عيناي بُنّيتان وشعري ليس أشقر.. أقيم في ألمانيا وهكذا رأيتُ ازدواجية أوروبا بين بلادنا وأوكرانيا!

عدد القراءات
811
عربي بوست
تم النشر: 2022/03/05 الساعة 09:47 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/03/05 الساعة 09:47 بتوقيت غرينتش
أطفال يقفون أمام سياج في مواجهة ضباط بولنديين على الحدود البيلاروسية البولندية/رويترز

أول يوم في الحرب على أوكرانيا لم أستطع النوم مطلقاً، رغم أني لم أعِش أي تجربة حرب من قبل، لكن رؤية الخراب والمباني المدمرة والنازحين الهاربين التاركين وراءهم الدار والأمان والوطن ذكرتني بإدلب وحلب المدمرتين، وصور الأطفال والأمهات السوريين السائرين لأيام دون هدف، كانت الصور الأولى للقصف والحرب تعيد إلى ذهني تلك اللقطات وكأنها حدثت بالأمس.

في صباح كل يوم أركب مع أطفال وشباب سوريين وأفغان جاءوا إلى ألمانيا مع أسرهم لاجئين، يبدو على هؤلاء الطلاب الجدية والنجابة ورقة الحال، ملابسهم بسيطة مقارنة بأقرانهم، لكنها مرتبة ونظيفة، يعيشون في بيوت مؤقتة منذ خمس سنوات، بيوت تبدو من بعيد كعلب الكبريت، أدخل في مشادات شبه أسبوعية مع سائقي الأتوبيس لأنهم يتعاملون معهم بغلظة مفرطة بعض الأوقات، حتى تحية الصباح لا يردونها عليهم.

يُنظر إليهم دائماً كلاجئين يعيشون على المساعدات الحكومية، رغم أن كثيراً منهم لا يتلقى تلك المساعدات، وصار من أصحاب المشاريع والأعمال، ورغم تفوق أبنائهم الملحوظ في الدراسة.

أول سؤال يطرحه معظم الأشخاص عليّ في بداية أي تعارف: هل أنت سورية أم تركية؟ وكأن صيغة السؤال الحقيقية هل أنت لاجئة أم مقيمة؟ وعندما أجيبه بأني مصرية أرى علامات الارتياح قد ارتسمت على وجهه، وصارت معاملته ألطف في معظم الأحيان، وكأن اللجوء اختيار، وكأن قبول اللجوء منحة لا بد أن يتذكرها اللاجئ كل يوم.

في أول يوم للقصف الروسي على أوكرانيا شعرت بالشفقة تجاه أولئك الأطفال السوريين الذين سيُذكّرهم هذا القصف بذكريات مؤلمة ومرعبة، وبينما تمنع المدارس استخدام الألعاب مثل المسدسات أو الألعاب التخيلية للأطفال التي يقلدون فيها ألعاب الحرب، حتى لا يتذكر الأطفال اللاجئون الذين تعرضوا لتلك المشاهد الصادمة في طفولتهم ما حدث لهم، تعرض القنوات الألمانية ليل نهار صور مشاهد القصف والخراب الحاصل في أوكرانيا.

في أول أيام الثورة السورية وما تبعها من قصف وقتل كان ابني الأكبر عمره أربع سنوات، في تلك الفترة كنت أشاهد الأخبار بشكل مستمر، وفي إحدى زيارات طبيبة الأطفال النفسية استخدم طائرة رفعها للأعلى كأنها تطير، ثم قال: انتهى.. مات الجميع!

صُدمت الطبيبة وصدمت، ثم قالت إن علينا الانتباه ألا يشاهد الطفل تلك الأخبار، وألا يعلم تلك الأشياء المخيفة عن العالم، فالطفل كي يكون سويّاً وكما ينصح المربون المختصون في المدرسة الآباء، يجب أن يكون بعيداً عن ذلك العالم المظلم، وأن يرى الكون بعيون ديزني، العالم الذي يحيا فيه الطيبون ويموت فيه الأشرار.

لكن تلك النظرية اختفت منذ أول ساعات الحرب الروسية على أوكرانيا، فقد شاهد الأولاد نشرة الأخبار في المدرسة، وتحدثوا عن الحرب والدمار وإجرام بوتين، بالطبع لم يشاهدوا مشاهد قتل ولا قتلى، لكنهم شاهدوا أطفالاً يبكون لأن آباءهم سيبقون في أوكرانيا للدفاع عنها، وسيضطرون هم للرحيل ولا يعلمون متى سيلتقون مع آبائهم.

يشاهد الأطفال السوريون في الفصول أيضاً تلك المشاهد، التي ربما عاشوها ويعيشونها حتى الآن، لكن تلك المشاهد التي رأوها لم تُعرض على الشاشات في الفصول ولم يبكِ معهم أحد.

في باريس، 2013، في إحدى المرات طلبتُ من معلمة الفصل اصطحاب ابني مبكراً من المدرسة لكي نذهب للمشاركة في إحدى الفعاليات الخاصة بالشأن المصري، عقدت معي المعلمة اجتماعاً في وقت لاحق كي تنصحني بإبعاد ابني عن شؤون الكبار وما يحدث في العالم.

ألمانيا، 2022، تعرض المدرسة على جميع الطلبة المشاركة في إحدى التظاهرات المطالبة بالسلام في أوكرانيا، والتنديد بالحرب وما يفعله الروس من إجرام هناك، يرفض ابني الذهاب دون إعلامي بقراره، ويسأل ببراءة لماذا لم نذهب في تظاهرات من أجل الأطفال الذين يموتون في سوريا؟

ستة أيام من الحرب رأى الجميع فيها ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين، سمع الصغار والكبار فيها تصريحات تلقائية تعبر عن النظرة التي يرانا بها الغرب في اللاوعي، وتظهر على هيئة كلمات صادمة، مثلما قال رئيس بلغاريا في تصريحه: اللاجئون الأوكرانيون ليسوا من اللاجئين الذين اعتدنا عليهم، لذلك سنرحب بهم، إنهم أذكياء ومتعلمون، ولا يملكون ماضياً غامضاً كأن يكونوا إرهابيين. وتقول صحفية أخرى وهي تبكي: هؤلاء أوروبيون وذوو عيون زرقاء.

تلك المواقف المتناقضة بين ما يُحدثه نفس النظام الروسي في سوريا منذ عشر سنوات من قتل وحرق وصواريخ كيميائية، وما يحدث في أوكرانيا خلال أيام فقط، والتصريحات الفجة في العنصرية التي تبرر الكيل بمكيالين وكأن الحياة والحرية حق لأصحاب الشعر الأشقر والعيون الزرقاء وحدهم، تجعلني بصفتي مقيمةً في أوروبا من أصول عربية مسلمة أشعر بعدم الأمان، وأنه مهما اندمجنا في ذلك المجتمع، وتكلمنا اللغة كأهلها، وحصلنا على أعلى الشهادات، وتقلّدنا المناصب والوظائف سنظل في عيونهم غرباء، ذوي عيونٍ بنية وبشرة قمحية. 

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أسماء بركات
طبيبة أسنان مقيمة في ألمانيا
أسماء بركات، أم لثلاثة أطفال، طبيبة أسنان، مدونة ومهتمة بحالة حقوق الإنسان والأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة وصعوبات التعلم، مقيمة في ألمانيا.
تحميل المزيد