تبدو كلماتي التي تدور كالنجوم في فلك لا محدود، وكأنها متمردة بعض الشيء، حيث تثير فوضى عارمة وكثيراً من الشغب، رافضة لخضوعها ضمن حدود الصمت الكئيب، تأبى كتمانها داخل كينونتي، تدعوني لإطلاق سراحها، وتحطيم قيودها، وترجمتها على أوراقي، حتى وإن لم يكن هناك ما يثير رغبتي في الكتابة، فهي كطفل يولد من رحم الكتمان، دون أن يُتم شهوره التسعة.
لا عجب أن ينتابك شعور برغبتك في التوقف عن كل شيء والتزام الصمت، تشعر وكأنه لا يروق لك هذا العالم بأكمله، تتوقف عن الحديث، عن الحلم، عن الضحك، عن العمل، حتى عن الكتابة، فتصبح كلماتك مقيدة وكأنك لم تعتَدْ على الكتابة من قبل، رغم أن حالة الصمت التي تعيشها تقطن خلفها آلاف الكلمات، وتعابير لا متناهية من المشاعر والأحاسيس الدفينة، والتي تعجز عن التعبير عنها، ولكن حالة الانعزال التي قد تصيبك تجعلك غير قادر على شيء، سوى رغبتك في العزلة فقط.
تدرك للحظات أنك تريد أن تكتب فقط لإلحاح كلمات حائرة داخلك، دون أن يكون هناك سبب للكتابة، مجرد خربشات على ورق، فليست هناك حادثة معينة أو قصة أو ذكرى أو خاطرة تريد الكتابة عنها، وكأن الكتابة أصبحت بمثابة عادة روتينية تُمارسها كغيرها من العادات اليومية، وليست موهبة فطرية لها طقوسها وخصوصيتها وإحساسك بها.
فإن الاحتكاك بالحياة، وإدراكنا لماهية هذا العالم، وعلاقاتنا بالأشخاص المحيطين بنا، وذكرياتنا، وأحلامنا وطموحنا، وحاضرنا ومستقبلنا، وأحزاننا وسعادتنا، وكل شيء يتعلق بنا ليس كفيلاً بأن نستنبط منه كتاباتنا، فالكتابة تحدث دون تخطيط مسبق، كأشياء جميلة كتبها لنا القدر، كالحب مثلاً.
فإن علاقتك بالكتابة علاقة عاطفية جميلة، تجمع بينكما، فإن أحسنت إليها واهتممت بها تجعلك مبدعاً، حالماً، محلقاً، ماهراً، ورائعاً، وإن أسأت إليها تجعل منك شخصاً حائراً، تائهاً، مفتقراً لكثير من المفردات والتراكيب التي تجعلك عاجزاً عن نسج نصوص كتابية من وحي الخيال.
والكتابة كالمرأة الجميلة المدللة، كلما عشقتها عشقتك، وإن هجرتها هجرتك، إنني أكتب تدوينتي هذه بلا مناسبة، وبلا موضوع أساسي أتحدث عنه، أكتب ولا أعرف لماذا، أكتب على غير العادة، مجرد كلمات أرصها واحدة تلو الأخرى كحبات لؤلؤ في العقد.
لكن ما أثق به تماماً أنه لا شيء يأتي من فراغ، أدرك تماماً أن هناك داخلنا آلاف الخبايا والقصص والروايات، وفي لحظة صمت نشعر بالاختناق، ونبكي دون أسباب، يمر أمام ناظرنا شريط ذكريات من الماضي، فنرى فيه تفاصيل وشؤوناً صغيرة، تركت أثراً كبيراً في نفوسنا.
إن الكتابة ليست موهبة فطرية، بل هي نعمة عظيمة من الله عز وجل، حتى وإن كنت في أسوأ حالاتك، ولم تجد تفسيراً لذلك، وضاقت بك الدنيا، وتاهت منك جميع السبل، والتزمت الصمت، وانعزلت عن العالم، وفقدت رغبتك في كل شيء.
فقط، استغلّ عزلتك هذه، وأمسك قلمك بيدك وخطَّ كلماتك، حتى وإن كنت لا تعرف من أين تبدأ، وإن كنت لا تجد مناسبةً أو موضوعاً للكتابة، وكأنك كاتبٌ حديث العهد في عالم الكتابة.
فقط اكتب، وعَبِّر، وتحدَّث، وتكلَّم، وابكِ، فلِمَ لا؟ ما دمت في نهاية المطاف ستشعر براحة مطلقة، ألم أقل لك إن الكتابة ليست مجرد موهبة فطرية، إنها من أجمل النعم من الله عز وجل.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.