لا شكَّ في أن الحرب الكارثية التي يشنها بوتين على جارته أوكرانيا لها أسباب تخصه هو شخصياً بوصف مكسب الحرب مجداً شخصياً يحسب له، وأسباب أخرى تخص روسيا بصفتها دولة كبيرة تريد إعادة سيطرتها على الأراضي التي كانت في يوم من الأيام جزءاً لا يتجزأ من الاتحاد السوفييتي. وأياً كانت دوافع الحرب أو نتائجها، فإن فيها دروساً وعبراً لنا نحن العرب.
"الكبير كبير"
أثبتت روسيا أنها ما زالت دولة كبيرة، وأن ضعف اقتصادها تعوضه ترسانتها الحربية الضخمة وأمنها السيبراني، أي قوتها في ردع أي عدوان إلكتروني من شأنه أن يهز شبكة الإنترنت بها أو يعطل خدمات حيوية مثل المعاملات البنكية وأنظمة تسيير القطارات والمطارات وخلافه. ولأن "الكبير كبير" فقد اتخذت روسيا قرار غزو أوكرانيا وتأديبها -من وجهة نظرها- لأن نظامها السياسي بات يغرد خارج السرب السوفييتي ويسعى للانضمام لحلف شمال الأطلسي (الناتو)؛ ما يهدد أمن روسيا ويضع حلف الناتو المعادي على حدودها.
بدأ هذا الغزو وأعلنه بوتين على التليفزيون وكأنه يعلن عن منتج جديد لشركة منظفات أو منتجات ألبان، بلهجة عادية خالية من التشنج وعلو الصوت الذي يناسب إعلان الحروب، وكأن الحرب على أوكرانيا عمل عادي تقوم به روسيا كل يوم. لم يكتفِ بوتين بهذا، بل هدد كل من يفكر في الاشتراك في الحرب بأن روسيا ستتصدى له بكل قوة.
"المتغطي بالأمريكان عريان"
لم يجرؤ أحد على قول كلمة مساندة فعلية لأوكرانيا التي باتت تحت سيطرة الجيوش الروسية تماماً. كل ما قالته أو فعلته أمريكا لا يخرج عن إطار "ولولة الولايا" ولا يعد مساندة حقيقية لأوكرانيا، خلاف ما ظنه الرئيس الأوكراني الذي بات "يولول" هو الآخر ويستجدي أمريكا دون أن يلقى إلا كلمات التعزية من الإدارة الأمريكية.
وبالنسبة للعقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة على روسيا، فلا يتوقع أن تكون بالتأثير الذي يُثني روسيا عن تكملة الحرب حتى تتحقق الأهداف التي اندلعت من أجلها؛ لأن بوتين وإدارته بدأ منذ عام ٢٠١٤ في التخفيض التدريجي لاعتماد المؤسسات الروسية على الاقتصاد الأوروبي والأمريكي، واحتفظ بمئات المليارات من الدولارات (ما يقرب من 630 مليار دولار وفقًا لـ BBC) تحسباً لأية عقوبات تُفرض على روسيا، ناهيك عن أن العالم كله ما زال بحاجة للبترول الروسي ولا يتوقع أبداً أن تفرض عليه عقوبات؛ لأن هذا سيزيد من أسعار البترول عالمياً أكثر وأكثر، وهذا آخر ما تريده أمريكا.
فهل يكف العالم العربي عن الاعتماد المطلق على أمريكا التي لا ترى فيه غير "برميل بترول" تسعى لاستبداله بطاقة الكهرباء والرياح والشمس؟ وهل نتعظ بما حدث لأوكرانيا وتتكاتف الدول العربية وتنزع ما بينها من خلاف وتؤهل جيوشاً حقيقية؟ وهل تساهم الدول العربية الغنية في مراكز بحثية محترمة داخل الدول العربية التي تمتلك كفاءات عقلية تمهيداً لاختراع وتصنيع أسلحة حربية عربية خالصة حتى لا تضطر لدفع مليارات الدولارات لاشتراء أسلحة أمريكية يمكن لأمريكا تعطيلها عن بعد إذا قررت أي دولة عربية استخدامها في غرض لا توافق عليه الإدارة الأمريكية؟
بدائل القمح الروسي والأوكراني
تستورد دول عربية كثيرة احتياجاتها من القمح من روسيا وأوكرانيا، ومصر بصفة خاصة تستورد ٩٠٪ من احتياجاتها من القمح من هاتين الدولتين. والآن -بعد فرض عقوبات اقتصادية على روسيا والدمار الذي لحق ويلحق بأوكرانيا- من المتوقع أن تتأثر عملية الاستيراد هذه ولا توجد أمام الدول العربية المستوردة غير القمح الأمريكي أو الفرنسي، وقد يكون أغلى سعراً. والمهم هنا هو أننا لا خيار لنا -في هذه الأزمة- غير الطريق الأمريكي أو الأوروبي، أي التبعية لأمريكا وأوروبا في الغذاء مثل التبعية لها في السلاح.
فهل تعتبر الدول العربية بما يجري وتفكر في حلول طويلة الأمد؟ أول تلك الحلول الإفادة بترسانة البحوث التي لديها في كليات الزراعة ومراكز البحوث الزراعية وبحوث الصحراء، ودعم الفلاحين برفع أسعار القمح تشجيعاً لهم على زراعته بدلاً من زراعة خضراوات وفواكه تدخل في باب الترفيه لا الغذاء، والتنسيق بين الدول العربية التي لديها الماء والأراضي الصالحة للزراعة والعمالة (مثل مصر والسودان) لزراعة أكبر قدر ممكن من القمح لتكفي الدول العربية جميعاً، والبدء في زراعة محاصيل أخرى لا تحتاج لكميات كبيرة من الماء (مثل الشعير). وإن فشلت كل هذه المحاولات، فأضعف الإيمان هو أن تنوع الدول العربية مصادر الاستيراد حتى لا تكون تحت رحمة دولة أو دولتين.
ربما تكون هذه قراءة متعجلة للوضع الراهن، لكن يبدو لي أن هذا غيض من فيض الدروس التي يمكن أن تعتبرها الأنظمة العربية من الحرب الدائرة في أوكرانيا، أو هي مجموعة من الأحلام القديمة الجديدة والمستقبلية، ونتمنى أن نراها تتحقق في يوم من الأيام.
ونهاية.. نسأل الله أن يرحم المستضعفين الأبرياء في أوكرانيا وكل مكان.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.