نشر المغني المصري الشهير ويجز في فئة الراب أغنية جديدة تحت اسم "البخت"، وهي أغنية شبابية تتعلق بحالة عاطفية خاصة بالمغني، والتي لاقت تساؤلات عديدة من غالبية المتابعين الذين تكهّنوا بوجود علاقة بين الأغنية وبين حالة يعيشها الفنان مع إحدى الفنانات زميلاته، لكن ليس هذا هو صلب الموضوع الذي نريد أن نطرحه اليوم فلكل قصيدة أو أغنية حالة تعبر عن كاتبها كما أخبرنا شعراء العصر الجميل.
في حين أن الأغنية لاقت نجاحاً كبيراً بين المستمعين من فئة الشباب ومتابعي الراب، خاصة أنها كانت من نوع الكلاسيك أو الهادئ العاطفي، لكن هناك ما أثارته وأظهرته الأغنية، وهي الفجوة التي اتسعت بين الجيل القديم الرافض لجميع أشكال التجديدات في عالم الفن، وبين الجيل الجديد الباحث عن التجديد، فتابعنا جميعاً كم الانتقادات التي وُجّهت لويجز وأغنياته لدرجة أن اتهمه أحدهم بأنه لا يفقه شيئاً في الغناء، وتوالت الآراء ما بين مؤيد ومحب للأغنية، وما بين كارهٍ للون الغنائي بأكمله، وهنا علينا أن نتحدث عن أمر مهم جداً خاص بتلك الحادثة، والذي ناقشه علماء علم الاجتماع عبر التاريخ.
من المعروف للجميع أنه مع مرور كل حقبة زمنية يظهر فيها جيل جديد، تتكيف وتتغير مفاهيم المجتمع على شكل هذا الجيل، وهو أمر طبيعي في جميع المجتمعات سواء هنا أو في أبعد بلاد الله في الثلج والصحراء وحتى الغابات.
علم الاجتماع يفسر لنا كيف تحدث التغيرات في حجم وشكل المجتمع مع مرور الوقت وطبقاً للظروف المحيطة، حيث إن كل شيء يتطور حولك، ودائماً يكون مصحوباً بتغير في المفاهيم وأساليب الحياة الجديدة نفسها، وكي يتكيّف المجتمع مع التغيرات ويحافظ في نفس الوقت على التوازن والاستقرار، فمن الطبيعي أن تتغير شخصية الإنسان نفسها بدورها، خاصة مع كل جيل جديد يظهر وتظهر معه استقلاليته عن الجيل القديم أكثر فأكثر.
ومن هنا نستخرج مفهوماً جديداً يشرح هذا الصراع سمّاه العلماء باسم "صراع الأجيال".
ما هو صراع الأجيال المقصود في علم الاجتماع؟
صراع الأجيال هو صراع أيديولوجي ثقافي، يحدث بشكل دوري حينما يبلغ الأطفال في هذا الجيل سن الشباب، وحينما يتحول الجيل القديم من الشباب إلى مرحلة النضوج، فيظهر صراع ثقافي واجتماعي بين جيل قديم "راديكالي ومحافظ" وجيل جديد يدعو إلى "الحداثة والمعاصرة".
هذا أمر طبيعي ويحدث بكثرة مع كل حقبة زمنية تمر على البشر في أي مجتمع بجميع أنحاء العالم، وفي كل حقبة تاريخية، دائماً ستجد الصراع النفوذي في أوجّه، وصراع نفسي شديد يسعى فيه كل فريق إلى بسط نفوذه على الفريق الآخر، حرب وجودية قائمة بين جيل قديم يرى أن جيله الخاص هو دائم الصواب والأكثر فهماً للحياة والأكثر حكمة كذلك، وجيل حديث لم يبلغ سن الرشد بعد ينظر فيه الجيل القديم على أنه جيل متسرع لا يفقه من الأمور شيئاً، ويعيب على ذوقه الفني وحسّه الاجتماعي ليتهم الجيل الجديد بالتسرع والحماقة.
لكن دعونا نتفق على أن الجيل الجديد هو الفائز دائماً وأبداً في هذا الصراع؛ لأنه ببساطة شديدة هو من يملك تلك الحقبة الجديدة بأدواتها وآلياتها، حيث إن الزمن هو زمن الجيل الجديد وحقبة يملكها دون غيره، وهو من يفرض القوانين الجديدة وهو من يعيشها مع ذويه.
مع مرور الوقت، يتحول هذا الجيل الجديد ليكون هو القديم الراديكالي، ولسوف يأتي بعده جيل جديد، ليشتعل الصراع مجدداً، وتنحاز الدفّة إلى الجيل الأحدث، وهكذا، هي سنّة الحياة، التغير والتجديد.
على سبيل المثال، في فترة من الفترات القديمة والحقبات الماضية، العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ كان بالنسبة لقدماء المستمعين هو شاب بلا صوت أو كاريزما استطاع أن يشوّه الأغنية العربية، وقبله كانت أم كلثوم حيث اتهموها بنفس هذه التهم بالضبط، حتى في مجال الأدب، فلَكَ أن تقرأ عن آراء الجيل السابق لنجيب محفوظ والسباعي فيهما، حتى الهضبة عمرو دياب حينما ظهر، لم يخلُ من آراء سلبية كرأي عبد الوهاب فيه أو نقاد فترته، وهكذا.
