ذاب جليد أوكرانيا بأسرع مما كانت ترجوه روسيا، وبدأت مشاهد "تغريز" مدرعاتها العملاقة في الوحل تثير السخرية.
بالتأكيد روسيا أكبر من أن يعيق جيشها بعض الوحل، لكن من بشَّروا بالغزو منذ البداية هم من ربطوا موعده بهذا العامل "المهم".
روسيا سقطت في الوحل بالفعل، لكنه وحل يشمل كل أوكرانيا، وما وراء أوكرانيا.
لا يتعلق الأمر هنا بالعقوبات الغربية والمقاومة الأوكرانية وحسب، فمعادلة الهيمنة الروسية على مساحات واسعة في آسيا وأوروبا أصبحت على المحك.
يُجمع المراقبون على أن موسكو لطالما حظيت بنفوذ كبير في أوكرانيا، لا يقل عن نفوذها في جمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز، لولا أنها مجاورة للاتحاد الأوروبي، ومطلّة على البحر الأسود، ومنه إلى المياه المفتوحة.
انتقلت عدوى الديمقراطية إلى أوكرانيا من جيرانها الغربيين، وبدأت تخرج تدريجياً الطوق، حتى حانت لحظة الحقيقة عام 2014.
كان أمام ساكن الكرملين آنذاك خياران: إما شن غزو خاطف نحو كييف تحت عنوان "حفظ السلام"، كما فعل مؤخراً في كازاخستان، بحجة إعادة الأمور إلى نصابها، أو ضبط النفس ومحاولة استعادة النفوذ بهدوء في بلد كان ساسته، وربما لا يزالون، يلعبون على أساس قواعد "الصفقات المشبوهة".
فلاديمير بوتين اختار طريقاً آخر لا ينمّ إلا عن فقدان الثقة باستعادة السطوة على كييف، وهو انتزاع أهم بقعة استراتيجية على البحر الأسود؛ شبه جزيرة القرم، وتأجيج النزعة الانفصالية في إقليم دونباس، شرقي أوكرانيا، على أمل التهامه في نهاية المطاف، وتعزيز أمن بوابة القوقاز الاستراتيجية.
من البديهي أن يؤدي ذلك إلى تعزيز النزعة القومية المناهضة لروسيا في الغرب الأوكراني.
ثماني سنوات مرت منذ ذلك الحين، عززت فيها كييف تموقعها مع الغرب على حساب روسيا، وسلّحت جيشها، فيما كان بوتين يرسل، كل شتاء، عشرات الآلاف من جنوده مدججين بعدة الغزو كاملة، لإجراء مناورات عسكرية على الحدود الأوكرانية.
لماذا أطلق بوتين رصاصة الرحمة؟
هل دفعه الأمريكيون إلى الفخ؟ أم أنه رأى أن مخاوفه الأمنية لم تعد تحتمل؟ أم بلغت روسيا بالفعل مستوى من القوة يتيح لها تحدي الغرب وترسيخ قواعد جديدة – قديمة للنظام العالمي؟
نتيجة المعركة في نهاية المطاف ستجيب عن هذا السؤال، لكن تفاعلات تجري الآن في محيط روسيا الحيوي تنبئ بأن بوتين أجرم بحق روسيا.
لنبدأ من أقصى الشرق، الرئيس القرغيزي، سادير جابوروف، أعلن لدى بدء الغزو الروسي وقوفه مع موسكو، وتفهمه لدوافع التحرك العسكري، وهو موقوف مفهوم من قبل دولة تخشى من أن تلتهمها الصين المجاورة.
لكن ثلاثة أيام فقط كانت كافية لتعدل قرغيزيا موقفها، حيث أصدرت وزارة الخارجية بياناً أكثر حياداً.
إلى القلب من وسط آسيا؛ حيث أكبر دولة من حيث عدد السكان في المنطقة، أجرى الرئيس الأوزبكي شوكت ميرزيوييف اتصالاً بنظيره الروسي في 25 فبراير/شباط الماضي، ليسارع الكرملين إلى إصدار بيان يقول فيه إن ميرزيوييف أعرب عن تفهمه لدوافع التحرك العسكري.
