إثنياً ودينيّاً الأوكرانيون كالروس سلاف أرثوذوكس في غالبيّتهم. تاريخياً ومنذُ الثورة ضد الحكم البولندي أواسط القرن السابع عشر، صارت أوكرانيا وبقيت لأكثر من ثلاثة قرون خاضعة للحكم السياسي الروسي (في الفترات القيصريّة، الإمبراطورية السوفييتية) باستثناء ما بين عامي 1917-1920 بقيام جمهوريّة أوكرانيّة أسقطها البلاشفة، وقد عرفت حركات تمرد ومحاولات تحرر خصوصاً إبّان الحرب العالميّة الثانية وبعدها، لكنّ السوفييت قابلوها بالقمع والترهيب لتستمرّ حالة التبعيّة إلى أن استقلت عن الاتحاد السوفييتي المتفكك.
وإذا كانت أصول القومية الأوكرانية الحديثة تعود إلى أواسط القرن السابع عشر مع الثورة ضد الحكم البولندي، فإن استنهاض فكرة هذه القومية يعود إلى أواخر القرن الثامن عشر، وقد تكون ثورة أو انتفاضة الفلاحين في 68-1769 القادح لها ومن ثم إلى فترة ما عرف بالنهضة الوطنية "القوميّة" الأوكرانيّة عندما وقع تقاسم تلك الرقعة بين إمبراطورية النمسا والإمبراطورية الروسية والمملكة المجرية.
هذا الفكر القومي اقتصر تبلوره في تلك الفترة جغرافياً على الجانب الغربي من أوكرانيا الحالية فيما الجانب الشرقي منها كان تابعاً لروسيا منذ ما قبل القرن السابع عشر بما يفسّر توجّهه وولاءه المشرقي.
هكذا نصل إلى الشرخ الأوكرانيّ حيث يقول عنه صامويل هنتغتون في كتابه ذائع الصيت (صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي): "أوكرانيا بلد مصدوع، ذو ثقافتين متمايزتين"، بما أن أجزاءً من أوكرانيا الغربية كانت تابعة في أوقات مختلفة لبلدان الحضارة الغربيّة، وسكّانها "يتكلمون الأوكرانية كما كانوا قوميّين متشدّدين في أفكارهم وآرائهم".
أما أوكرانيا الشرقيّة فجزء كبير من شعبها يتكلّم الروسيّة، "في أوائل التسعينات كانت نسبة الروس 22% والذين يتكلّمون الروسيّة حوالي 31% من مجموع سكّان أوكرانيا". ويذهب هنتغتون منذ أصدر كتابه قبل أزيد من ربع قرن إلى أنّ "هناك احتمالاً آخر وارداً بشدة، هو أنّ أوكرانيا يمكن أن تنشقّ بطول خطّ التقسيم إلى كيانين منفصلين، يمكن أن يندمج الشرقيّ منهما مع روسيا"، فيما ربط احتمال بقائها متحدة بالتعاون مع روسيا.
هذا الشرخ الثقافي كان ولا يزال محل تجاذب روسيا والغرب حضارياً وسياسياً في امتدادٍ لصراعهما التاريخي، كلُّ يدعم الجانب الموالي له قصد أن يُصعّد إلى السلطة من يخوّل له بسط النفوذ وضمان المصالح. لكنّ السنوات الأخيرة شهدت تمكّن الجانب ذي الثقافة الغربيّة من السلطة الساعي إلى التخلّص من التبعيّة إلى روسيا وجرّ أوكرانيا كتلةً واحدةً إلى الصفّ الغربيّ بنزعة قوميّة متشدّدة متطرّفة، خصوصاً بعد الإطاحة بالرئيس فيكتور يانوكوفيتش الموالي لروسيا إبّان الثورة الأوكرانيّة سنة 2014، ما جرّ تدخّلاً عسكرياً روسيًا، ودعماً للحركات الانفصاليّة في الشرق وضمّ شبه جزيرة القرم.
هذا التدخل الروسي السافر ودعم انفصاليي الشرق وإن كان قد أرهق واستنزف أوكرانيا، فإنّه عزّز الشعور المناهض لروسيا خصوصاً في الشقّ الغربيّ للبلاد، وصعّد ذوي النزعة القوميّة الأوكرانية المتشدّدة والتوجّه الغربي إلى السلطة، فعمدوا من جهتهم لمنع نشاط الروس الفنيّ والثقافي فيها وتغليب اللغة الأوكرانيّة وتأخير الروسيّة، والسعي مؤخّراً إلى تكريس الأوكرانيّة كلغة رسمية وحيدة، والانفصال بالكنيسة الأرثودوكسية الأوكرانيّة عن بطريركيّة موسكو، وبلغ الأمر حتّى دعم الجماعات النازيّة، والقيام بتحييد الموالين لروسيا، وقصف عشوائي طال المدنيين في المناطق الانفصاليّة. هذا علاوة على السعي الجدي أو بالأحرى التعسّف في مسعى الالتحاق بالاتحاد الأوروبيّ والناتو، أي الانضمام إلى المعسكر المناوئ لروسيا، بما من شأنه ضرب التوازن بين المعسكرين.
لقد دأبت روسيا منذ سقوط الاتحاد السوفييتي على حفظ وتعزيز هذا التوازن سياسياً وعسكرياً، بضمان هيمنتها الإقليمية على دول الاتحاد السابقة وتكريس أنظمة مواليةٍ لها فيها. وقد صرح بوريس يلتسين في 1993 بأنّ الحكومات الأجنبيّة في حاجة إلى أن "تمنح روسيا صلاحيّات خاصّة كضمان للسلام والاستقرار في دول الاتحاد السوفييتي السابق". وتجتمع هذه الدول في "رابطة الدول المستقلّة CIS" التي كانت روسيا من مؤسسيها إلى جانب روسيا البيضاء، وقد غادرتها جورجيا ثم أوكرانيا وكلتاهما تحمل نزعة قوميّة قويّة وتوجّهاً انفصالياً حاول الغرب من جهته استغلاله لكنّه جرّ على البلدين الاجتياح العسكري الروسيّ.
ومن المرجح أن روسيا لن تتوقّف في أوكرانيا إلّا بعد إسقاط العاصمة كييف لرمزيّتها السياسيّة والثقافيّة بحكم أنّها معقل الأحزاب ذات التوجّه الغربيّ. لتبقى أوكرانيا بعد ذلك أمام أحد احتمالي صامويل هنتغتون، إمّا تنصيب سلطة موالية لروسيا على الحدود الحاليّة أو التقسيم بضمّ الجانب الشرقيّ إلى روسيا، وفي هذه الحالة ستعمل روسيا على أن تبقى أوكرانيا الغربيّة محايدة محدودة القدرة العسكريّة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.