لماذا لن تصبح روسيا قطباً عالمياً؟

عدد القراءات
777
عربي بوست
تم النشر: 2022/03/01 الساعة 14:15 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/03/01 الساعة 14:26 بتوقيت غرينتش

عندما أحاول قراءة وفهم حدث معيَّن، أواجه سجلاً طويلاً من الأحداث التاريخية المشابهة له.

يعني مثلاً تقوم ثورة في السودان فأطالع سجلاً طويلاً من الثورات في العالم، ثمَّ البلدان التي تشابهت ظروفها مع السودان، ثمَّ الثورات الذي تشابهت في تفاصيلها مع ثورة السودان، حتى أصل لحالة أو اثنتين أستشف منهما ما الذي يمكن أن يحدث على ضوء الذي جرى سابقاً.

طبعاً دائماً هناك أوجه فريدة في كل حدث تجعل التوقُّع الشامل بأدق تفاصيله مستحيلاً. الظواهر الاجتماعية في التحليل الأخير معقَّدة وليست كتجارب المعمل التي من الممكن أن تتكرر كُل يوم، والتاريخ لا يتكرر بحذافيره أبداً.

قيام دولة كبرى بغزو دولة صغيرة أو متوسِّطة أمر له سجل طويل في التاريخ القريب، مثلاً دخول أمريكا فيتنام في الستينيات، وذلك كان في إطار صراع بين قُطبين كُل واحد فيهما رمى ثقله ورهانه على طرف فيتنامي معيَّن، وهذا ليس الحال في أوكرانيا اليوم.

غزو كوبا بدعم أمريكي أيضاً مختلف لأنه لم يحدث توغُّل بري والموضوع كان محاولة دعم فصيل ضد الثورة وفشل في الأخير.

غزو أفغانستان 2001، كان رد فعل على هجوم داخل أمريكا وبذريعة محاربة الإرهاب واستئصال تنظيم بعينه، وفي بلد أقل تحديثاً بكتير من أوكرانيا التي تُعتبر قُطباً زراعياً وصناعياً في أوروبا الشرقية وليست بلداً قبَلَياً شبه معزول اقتصادياً عن العالم مثل أفغانستان.

أفغانستان
القوات الأمريكية في أفغانستان – رويترز

هل دخول الإمارات سقطرى مثلاً مقارنة وجيهة؟ لا. لأن الإمارات ليست قوة كُبرى أولاً، ولأن سقطرى جزيرة صغيرة بتعداد ضئيل. بينما أوكرانيا هي أكبر دولة أوروبية من حيث التعداد السُكَّاني بعد دول أوروبا الكبرى (ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا)، وبالتالي من حيث الحجم والبنية الصناعية والزراعية تلعب دوراً شبيهاً بثقل وحجم العراق في المشرق العربي قبل غزوه عام 2003.
لذلك غزو روسيا لأوكرانيا حدث من العيار الثقيل مثل غزو العراق، الذي أثَّر على منطقة الشرق الأوسط كلها أكثر بكثير من غزو أفغانستان أو حتى من غزو إسرائيل للبنان في 1982.

من الممكن النظر إلى غزو الاتحاد السوفييتي للمجر سنة 1956 بهدف تدعيم النظام الشيوعي فيها، وهناك وجاهة في مقارنة من هذا النوع، وإن كان وقتها السوفييت قُطباً دولياً من العيار الثقيل، غير أن المجر دولة أصغر من أوكرانيا.

من الممكن أن نقارن العدوان الثلاثي على مصر بغزو أوكرانيا والذي كان هدفه استعادة قناة السويس وإسقاط النظام الناصري الوليد، لكن القوتين الأحدث على الساحة العالمية وقتها (واشنطن وموسكو) رفضتا الأمر وانتهى بالفشل، وطبعاً لم يكن مُحمَّلاً بأجندة توغُّل بري أو حيازة أرض أو دخول العاصمة بالشكل نفسه الذي يجري في كييف حالياً.

واحدة من مميزات اختيار حالة غزو العراق للمقارنة مع الوضع الأفغاني في رأيي، وقوعه في نفس المرحلة تقريباً من عُمر النظام الدولي (عالم ما بعد 1990) وهناك تشابهات مفيدة في فهم السياق سنعرج لفهم ما يحدث في أوكرانيا الآن.

