علامات الإعجاب الأوكراني بطائرات بيرقدار التركية خلال الصراع الروسي الأوكراني واضحة للجميع. وزارة الدفاع الأوكرانية قامت بنشر مقاطع فيديو يظهر من خلالها استهداف طائرة بدون طيار لرتل من المدرعات الروسية قرب العاصمة الأوكرانية كييف.
هذا الفيديو دفع المراقبين لفتح النقاش حول قدرة هذه الطائرات على المساهمة في تحديد مصير الصراع العسكري بين روسيا وأوكرانيا. كما أعاد فتح النقاش على كفاءة هذه الطائرات وقدرتها على المشاركة في نزاعات تمتلك أطرافها أسلحة متعددة، ولديها أنظمة دفاع جوي متقدمة.
فطائرات البيرقدار التي شاركت في عمليات عسكرية سابقة في العراق وسوريا وليبيا وأذربيجان، تظهر هذه المرة في نزاع في قلب أوروبا بين الروس والأوكران. حتى الآن أظهر كل من قائد قوات الدفاع الجوية الأوكرانية وسفارة أوكرانيا في أنقرة علامات الإعجاب بقدرات طائرات البيرقدار في الحرب الجارية حالياً لكن مع تطور الصراع ربما يتشجع آخرون لإظهار هذا الإعجاب بصورة أكبر. فسياسات أوكرانيا التي قامت من خلالها بالتوقيع على اتفاقيات تتيح لها المشاركة في تصنيع طائرات البيرقدار بالإضافة إلى قيامها بشراء طائرات البيرقدار من تركيا بشكل منتظم خلال السنوات القليلة الماضية قد ثبت أنها سياسة ناجحة.
في عام 2019، قامت أوكرانيا بشراء 12 طائرة من طراز بيرقدار تي بي2 اسى كجزء من مشروع لتحديث القوات المسلحة الأوكرانية. في العام التالي، تقدمت البحرية الأوكرانية بطلب منفصل لشراء 6 طائرات أخرى خاصة بها. أكتوبر 2021 شهد أول استخدام أوكراني لهذه الطائرات في عمليات داخل إقليم دونباس. وفي شهر يناير من العام الحالي ظهر في الإعلام طلب القوات المسلحة الأوكرانية عدداً إضافياً من هذه الطائرات بعد أن تم التوقيع على مشروع مشترك بين أوكرانيا وتركيا لتصنيع طائرات البيرقدار. وقالت هذه الوسائل إن طلب أوكرانيا كان بغرض الحصول على 48 طائرة بمواصفات وقدرات خاصة.
الاهتمام بطائرات البيرقدار يغلب عليه الشق العسكري والاستراتيجي. فاستمرار التطور في صناعة الطائرات بدون طيار يمنح تركيا رفع مستوى تأثيرها من المستوى الإقليمي إلى المستوى الدولي. وفي نفس الوقت فإن تطور هذه الأسلحة يزيد من قدرة الصناعات الدفاعية العسكرية التركية في الوقت الذي يقل فيه اعتمادها على المصادر الخارجية في زيادة هذه القدرات. لكن تأثيرات طائرات البيرقدار على تركيا لا يقتصر فقط على الجانب العسكري والاستراتيجي، بل يمتد إلى الجانب الاقتصادي أيضاً.
طبقاً لتقرير وكالة رويترز، فإن قائمة الدول التي قامت بالتواصل مع تركيا لإتمام عملية شراء طائرة بيرقدار تشمل أذربيجان، كازخستان، تركمانستان، ليبيا، قطر، إثيوبيا، بالإضافة إلى أوكرانيا. وفي وقت سابق، طالبت دولة عضو في حلف الناتو وهي بولندا بالتواصل مع تركيا لشراء نفس الطائرة. عمليات البيع هذه يمكن أن تساعد تركيا التي تعاني من مشاكل اقتصادية حادة في عملتها بالإضافة إلى ارتفاع في معدلات التضخم. لكنها يمكن أن تساعدها لعلاج مشكلة اقتصادية أهم على المستوى المتوسط هي فخ الدخل المتوسط. فما هو فخ الدخل المتوسط؟
أغلب الدول التي استطاعت الانتقال من الشريحة الدنيا في فئة الدول متوسطة الدخل إلى الشريحة العليا للدول المتوسطة الدخل العليا لم تستطيع أن تكمل مسيرة الصعود لتصبح ضمن قائمة الدول المتقدمة اقتصادياً. من الناحية الاقتصادية، يبدو أن إجراء عدد من الإصلاحات الاقتصادية الرئيسية التي تخرج الاقتصاد من مشاكله الرئيسية وتدفع عجلات الإنتاج للعمل بشكل فاعل لتزيد من معدلات النمو ومن الناتج المحلي الإجمالي، تبدو هذه الأمور قابلة للتحقيق في كثير من الدول. وجود سياسات صحيحة مع إرادة سياسة ومدى زمني معقول في حدود من سنتين إلى 10 سنوات يمكن لهذه الدول تحسين مؤشراتها الاقتصادية بشكل ملحوظ. لكن الانتقال من هذا المستوى إلى المستوى الأعلى