في الوقت الذي تناقلت فيه الصحف المحلية والعالمية أن المغرب حرك جبلاً بأكمله لإنقاذ الطّفل رّيان، لن ننسى أنه حرك جميع آلاته القمعية وسلطاته الأمنية من أجل قمع واعتقال الأساتذة المحتجين بمختلف المدن المغربية، وآخرها ما كان في الثالث من مارس/آذار 2022، بمدينة الرباط، حيث تعرض الأساتذة المفروض عليهم التعاقد للقمع والتنكيل والركل والرفس، بعدما جاؤوا إلى الرباط من كل صوب وحدب، تلبية لنداء التنسيقية الوطنية للأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد، بغية الاحتجاج أمام الوزارة الوصية، رفضاً لمخطط التعاقد المشؤوم.
ومعلوم أنه مخطط مرفوض بالمطلق، لأنه يتنافى والحق في ولوج أبناء الشعب إلى الوظيفة العامة، كما ينص بذلك الدستور المغربي، بأن كلَّ فرد له الحقّ في ولوج أسلاك الوظيفة العمومية، ومن ثم فإنّ نهجَ نظام العقدة في التعليم يتناقض مع السياسة الشعبية في مجال التعليم العام. إن مطلبنا ومطلب جميع الأساتذة المفروض عليهم التعاقد مطلب شرعيّ يضمنه ظهير شريف، هو الحق في الوظيفة العمومية، وجاء فيه ما يلي:
"ظهير شريف رقم 008-58-1، بتاريخ 4 شعبان 1377 (24 فبراير/شباط 1958) يحتوي على القانون الأساسي العام للوظيفة العمومية. لكل مغربي الحق في الوصول إلى الوظائف العمومية على وجه المساواة".
ولكن السياسة الطبقية التي انتهجتها الدولة في إرساء نظام الجهوية المتقدمة، جعلها تبدأ بالتعليم، وكأنه مختبر فئران التجارب، ادّعاء منها بأنها ترغب في توفير عدد من مناصب الشغل للمواطنين، مع الحفاظ على مبدأ المساواة، وظهر جلياً أن المخطط يعارض الظهير الشريف، حيث إنّ الوزارة تسعى إلى خصخصة هذا القطاع، ومن ثم التخلص من الوظيفة العمومية وحرمان أبناء الشعب من حقهم الدستوري.
هشاشة نظام التعاقد
ترى الوزارة بعيونها القاصرة عن رؤية الحقّ أن التوظيف بموجب عقود يسمح للأساتذة المتعاقدين بالاستفادة من جميع ما يستفيد منه الأساتذة الرسميون، وبدا هذا أن هناك تمييزاً صارخاً وفاضحاً يُكذّب ما تقوله الوزارة، ويؤكد بالأساس هشاشة نظام التعاقد، والظاهر أساساً أنه داخل نظام التعليم، تجد أستاذاً (ة) مرسماً (ة) يؤطره (ا) نظام أساسي للوظيفة العمومية، وأستاذا (ة) فرض عليه (ا) التعاقد يؤطره (ا) نظام الأكاديميات، وهذا وحده كافٍ لرفض مخطط التعاقد المشؤوم، يقول ربيع الكرعي في تصريح لجريدة هسبريس: "هناك أساتذة موظفون يؤطرهم النظام الأساسي الوظيفة العمومية، بينما نحن يحكمنا نظام الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، وهذا معناه أننا لا نتمتع بنفس الحقوق التي يتمتع بها زملاؤنا المدمجون في الوظيفة العمومية، لكننا ملزمون بأداء الواجبات نفسها".
ومن هذا المنطلق كان المطلب العام والوحيد والأوحد للأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد وراء احتجاجاتهم وإضراباتهم، هو الإدماج في أسلاك الوظيفة العامة بوصفه حقاً مشروعاً، وتنضوي الاحتجاجات والإضرابات التي يقوم بها عموم الأساتذة بموجب عقود تحت لواء التنسيقية الوطنية العتيدة للأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد.
وبوصفي أستاذاً فُرض عليه التعاقد أقول إن الحجج التي تُبرر بها الوزارة منطق نهجها لهذا النوع من التوظيف تعد تحججاً واهياً وكاذباً، تظهر معالم كذبه مع الوقت، بحيث يتعرض معظم الأساتذة إلى الطرد والعزل باتصال هاتفي، بالإضافة إلى الإهانة التي نتعرض لها من بعض المديرين والمفتشين، بقولهم: "أنتم فقط أساتذة متعاقدون".
وما يظهر هشاشة التعاقد أيضاً أنّ في التعليم أساتذةً حصلوا على شهادات الدكتوراه، ولكن لا حقّ لهم في اجتياز مباريات التعليم العالي، لا ذنب لنا في ذلك سوى أننا اخترنا أن نكون أساتذة لتربية وتكوين جيلٍ على قيم المواطنة وحقوق الإنسان، وما زلنا نتشبث بقداسة هذه المهنة التي نتعرض فيها لأبشع مظاهر الظلم، وخاصة حينما يتعلق الأمر بالقمع المخزني والمطاردات البوليسية التي تطال الأساتذة المفروض عليهم التعاقد.