لماذا أقارن غزو أوكرانيا مع غزو العراق؟ وما الذي يترتَّب على مقارنة من هذا النوع؟

غزو أوكرانيا.. قرار روسي منفرد

كل من العراق وأوكرانيا مركز ثقل في كُل من المشرق العربي وشرق أوروبا، وأضيف أن الحرب عليهما هدفها إسقاط النظام بدون مبرِّرات قابلة للتفاوض. إسقاط النظام الأوكراني هدف لذاته، لا علاقة له بأن كييف لن تدخل حلف الناتو، أو تَمنح حُكماً ذاتياً للأقاليم ذات الأغلبية الروسية في الشرق الأوكراني.

ما الدليل على ذلك؟

أولاً الأقاليم الشرقية منذ غزو روسيا لشبه جزيرة القرم تحت سيطرة فعلية للميليشيات الموالية لروسيا، وبالتالي تقنين وضعها أمر سهل عن طريق المفاوضات، وعلى أسوأ الظروف، كان من الممكن لروسيا فصلهم ومن ثم السيطرة عليهما كما فعلت في جورجيا عام 2008.

"الناتو لن يسمح لأوكرانيا بالانضمام إليه في المستقبل القريب"، هذا عنوان مقال منشور على موقع "نيويورك تايمز" قبل شهر، يتحدث عن التباين بين رغبة زيلينسكي رئيس أوكرانيا في انضمام بلاده للناتو، والتي عبَّر عنها صراحة أثناء زيارته للبيت الأبيض في سبتمبر الماضي، وبين الرأي الراسخ في الحلف بأن انضمام أوكرانيا غير مُحبَّذ إطلاقاً لأنه استفزاز لروسيا، وروسيا تعلم هذا الأمر قطعاً من اتصالاتها المستمرة مع أمريكا، وهذا ما جعل الصحيفة الأمريكية تشير إلى أن بايدن تجاوز تصريحات زيلينسكي سريعاً ولم يعقِّب عليها.

سفير أمريكا لحلف الناتو سابقاً صرَّح بأن فلسفة توسُّع الناتو قائمة على أن قرار ضم عضو جديد يكون مفيداً لتعزيز الاستقرار الإقليمي، وأن أعضاء الحلف يعتقدون أن ضم أوكرانيا سيزيد من عدم الاستقرار لأسباب مفهومة، ولذا هناك أعضاء من الناتو متحفِّظون على انضمام أوكرانيا.

وبايدن نفسه عندما كان نائباً للرئيس، وفي أعقاب غزو روسيا للقرم سنة 2014، قال لهم الأبواب مُغلقة فعلياً أمام العضوية وإن الدعم الأمريكي الذي من الممكن تقديمه محدود لأن واشنطن لا تعتقد بأن بوتين قادر على الإضرار بمصالحها الحقيقية.

الجملة الأخيرة حقيقية، كُل ما تقوم به روسيا طيلة السنوات التي مضت هو الدخول على خط أزمات وملفات أمريكا صرفت النظر عنها، ولا توجد معركة واحدة دخلتها روسيا كان بها مواجهة سياسية حقيقية مع واشنطن مثل أيام الحرب الباردة، لأن روسيا حالياً أضعف بكثير، والكلام الخاص بعودة روسيا وإعادة بناء العملاق الروسي لا يعدو كونه بروباجندا لا مؤشرات لها.
نرجع لعضوية الناتو وتصريحات بايدن، التي "زعَّلت" الأوكرانيين وقتها، فمنذ هذا الوقت ومسألة ضم أوكرانيا للناتو شبه مستحيلة، وكل من على اطلاع بملف السياسة الدولية في شرق أوروبا يعرف أن كييف لن تنضم للناتو أبداً.

العقيدة الأوراسية
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين

جدير بالذكر أن الشعب الأوكراني -وفقاً لاستطاعات للرأي قبل 2014- كان يميل لنوع من التوازن بين الغرب وروسيا، ولم تعبِّر أغلبية منه عن رغبة الانضمام لحلف الناتو أبداً وقتها. الذي جرى هو أن روسيا غزت البلد بالفعل في 2014 واستحوذت على القرم، ثمَّ توغَّلت بميليشياتها وأذرعها الأمنية في الشرق بذريعة حماية "الروس" هناك، ومن هنا حدث تحوُّل في الرأي العام الأوكراني، وبدأ يزداد التشجيع على الانضمام للناتو.