علينا أن نؤمن بأن إيقاع الحياة دائماً يختلف مع مرور الوقت، وكل جيل يظهر ويولد يستقل بذوقه الخاص، حتى إذا كان واجب الجيل القديم أن يورّث عاداته وتقاليده وحكمته للجيل الجديد، لكن مع إيمان تام بأن الحياة تتغير، والأذواق نفسها في تطور مستمر، وما يحبّه أخوك الصغير لن يعجبك ولن تفهمه أبداً، فالخلاف هنا هو طبيعي ضمن سياق التطور الاجتماعي، وهي مرحلة معروفة ليست وليدة جيلنا نفسه أو حالة جديدة نعيشها مطلقاً، لا. بل هو صراع قديم قدم الأزل، منذ أن خطت أقدام أبينا آدم كوكب الأرض.
يقول سقراط: لا تكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانك
ملحوظة: هي جملة منسوبة بالخطأ إلى الإمام عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه وأرضاه)، إلا أن الأصح والأقرب هي أنها من مقولات الفيلسوف الشهير سقراط.
ما يحدث اليوم من أحداث مرتبطة بالواقع اليوم وبشكل عام على مغنِّي الراب والتراب وحتى اللون الشعبي أو ما يسمى المهرجانات، وبشكل خاص على أغنية ويجز الجديدة "البخت"، هو جزء كبير من الصراع المجتمعي المعروف السالف ذكره، ما بين جيل قديم تحول تدريجياً إلى راديكالي لكنه لا يزال يعيش الوهم ومقتنع بحداثته وذوقه الذي يسعى لفرضه على الجيل الذي يليه من مبدأ "التوريث"، وجيل جديد منفصل تدريجياً عن القديم مؤمن بالحداثة وهذا هو ذوقه الموسيقي الجديد، ما بين الجيلين فجوة كبيرة تزداد اتساعاً مع الوقت، ينفصل فيها الجيلان تدريجياً حتى تلك اللحظة المنتظرة حينما يستقل الجيل الجديد برأيه ويفرضه على مجتمعه؛ لأنه هو في النهاية من يعيشه دون غيره من الأجيال السابقة.
فكونك اليوم تحكم بالمقارنة بين ذوقك المبنيّ على خبرات سابقة مع مطربين جيلك بلونهم الذي عايشته وسمعت له وتخيلته وتشبّعت به، وبين جيل جديد له لون حداثي مختلف تماماً في كل شيء حتى في اختيار الكلمات والألحان، فهو أمر مقبول أن تعتقد أن أغنية "البخت" أغنية ليست مفهومة أو غريبة على مسامعك، هكذا يقول المنطق وهكذا تقول خبراتك وماضيك.
ولكن إذا كنت تحكّم ذوقك الخاص الموصوف بالقديم اليوم وأصبح مفروضاً من باب الوصاية كمقياس إلزامي على اللون الفني بأكمله، كنوع من أنواع بسط النفوذ وفرض القوى في التحكم في أذواق الأجيال الصغيرة، أو التسفيه من أذواقهم واختياراتهم الشخصية بدون أن تكنّ احتراماً لميولهم للحداثة طبقاً لمتغيرات كل عصر وتشرع في تبادل الاتهامات مع الجيل الجديد بأنهم لا يفقهون في الامور شيء وأن ما يسمعوه تفاهات واسفاف في حين ان الاغنية نفسها قد لاقت نجاح كبير بينهم فهذا إن دل فيدل على ثلاث نقاط لا رابع لها.
النقطة الأولى أنك قد كبرت بالفعل واليوم أنت عضو في فريق الراديكالية المحافظة دون أن تدري.
النقطة الثانية أنك قد فشلت في مجاراة التطور في مجال الفن ومع الوقت سوف تنفصل عن الجيل الجديد وعن المجتمع ككل مع مرور الوقت لتبدأ في ذائقة النوستالجيا والجملة المعهودة "اللحم كان بقروش في عمرنا".
النقطة الأخيرة هي أن الفجوة بين الجيلين قد توسعت بالفعل وأصبحنا جيلاً غريباً عجوزاً عن الشباب الأصغر منّا لا نستطيع فهمه ولا يستطيع فهمنا.
حسنا، إذا كان العمل الفني الجديد المقدم خاليا من الإسفاف بشكل ظاهر وملموس بالفعل، وخاليا من الأمور الخادشة للحياء بشكل عام، إذن بكل بساطة ، فقد فشلت في فهم الكلمات والإيقاع الجديد الموجة إلى الجيل الأصغر منك الذين هم بدورهم يفهمون آلياته ولغته ومصطلحاته وفي هذه الحالة فإن أمامك خياران، الأول: أن تحاول فهم الحداثة من منطلق فتح طريق للاتصال بين الجيلين حتى لا تتسع الفجوة أكثر فيتفكك المجتمع، أو على الأقل أن تعلن نقدك ورفضك لهذا اللون كما تريد من سبيل "الإرشاد" لكن مع تقديم احترام للجيل الذي يسمعه ويحبه دون أن تنتقد الجيل نفسه أو تحاول منعه بشتى الطرق وبالكثير من المبررات الواهية أو حتى تحاول فرض ذوقك الخاص عليه بالقوة.
فقط حاول أن تجاري العصر وأن تتعلم الإنصات، وان تفكك شفرات اللغة الجديدة لتتقرّب أكثر من هذا الجيل لربما فهمت ما يفكرون فيه وما هي مشاكلهم وهمومهم ونتجنب سويا تفكك المجتمع واتساع الفجوة وتلاشي ما يسمى صراع الأجيال.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.