إن مخطط التعاقد هشّ؛ لأن النظام القانوني الذي يؤطره فيه فراغات وثغرات تشريعية مهولة، نظام تعرض لتغييرات عديدة، تؤكد بوضوح تعمّد الوزارة في فرض هذا النوع من التوظيف، وتوضيحاً لهذه المسألة يقول عبد الله قشمار: "إن استمرار احتجاجاتنا وإضراباتنا ليس حباً في الهروب من الفصول الدراسية أو قصد الاستجمام، بل لأنه منذ فرض هذا النمط من التوظيف لم تتغير الوضعية الوظيفية والإدارية للأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد. والمدهش في الأمر أن الوضع ازداد سوءاً عن ذي قبل، ولعلنا لو اطلعنا على النظام الأساسي لأطر الأكاديميات الذي تم تفعيل مقتضياته خلال شهر سبتمبر/أيلول 2018، وتم تعديل مواده والمصادقة على ذلك خلال 13 مارس/آذار 2019، سنلمس مدى هشاشة هذا النوع من التوظيف".
معلوم أن الاستقرار النفسي والاجتماعي والوظيفي للأساتذة هو المدخل الرئيس والأساس لإصلاح قطاع التعليم، ولكن في ظل هذا المخطط المشؤوم فإن الحكومة قد ضربت هذا الاستقرار، وخلقت نوعاً من الخوف والترهيب في صفوفنا العتيدة، واعتبرت الأستاذ أو المعلم مجرد رقم تأجير، ومتى فقد الأساتذة استقرارهم فسيتطرق الكثير من اليأس إلى هذا القطاع، ومن ثم فإنهم يقدمون صورة بأن التعليم غير مرغوب فيه؛ زعماً منهم أنه لا يفيدهم في شيء، وفي التعليم منافع كثيرة لا تظهر للعين التي تقصر عن رؤية الحق.
وسعت الحكومة إلى زعزعة الاستقرار الوظيفي وفق نسق تراكمي هو داء قديم، ووفق نسق توافقي هو داء جديد يضرب في الوظيفة العمومية، يقول آدم الحسناوي: تسعى إلى ضرب الاستقرار الوظيفي، وذلك في إطار ما تم الحديث عنه سابقاً. وقد تم ضرب الاستقرار الوظيفي وفق نسق تراكمي، وذلك منذ سنوات عدة، هذا الضرب الذي لا يهدد اليوم استقرار المدرسين فقط، بل يهدد استقرار المدرسة العامة. واستقرار الأستاذ هو المدخل لإصلاح قطاع التعليم بشكل توافقي، وبعيداً عن التوصيات الخارجية، تلك التوصيات التي لم تر سوى في قطاع التعليم "الفجوة التي ينبغي إصلاحها".
وبناءً على ما تم ذكره فعوض أن تجلس الوزارة على الطاولة لخلق حوار جاد مع الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد والاستجابة لمطلبنا الوحيد، بإدماجنا في الوظيفة العمومية أسوة مع زملائنا الرسميين، نهجت الدولة بحق الأساتذة المحتجين بالرباط سياستها القمعية المقدسة، الظاهرة في القمع والضرب، والسرقة من الأجور، والاعتقال، وتقديم الأساتذة ظلماً أمام وكيل الملك، بغية اتهامهم وإصدار تهم جائرة بحقهم. مقابلة السلم بالضرب ظلم، والرد على مطالب الأساتذة، المفروض عليهم التعاقد، بنهج السياسة القمعية دليل قاطع على عدم رغبة الحكومة في إيجاد حل ناجع للملف، هو حلّ بسيط وسهل، ونكتبه بخط عريض: "الإدماج في أسلاك الوظيفة العامة" حق مشروع يضمنه الدستور عن بكرة أبيهم.
لا بأس بالتضحية
إنّ النضال يقتضي تضحية كبيرة، وصبراً جميلاً، فرغم طبيعة الاستجابة القمعية ضد مطلب الإدماج، فإن إطارنا العتيد، التنسيقية الوطنية للأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد، تخبرنا باستمرار المعركة النضالية، حتى يتم إسقاط مخطط التعاقد المشؤوم، وكلّ الإدانة للتدخلات القمعية الممنهجة في صفوف الأساتذة، وتقول التنسيقية في هذا الصدد: "انسجاماً مع طبيعته القمعية يستمر النظام في تنزيل سياساته اللاشعبية في قطاع التعليم، بفرض مخطط التعاقد وتفكيك الوظيفة العمومية، لتعميم الهشاشة والاستعباد؛ إذ يتم فرض هذه المخططات بلغة الحديد والنّار (السرقات من الأجور، والمحاكمات السياسية، والاعتقالات…)، عكس ما يدعيه ويروج له. في هذا السياق تعرّض الأساتذة والأستاذات وأطر الدعم والمتضامنون مع المعركة النضالية لتدخل همجي بالرباط، أسفرت عنه إصابات خطيرة، بعضها يستدعي عملية جراحية مستعجلة، واعتقال مجموعة من الأساتذة والأستاذات وأطر الدعم والطلبة.