ما بعد السوفييت.. القوة الخشنة

ما الذي حدث لإشعال الأزمة الآن؟ الروس يطلبون نوعاً من التفاهم الصريح الشبيه بالحرب الباردة بأن أوكرانيا تتعهَّد بألا تنضم للناتو أبداً، حيث النظام في كييف يدفع في هذا الاتجاه منذ فترة.

النظام هناك يدفع على مستوى الخطاب بحكاية عضوية الناتو، لأن التقرُّب من الغرب ذو أرضية وشعبية كبيرة في أوكرانيا حالياً، وهذا شيء طبيعي من مسار الأحداث على مدار الثماني سنوات الماضية. والتعاون جارٍ بوتيرة متسارعة فعلاً من وقتها حتى اليوم مع حلفاء الناتو جميعهم، لكن دونما العضوية وما تستجلبه من مزايا أخرى لا واشنطن ولا أنقرة ولا لندن لديهم استعداد لمنحها إلى كييف.

لكن حتى التعاون المكثَّف موسكو غير سعيدة به رُغم أنها هي التي حفِّزته ابتداءً من 2014.

لماذا الروس مُصرِّون على وجود تعهُّد علني بعدم الدخول للناتو طالما هذا متحقِّق فعلياً؟ ولماذا الناتو وكييف رافضان للتعهُّد الصريح؟

أولاً، الناتو رافض لوجود استثناء لدولة من إمكانية الالتحاق به حتى لو لن يضمها بالفعل، لأن ذلك سيصبح نوعاً من التقيُّد يمكن أن يتكَّرر مع دول أخرى، وهذا مبدئياً مرفوض من الناتو.

ثانياً، أوكرانيا رافضة لأن في ذلك تقويضاً لسيادتها كدولة. تخيَّل مثلاً وجود تفاهمات بين مصر وبين إسرائيل فعلياً بعدم التحالف مع إيران، وتأتي إسرائيل مطالبة بإضافة هذا التفاهم كبند لكامب ديفيد.. طبعاً أمر هزلي لأن معناه أن دولة أجنبية تملِّي على دولة مستقلة سياستها الخارجية. وإسرائيل بالتأكيد لم تفعل ذلك. لماذا؟

لأنها ببساطة تملك القوة الفعلية اللازمة لإجبارنا نحن والأردن على التوصل لتفاهمات معها تحقق عدم إمكانية نشوء تحالفات مضادة لها في المستقبل القريب، من غير بنود.

وهنا تأتي النقطة الأهم في غزو أوكرانيا، وهي أن روسيا في الحقيقة لا تملك هذه القوة على المدى البعيد، وتريد ببساطة في لحظة تحوُّل النظام الدولي الحالية أن تنتزع شيئاً لا تملك ثمنه الفعلي المستقبلي سياسياً واقتصادياً.

حُجة روسيا في حقها بخلق مجال حيوي خاص بها لا تتعارض فقط مع رغبات معظم الشعوب في الفضاء السوفييتي السابق، لكن لم تعد لها قاعدة حقيقية يستند إليها.

الستار الحديدي في يوم من الأيام بعد الحرب العالمية كان له ما يعضِّده ويبرِّره من قوة روسيا المهولة على الأرض، ومن شعبية الأحزاب الشيوعية في البلاد وشرعيتها من الحرب ضد النازية، ومئات الكوادر التي مارست السياسة اليومية بالنيابة عن السوفييت في دول حلف وارسو.

دولة عُظمى بالمعنى الحقيقي للكلمة، شحم ولحم سياسي واقتصادي، ليست هيكلاً عظمياً عسكرياً فقط. روسيا اليوم لم تعُد هذا القُطب، وهي مُدركة لذلك، وأنها في عيون شعوب شرق أوروبا أصبحت هيكلاً عظمياً عارياً، وبالتالي تحاول أخذ الامتيازات السوفييتية السابقة بالقوة في وقت تقلُّبات إقليمية، من غير الحضور الشعبي والأيديولوجيا الحقيقية التي قدمتها وقت السوفييت، ومن غير القوة السياسية التي تمنحها القدرة على الادعاء بأنه من حقها خلق مجال حيوي في شرق أوروبا وآسيا الوسطى.

روسيا وأُحادية ما بعد 2003 و"ترسيخ النُّظُم"

نرجع لأوكرانيا ما بعد 2014. الغزو ببساطة يحاول إجهاض ما تمخَّضت عنه مظاهرات "يوروميدان" 2014 التي أسقطت يانوكوفيتش حليف روسيا وما تبعها من احتلال روسيا للقرم ومناطق في الشرق الأوكراني، لأنه ظهر بعدها نظام سياسي بعيد جداً عن موسكو وسيظل يبتعد عنها يوماً بعد يوم.

