابد من أن تكون هناك حكومة تقيم وتشرف على الانتخابات مثلما حدث في لبنان بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري وتولي "حكومة ميقاتي" مسؤولية إجراء الانتخابات 2005 أو "حكومة حمدوك" بالسودان أو "حكومة الكاظمي" بالعراق.
كما أنه من الأبجديات السياسية أيضاً أن تبسط هذه الحكومة المناط بها إجراء الانتخابات سيطرتها على كافة أرجاء البلاد لضمان التنفيذ السليم وتطبيق معايير النزاهة والشفافية، وهذا ما افتقرت له حكومة الوحدة الوطنية، بعدم قدرتها على بسط سيطرتها في الشرق والجنوب وأصبح إجراء الانتخابات ضرباً من ضروب الخيال.
خارطة الطريق التي عرضها رئيس الحكومة، عبدالحميد الدبيبة لم تلق تفاعلاً من البعثة الدولية ولا من الأطراف التشريعية؛ لأن الانتخابات البرلمانية وحدها ليست الحل، فالمسار الذي رسمه مؤتمر "برلين" ينص على عقد انتخابات رئاسية وبرلمانية بالتزامن وفقاً لأساس دستوري.
ومقترح التصويت الإلكتروني أو عن بُعد لا يمكن تطبيقه لأن البنى التحتية الالكترونية تكاد تكون منعدمة في ليبيا، ناهيك عن عدم ترحيب الدوائر شعبياً بالمبادرة وعدم التفاعل معها، وكأن المراد منها مجرد كسب الوقت فقط لا غير.
خارطة الطريق التي أقرها البرلمان بالتوافق مع مجلس الدولة تظل الأكثر واقعية، فمعالجة إشكاليات السجل المدني واستعادة المفوضية العليا لتوازنها ودورها تحتاج المدة التي أقرتها لجنة خارطة الطريق من المجلسين، أيضاً تعني خارطة الطريق تغيير السلطة التنفيذية لسبيين؛ الأول أن حكومة الوحدة الوطنية أصبحت طرفاً من أطراف الصراع، وثانيها أن الخدمات أصبحت ضرورةََ للحفاظ على الاستقرار والوفاق النسبي بين الليبيين والمحافظة على وقف إطلاق النار.
وآخرها أن الحكومة التي يُفترض أن تجري الانتخابات وقت النزاع من المطلوب حيادها، وهذا ما أكده فتحي باشاغا، رئيس الحكومة الليبية، في مناسبتين بالبوح صراحة وتعهده بعدم الترشح للانتخابات القادمة التي ستجريها حكومته- إن وفقها الله-.
يبقى الطريق للوصول لخارطة طريق أمراً متعباً ومضنياً شهدناه من خلال ملتقى الحوار السياسي في تونس وجنيف، ومن خلال لجنتي التوافق بين المجلسين حينما صاغتا خارطة الطريق الحالية ضمن الإعلان الدستوري الأخير، فالهدوء وعدم التصعيد والرغبة في التوافق والصدق في النوايا مطلوب وإلا فإننا سنحتاج إلى أضعاف مضاعفة من الوقت ومن هذه الجهود لوصول لتوافق جديد قد لا تتأتي ظروفه كما تأتت اليوم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.