كانت اللغة والحوار الحل الأساس لكلّ المشاكل التي تعاني منها قطاعات الدولة، ولكن حوار المسؤولين عن وزارة التعليم مع الأساتذة المفروض عليهم التعاقد، كان بلغة غير اللغة التي نعرفها، وبغير التي نتكلم بها، لغة القمع والرفس والتنكيل التي باتت الشيء المقدس لديهم، وهم بهذه اللغة يعبرون عن فشلهم وأكاذيبهم المغالطة في أنهم يسعون إلى تدبير ملف التعاقد، وإيجاد حلول مناسبة وناجعة لهشاشة المخطط المشؤوم، ويظهر تدبيرهم في تقديم حلول مرقعة، ولم تكن الحلول الترقيعية والأكاذيب الحل الأنسب لطي ملف ينقل صورة سيئة ومسيئة عن التعليم بالمغرب.
مضطرون على كل حال إلى القول إن المسؤولين لا يتجاوزون حدودهم المقدسة، الظاهرة أساساً في قمع الأساتذة المتظاهرين والمحتجين بسلمية في شوارع العاصمة، وسلب حرية التعبير التي يضمنها الدستور، ونبذ حس الوعي النضالي لدى الطبقة الشعبية، التي أحست بالظلم والقهر والتحقير. لقد تقدمت الأمم خطوات للنهوض بالتعليم، ولكن الجهة المسؤولة عن الإصلاح في المغرب تتغاضى عن تحقيق مطلب الأساتذة الشرعي الذي يضمنه الدستور، وهو الإدماج في الوظيفة العامة.
واجبات المعلم.. وحقوقه
إنّ الدّولةَ التي تطلب من المعلم أو الأستاذ أن ينشئ لها جيلاً واعياً ومثقفاً يفهم الحياة في شتى جوانبها، ويمتلك شخصية متوازنة ومتكاملة تمتاز بالثقة والفطنة، ينبغي عليها أيضاً أن تزود هذا الأستاذ والمعلم بالثقة، وألا تعتبره مجرد أجير يؤجر على عمله، وأن توفر له الشروط التامة لممارسة مهنته بحب، وأن تضمن له الحرية والكرامة، حينما يتم توفير هذه الأمور إلى الأساتذة والمعلمين وقتئذ يمكن للدولة أن تحاسبهم على كلّ كبيرة وصغيرة، وأن تشتد في ذلك، ولكنّ مخطط التعاقد يعبّر بالأساس على أنّ الذي تريد منه الدولة أن يربي وينشئ لها أجيالاً متوازنة، فرضت عليه التعاقد، وأشعرته بالذل، ونزعت منه الكرامة، وسلبت منه ما يضمن له استقراره النفسي والاجتماعي، سلبت منه الوظيفة العمومية.
لا بدّ للدولة أن تخجل من نفسها، وأن تلوم حالها، بما يحصل لأستاذ سهر جاهداً لإنشاء جيل على قيم المواطنة وحب الوطن، وينبغي أن تخجل من تناقضها لكونها تدرّس للمتعلمين في المقررات أن المغرب دولة ديمقراطية تضمن الحق والقانون، وتسهر على ضمان السلم والأمان، وتجاهد من أجل إتاحة جميع الحقوق التي تضمنها الدساتير، منها الحرية في التعبير، والحق في الإضراب والاحتجاج، ولكن لا وجود لشيء من ذلك.
وينبغي أن تخجل لأنها تزيل حاجز الثقة بينها وبين الشعب، وينبغي أن تخجل لأنها تُكره النّاس على الجهل، وتضطرهم إلى البطالة، وعوض أن تكون لغتها الإصلاحية صادقة النية وواضحة التعبير، تضطر إلى نهج سياستها القمعية التي تزيدنا قوة وصبراً، فإن قمع احتجاجات الأساتذة تعبير عن انسداد بنيوي لأفق الدولة في الإصلاح، وتعبير عن تعالي صوت الأساتذة المشروع. فلم تكن الديمقراطية يوماً مرتبطة بالجهل والقمع، وإنما الديمقراطية هي أن تصلح التعليم، وأن تهتم به ما وجدت إلى ذلك سبيلاً، المغرب حرّك جبلاً لإنقاذ ريان، وحرَّك جيشاً لقمع الأساتذة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.