لكن الحقيقة أن المنظومة السياسية الأوكرانية والروسية ومعظم النظم التي خرجت من رحم الاتحاد السوفييتي من أعفن ما يكون، وفيها تداخل بين رأس مال فاسد نتيجة التفكُّك السريع للمنظومة الاشتراكية وإعادة تدوير قبيحة للنُخَب السوفييتية في زي نيوليبرالي شبه ديمقراطي. لكن تلك ليست مشكلة روسيا لأنها رعت أنظمة على نفس القدر من العفن ولا تزال.

النُّقطة المهمة لروسيا هي أن النظام الذي خرج من "يوروميدان" غير مرغوب فيه؛ لأن النظام الذي تمخَّض عنه مستند فعلاً لقاعدة شعبية منحازة للالتحاق بالغرب.

في الأخير كُل شعب حر في مصيره، والنزعة للاتجاه نحو الغرب موجودة حتى الآن في دول الفضاء السوفييتي رُغم أن الغرب للمفارقة لا يبادلهم نفس الرغبة في ضمهم لصفوفه لأنه متفهِّم تحفُّظات روسيا. لكن الشعوب التي خرجت لتوّها من قبضة روسيا تتمنى دخول الاتحاد الأوروبي والناتو بنسبة راجحة، وهذا مفهوم شعبياً وإن كان مُعقَّداً سياسياً. والنظر للرغبة في الالتحاق بالغرب وللثورات الملوَّنة كما تسمى في محيط روسيا على أنها مؤامرة أو لعبة أمريكية تلفيق سخيف، وتماهٍ غير مفهوم مع الدعاية الروسية، والأهم أنه استخفاف بإرادة شعوب المنطقة التي عبَّرت عن هذه الرغبة في محطات كثيرة.

نية الغزو الروسي لأوكرانيا مُبيَّتة من لحظة "يوروميدان" وما بعدها، وسيناريو الغزو ممكن جداً لأسباب عديدة، منها للمفارقة أنه الذي يضرب بعرض الحائط كُل القواعد والتفاهمات الدولية الراسخة منذ الحرب الباردة، سُنة سنَّتها واشنطن عندما غزت العراق.

لكن بغداد 2003 -وليس كييف 2022- هي فعلاً اللحظة الفارقة التي أعادت تعريف المنظومة الدولية من جهة الحرب، وشطبت آليات التفاهم التي قامت عليها العلاقات بين القوى الكبرى واستمرت حتى أواخر التسعينيات قبل أن يرميها الرئيس الأمريكي جورج بوش في سلة القمامة، في لحظة عنجهية انفرد فيها بقيادة النظام العالمي وتوجيهه مستخدماً القوة العسكرية الأمريكية.

ما تقوم به روسيا اليوم ليس طفرة أو صفحة جديدة ولا نقطة تحوُّل بتاتاً، بل دخول من بوابة مفتوحة بالفعل، أمريكا فتحتها في عام 2003، ولم يكن بإمكان موسكو التي كانت ولا زالت ضعيفة أن تفتحها بهذا الشكل لو كانت واشنطن حافظت على قواعد النظام الدولي. لكن الإمبراطورية عندما لما تصل إلى القمة، تثق أكثر من اللازم بـ"عضلاتها"، وفي لحظة مأساوية تستعرضها أكثر من اللازم، ومآلات تلك اللحظة دائماً ما تحمل في طيَّاتها بدء أفول الإمبراطورية تدريجياً.

محفِّزات غزو أوكرانيا البنيوية (بعيداً عن نية موسكو) مرتبطة بالفراغ السياسي/العسكري في شرق أوروبا نفسها، والناتج عن إعادة توزيع أمريكا لأوراق قوتها عالمياً بعيداً عن الشرق الأوسط وشرق أوروبا وباتجاه المحيط الهادئ لتحقيق توازن مع الصين.

خاركيف
مدينة خاركيف الأوكرانية التي تتعرض للقصف الروسي – رويترز

في هذه اللحظة، يعرف الروس أنهم لو دخلوا كييف لن يوقفهم أحد، كما فعلوا في سوريا، وفي المقابل من الممكن أن ينجحوا فعلاً في تنصيب نظام موالٍ لهم في بلد مهمة رُغم أنف الديمقراطية.

