حتى والحرب تدور رحاها بعيداً عن مضاربنا وحمانا؛ يأبى الإعلام الغربي أن يركز على ما يرصده في أوكرانيا و روسيا فقط، ويصر على أن يكشر عن أنيابه مجدداً ويكشف وجهه القبيح المتشح بالعنصرية والنظرة الدونية للآخرين، وتحديداً أهل الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، كما "أتحفنا" الكثيرون هذه الأيام بإهانات صارخة يندى لها الجبين.
صدقاً يعجز المرء عن الإحاطة بكل ما شاهدناه منذ بداية الحرب الحالية، فهل نبدأ بمراسل شبكة "سي بي إس" الأمريكية (تشارلي داغاتا) الذي قال بالحرف: "هذا ليس مكاناً -مع كل الاحترام الواجب- مثل العراق أو أفغانستان، حيث يدور صراع محتدم منذ عقود، هذه مدينة حضارية وأوربية نسبياً -لا بد لي من اختيار هذه الكلمات بعناية أيضاً- مدينة لا تتوقع فيها ذلك، أو آمل أن يحدث ذلك".
أم مذيع قناة "الجزيرة الإنجليزية" (بيتر ديبي) الذي وصف الأوكرانيين الفارين بأنهم "شعب مزدهر من الطبقة الوسطى الذين ليسوا من الواضح أنهم لاجئون يحاولون الهروب من مناطق في الشرق الأوسط لا تزال في حالة حرب كبيرة"، وأضاف: "هؤلاء ليسوا أشخاصاً يحاولون الابتعاد عن مناطق في شمال إفريقيا، إنهم يبدون مثل أي عائلة أوروبية قد تعيش بجوارها"؟
وهناك أيضاً نائب المدعي العام الأوكراني السابق (ديفيد ساكفاريليدزي)، والذي صرح "بأنه أمر مؤثر للغاية بالنسبة لي لأنني أرى الأوربيين ذوي الشعر الأشقر وعيونهم الزرقاء يُقتلون كل يوم بصواريخ بوتين وطائراته الهليكوبتر وصواريخه"؛ دون إغفال الصحفي الفرنسي (فيليب كورب) الذي قال: "نحن لا نتحدث هنا عن فرار السوريين من قصف النظام السوري المدعوم من بوتين، نحن نتحدث عن الأوروبيين الذين يغادرون في سيارات تشبه سياراتنا".
وعلى نفس المنوال سار الصحفي البريطاني "المصدوم" (دانيال هنان) في مقال له بصحيفة التلغراف حيث كتب: "إنهم يشبهوننا كثيراً. وهذا ما يجعل الأمر صادماً للغاية"، وذكر أن" الحرب لم تعد تحدث في مجتمعات السكان الفقراء والنائية".
أما رئيس وزراء بلغاريا، فقد صرح "هؤلاء ليسوا اللاجئين الذين اعتدنا عليهم. إنهم أوروبيون وأذكياء ومتعلمون وبعضهم مبرمجون لتكنولوجيا المعلومات هذه ليست موجة اللاجئين المعتادة للأشخاص الذين ليس لديهم ماضٍ مجهول ولا يوجد بلد أوروبي يخاف عليهم. أنا لست مندهشاً، أنا غاضب فقط".
ويمكن للمرء بسهولة أن يجد العشرات من التعليقات المشابهة التي تنضح عاراً و عنصرية وتميط اللثام عما يعتمل في نفوس هذه الشخصيات التي تتشدق ليل نهار بالحديث عن الحضارة والإنسانية؛ مع العلم أن أغلب الصراعات التي اتخذت من الشرق الأوسط ساحة لها هي بالأساس من صنع الأيادي الغربية الناصعة البياض، وهي من تعيث فيها فساداً وتحرك أطرافها يمنياً ويساراً وتوقع على صفقات أسلحة بأرقام فلكية؛ كل هذا دون العودة لملفات التنكيل والقتل وإبادة الشعوب العربية في سنوات ووقائع يحفظها القاصي والداني ومدونة بمداد العار في سجلات التاريخ، رغم كل محاولات الطمس التي تنتهي بشعارات كاذبة على غرار "متحف الإنسان" في باريس.
كما ولن ننبش فيما خطته أنامل الرحالة "أحمد بن فضلان" حين وثق الهمجية التي كان عليها أجداد من يصنفوننا اليوم ويضربون بنا المثل؛ لكن من المشين حقاً تصدير هذه الخطابات ونفث السموم فيمن قهرتهم الظروف وألقت بهم في غياهب المجهول، ثم لماذا يتم إقحام هذه الشعوب في حرب لا ناقة ولا جمل لهم فيها؟
لا نحتاج للتأكيد على رفضنا للحروب واستخدام لغة القوة في أي بقعة من بقاع الأرض؛ لكن العنصرية المقيتة التي نعاينها اليوم في منابر تحاضر في الأخلاق والمهنية تظل أمراً مثيراً للحنق ولا يجب السكوت عليه بالمرة، رغم أن الأمر لا يقتصر على الإعلام فقط، فحتى ملاعب الساحرة المستديرة التي لطالما رفعت شعارات منع "استخدام الرياضة في السياسة" بفرمان من الجهاز الوصي، أي الفيفا، وكلنا نتذكر واقعة وقميص محمد أبو تريكة الذي حمل عبارة "تعاطفاً مع غزة"؛ فجأة صار الجميع يحتفي بالقمصان الأوكرانية التي ارتداها لاعبو مانشستر سيتي وإيفرتون؛ فماذا يعني كل هذا يا ترى؟
إنه نفوذ "الشعر الأشقر والعيون الزرقاء" وأمامهم تتغير القوانين وتنهار المشاعر ويختلط الحابل بالنابل.. الضحايا مقامات حقاً.. ونختم بما كتبه المبدع السوري محمد الماغوط يوماً: "عندي جوع تاريخي للاحترام والشعور بالإنسانية".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.