لكن الرئاسة الأوزبكية أصدرت بياناً في اليوم التالي، جاء فيه خلاف ذلك، موضحة أن الرئيس أكد حياد بلاده وبأنه "يدعم أولوية المعايير الدولية في تنظيم وتهدئة الوضع".
أكثر من ذلك، لم تلتزم أوزباكستان الصمت إزاء مشاركة عدد من مواطنيها بالقتال إلى جانب الجيش الروسي، حيث أعلنت أنها ستلاحقهم وتنزل بحقهم عقوبة السجن.
حتى كازاخستان، جارة روسيا وبوابتها نحو عموم المنطقة وقاعدة انطلاق صواريخها إلى الفضاء، أعلنت أخيراً الحياد، رغم تعرضها للتو لتدخل عسكري روسي خاطف.
التزمت كل من طاجيكستان وتركمانستان الصمت، لكنهما لم تقفا في صف روسيا لدى التصويت على إدانة غزو أوكرانيا بالجمعية العامة للأمم المتحدة قبل أيام، حيث لم تجد موسكو إلى جانبها إلا سوريا وكوريا الشمالية وبيلاروسيا وإريتريا.
هل فقدت روسيا سطوتها على الرفاق السوفييت السابقين في وسط آسيا؟
بالتأكيد لا، فتلك الدول المعزولة هناك بحاجة إلى موازنة علاقاتها مع العملاقتين؛ روسيا والصين، فيما الغرب يبعد آلاف الأميال.
لكن سياسات روسيا يبدو أنها ستختصر المسافات عاجلاً أو آجلاً، فيما الولايات المتحدة تعمل بنشاط لاختراق منطقة ستكون محورية يوماً في إطار استراتيجية محاصرة الصين.
دعنا من كل شيء آخر، ولنستمع إلى ما يقوله الأمريكيون أنفسهم عن نشاطهم هناك؛ فكل عام تشهد الولايات المتحدة 1.4 مليون زيارة من وسط آسيا بهدف تعلم اللغة الإنجليزية و"عيش الثقافة الأمريكية، واكتساب مهارة مطلوبة"، بحسب الخارجية الأمريكية، مضيفة: "منذ نيلها الاستقلال (عن الاتحاد السوفييتي)، تلقى أكثر من 40 ألف طالب ومهني ومسؤول في جمهوريات آسيا الوسطى تمويلاً أمريكياً لزيارة الولايات المتحدة بحثاً عن فرص التطوير المهني".
إنها غراس ستثمر ولاء لواشنطن ورفاقها عاجلاً أو آجلاً، وأخطاء بوتين تسرّع تلك الوتيرة، وهو الذي يعلم جيداً أن نفوذ بلاده في تلك المنطقة يرتكز بشكل كبير على أشخاص كانوا هم (أو آباؤهم) أعضاء في الحزب الشيوعي أو ضباطاً في الـ"KGB".
في أذربيجان نرى الصورة ذاتها، لكنها أكثر قتامة، حيث يتمتع البلد القوقازي بمساحة أكبر لعقد الشراكات، سواء مع الغرب أو تركيا أو إيران.
لقد كان لافتاً خروج آلاف الأذربيجانيين، بضوء أخضر من السلطات، أمام سفارة أوكرانيا لدى باكو، تعبيراً عن دعمهم لكييف، ورفضاً للغزو الروسي، فيما أمر الرئيس إلهام علييف شركة النفط الحكومية "سوكار" بتوزيع المشتقات، مجاناً، لسيارات الإسعاف الأوكرانية، فضلاً عن تقديمه مساعدات كبيرة لحكومة زيلينسكي.
أما جورجيا، ورغم آلام الماضي، فقد أعلنت مضيها بالسعي للانضمام لحلف الناتو، وهذا الموقف متوقع وبديهي، إلا أنه يعيدنا إلى الأسئلة الكبيرة: ألم تعد تلك الدول تخشى روسيا؟ وماذا سيبقى لروسيا على مستوى المصالح والأمن إن هي خسرت كل هؤلاء، وأوكرانيا أيضاً في النهاية؟ وأين كل ذلك الحديث عن فقدان الثقة بالولايات المتحدة وبروز روسيا كلاعب أساسي على الساحة الدولية؟
حتى صربيا، أو روسيا الصغيرة القابعة في البلقان، صوتت في الأمم المتحدة لصالح استنكار الغزو الروسي لأوكرانيا.