في الأخير، لا يمكن تبرير الغزو بالقول إن زيلينسكي "جابه لنفسه"، لأن في الحقيقة وجود هؤلاء الأشخاص، أياً كانت درجة المعارضة لهم في الداخل وقراراتهم غير المدروسة ووطنيتهم ونزاهتهم من عدمه، أمر منفصل عن الرغبة الحقيقية في إزاحتهم، والتي تستغل درجات المعارضة المتباينة لهم وأخطاءهم ليس إلا لتبرَّر ممارسة القوة الإجرامية ضدهم وتنصَّب نظماً موالية للقوى الكبرى بدلاً منهم بعنجهية شديدة.

هناك فرط من القوة العسكرية النظامية تراكم عند كُلٍّ من واشنطن وموسكو خلال الحرب الباردة، ولم يُستخدم أو يُستنزف في حروب نظامية حقيقية مثل الحرب العالمية الثانية.

والحقيقة هي قوة مغرية طالما لا مقاومة لها، وهذا يدفعني لقول إن القوة الصلبة أصبحت تُمارس بشيء من الرعونة بعيداً عن الطبيعة الاستراتيجية العقلانية الصارمة التي ميَّزت الحروب الحديثة.

موسكو اليوم تدخل على خط النمط الحديث متأخرة بنحو 20 سنة نتيجة هزة تفكُّك الاتحاد السوفييتي. ورُغم أنها فقدت أدوات الهيمنة السياسية والاقتصادية، لكنها محتفظة بثاني أقوى مؤسسة عسكرية في العالم، وللمفارقة فالباب الذي فتحه بوش في 2003 هو الذي حفِّز صعود روسيا الخشن رُغم ضعفها السياسي. لأن واشنطن وليس موسكو هي التي أذنت بأن تكون القوة الخشنة وحدها كفيلة بإنجاز بعض المهام هُنا أو هناك.

غزو العراق 2003 وغزو أوكرانيا 2022 هو قرار على الورق لا أحد يوقفه، وفي بلد ذي وزن وثروات تغري أي حد، ومن طرف قوة تعرف أنها ستدخل العاصمة في أقل من شهر بكُلفة ضئيلة، وفي لحظة رخوة جداً على المستوى الإقليمي أو الدولي قرَّرت معها القوة الكُبرى المعنية أن أمنها القومي المباشر -المتحقِّق بالفعل- غير كافٍ، وأن هناك فرطاً من القوة الصلبة يُمكن استخدامه بمسوِّغات أيديولوجية هشَّة داخلياً وخارجياً لتشكِّيل الدول المهمة المؤثرة في المشهد بما يناسب الدولة الكبرى، وهذا لُب ظاهرة تغيير "النظام السياسي" التي اشتهر بها بوش الابن.

روسيا الآن متبنية نموذجاً مضاداً يُمكن تسميته "ترسيخ المستبدين" أو "ترسيخ النظم"، والذي يعني أن أي محاولة لشعب ما للتعبير عن إرادته بشكل غير مُرضٍ بالنسبة لموسكو سيلاقي مصيراً أسود. وهذا حدث في كازاخستان منذ فترة قصيرة، وبدرجات متفاوتة في أكثر من بلد، وله بالطبع سوابق دولية عموماً من الطرفين (موسكو في المجر 1956 وواشنطن في إيران وقت حكومة مُصدَّق وغيرهما). ولكن هذا النوع من التدخُّل في دولة معيَّنة لرسم مسارها السياسي تكثَّف مع بوش الابن ثم بوتين، وهو مرتبط بتراكم فرط من القوة الصلبة عند الطرفين أكثر منه بالعداء بينهما، لكن كُل واحد منهما يطوَّعه أيديولوجياً باعتباره جزءاً من معركة عالمية ضد خطر ما.

في حالة بوش كان محور الشر والإرهاب الذي لزم أن يُجتَث من جذوره، وفي حالة بوتين هي شرور الليبرالية الغربية الملوَّنة وما يصاحبها من تفكيك للقيم المحافظة وغيره.

الأفكار الرخوة في الأخير كاشفة جداً للضعف الحاد عند الطرفين في تصدير منظومة فكرية جديدة وأممية تجذب الناس، وإن كان في انحياز مستمر للغرب على حساب روسيا بسبب المميزات السياسية والاقتصادية للنموذج الغربي.

السؤال الأهم الآن هو: "ماذا بعد؟".

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

نهى فؤاد
كاتبة مصرية
تحميل المزيد