الرئيس ألكسندر فوتشيتش، ذو الخلفية القومية المتطرفة، كان يدرك بالتأكيد أن الخطوة من شأنها تحريك جزء كبير من الشارع ضده، لكنه يدرك في الوقت ذاته حقيقتين: روسيا البعيدة تورطت، وأغلبية الصرب يفضلون الانضمام للاتحاد الأوروبي القريب.
وهنا لا نتحدث عن صرب البوسنة، فهم أكثر تطرفاً وانعزالاً عن محيطهم الأوروبي وارتباطاً بروسيا، ولا يزالون الورقة الأخطر بيد موسكو لضرب استقرار خاصرة أوروبا الجنوبية الشرقية.
ومع ذلك، استنكرت سراييفو غزو روسيا لأوكرانيا، وحثت الاتحاد الأوروبي والناتو على تسريع خطوات قبول عضويتها، ولم تكترث لتهديدات المتطرفين في الشرق واستعراضاتهم العسكرية، وحالة الهلع وتخزين المواد الغذائية والمشتقات النفطية، استعداداً للأسوأ.
مجدداً؛ لقد خسرت روسيا كثيراً، وبدأت خسارتها منذ ضم القرم عام 2014.
دعونا نستذكر معاً دوافع الغزو، المعلنة منها أو البديهية:
- الخشية من انضمام أوكرانيا للناتو؛ لكن الناتو لا يضم أصلاً دولاً تعاني من اضطرابات تتعلق بالسيادة والحدود، وماذا عن انضمام دول البلطيق الثلاث للحلف، عام 2004، وهي التي لا تبتعد سوى 600 كيلومتراً عن قلب موسكو، و150 كيلومتراً عن قلب سانت بيترسبورغ؟
- حماية بوابة شمال القوقاز الاستراتيجية؛ وهو هدف تم تحقيقه بالفعل عام ٢٠١٤ بدعم الانفصاليين في شرق أوكرانيا، وكان من الممكن أن تكتفي روسيا بغزو دونباس وساحل أوكرانيا على البحر الأسود قبل إجبارها، من خلال التفاوض، على ترسيخ وضع خاص لجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك.
- حماية النفوذ في أوكرانيا، ولا سيما الناطقين بالروسية؛ فيما هؤلاء هم اليوم أكبر المتضررين بفعل ردة الفعل القومية الأوكرانية المضاعفة، بعد أن كانت مجرد حالة مصطنعة قبل عقود.
- استعادة صورة روسيا القوية وجمع شتات الرفاق السوفييت السابقين، فيما يحدث الآن عكس ذلك تماماً.
- تثبيت قواعد اشتباك جديدة مع الغرب، وإجبار الناتو على التراجع، وهو ما تعرف روسيا أنه لن يحدث.
أمام هذا المشهد، فإن أهم تصريح يجب استذكاره لبوتين لم يمضِ عليه زمن طويل، حيث قال قبل عامين فقط إن روسيا، المعنية باستعادة الوحدة مع دول وسط آسيا، تواجه معضلة رئيسية، وهي "الفوبيا" المرتبطة بالتجربة السوفييتية.
ذلك التصريح المثير فجَّر غضباً في عواصم عديدة، إذ إن الرجل دعا بصراحة إلى إذابة حدود تلك الدول مجدداً، لكن الجزء المتعلق بـ"الفوبيا"، بتعبيره، والمُهم باعترافه، يعيدنا إلى أوكرانيا، وأصداء الغزو في كازاخستان وأذربيجان، الأكثر عرضة، بحكم موقعهما، لتجربة مماثلة.
بوتين يُفقد اليوم ما تبقى لروسيا من بريق، ساهم هو بالحفاظ عليه في العقد الأول لحكمه، على الأقل، كما يُفقد العالم فرصة، كانت قاب قوسين أو أدنى، لتحقيق توازن معقول، وإنهاء غطرسة أمريكا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.