يبدو أنه مهمة ليست سهلة. دول قليلة في العالم هي التي استطاعت الخروج من هذه المصيدة خلال النصف القرن المنصرم منها كوريا الجنوبية واليابان وسنغافورة وتايوان وهونغ كونغ. استطاعت تركيا القيام بكثير من الإصلاحات الاقتصادية خلال السنوات العشرين الماضية. والأرقام والإحصاءات في هذا المجال مشهورة ومنتشرة بحيث لا نحتاج لتقديم أدلة على أن الاقتصاد التركي استطاع الانتقال من مستوى إلى مستوى آخر أعلى خلال السنوات القليلة الماضية. لكن تركيا لم تستطع حتى الآن الانتقال إلى مستوى الدول المتقدمة اقتصادياً. لماذا؟
لأن الهروب من فخ الدخل المتوسط يواجه عدداً من التحديات. منها ارتفاع الأجور الذي يؤثر على تنافسية السلع المصنعة محلياً. ويواجه تحدياً آخر مرتبطاً بالقدرة على زيادة الميزة التنافسية للبضائع والمنتجات التي تقوم هذه الدول بتصديرها للعالم. يمكن فهم هذا الكلام بشكل أفضل من خلال الأمثلة. إذا قامت دولة ما بالتركيز على صناعات مثل الملابس والمنتجات الزراعية فيمكنها أن تحقق تحسناً ملحوظاً في مؤشراتها الاقتصادية وفي مستوى معيشة مواطنيها. لكنها تحتاج لكي تخرج من الفخ أن تقوم بإنتاج أو تصنيع سلع وخدمات من الصعب على الآخرين تقليدها.
دول كثيرة يمكن أن تقوم بالمساهمة في صناعة الملابس لكن كم دولة تمتلك صناعات عسكرية متقدمة أو صناعات تكنولوجيا لا يمكن للآخرين تقليدها؟ كم دولة في العالم لديها تطبيقات أو خدمات كالتي تقدمها أبل أو فيسبوك وتعود بمليارات الدولارات على هذه الدول؟ من هنا تأتي أهمية طائرات بيرقدار للاقتصاد التركي. ومن هنا يمكن أن نفهم أيضاً لماذا يصر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على تخفيض سعر الفائدة.
تخفيض سعر الفائدة التركي يعني أن رجال الأعمال ورجال الصناعة يمكن أن يستمروا في تطوير صناعتهم ومنتجاتهم ضمن تكلفة اقتراض معقولة بحيث يمكنهم مستقبلاً الوصول إلى منتجات وسلع تحقق لهم ميزة تنافسية أعلى. أما لو ارتفع معدل سعر الفائدة فإن هذه الصناعات لن يكون لديها نفس القدرة على تمويل تطوير خدماتها ومنتجاتها. هنا يمكن فهم لماذا يصر أردوغان على تخفيض سعر الفائدة رغم التكلفة الشعبية المرتفعة لهذا القرار الذي يؤدي إلى استمرار معدلات التضخم المرتفعة. وبشكل مختلف، يمكننا القول إن السياسات الاقتصادية الحالية للنظام التركي تستهدف دعم تطوير الصناعات التركية المحلية من أجل تطويرها ورفع القيمة التنافسية لها لأنها تتوقع أنه في المدى المتوسط يمكن لهذه السياسات أن تخرج تركيا من فخ الدخل المتوسط لتنقلها إلى مصاف الدول المتقدمة اقتصادياً.
لنعد إلى طائرات البيرقدار مرة أخرى فهي مثال عملي على هذه الفكرة. العائد الاقتصادي المتصاعد من بيع طائرات البيرقدار هو واحد من الآثار الإيجابية التي يمكن أن تنتج في حال استمرت الطائرة في إثبات كفاءتها في الصراع الحالي بين روسيا وأوكرانيا. إثبات الكفاءة يعني مزيداً من المبيعات المستقبلية، ومزيداً من تطوير هذه التكنولوجيا المتخصصة محلياً داخل تركيا، ومزيداً من تحقيق ميزة نسبية مرتفعة في هذه الصناعة التي يبدو أنه ينتظرها مستقبل عريض. لو أضفنا هذه الاثار الاقتصادية لطائرات البيرقدار إلى الآثار السياسية لها يمكننا القول إن رهان النظام التركي حالياً أنه من خلال صناعات وخدمات شبيه بطائرات البيرقدار لكن في مجالات اقتصادية مختلفة يمكن لتركيا الوصول إلى مصاف الدول المتقدمة اقتصادياً.
هذه هي الفرصة التي تلوح في الأفق والتي يبدو أن النظام في تركيا يريد اغتنامها في أسرع وقت. لكن لكل فرصة عدد من التحديات. والتحدي الأساسي لتركيا أن تطوير هذا النوع من التكنولوجيا والصناعات يحتاج إلى كفاءة بشرية عالية وقدرات فنية مرتفعة، وهذا لا يأتي إلا من خلال نظام تعليمي جامعي عالي الجودة. وهو تحدٍّ ستحتاج تركيا إلى مزيد من السياسات والإصلاحات فيه والتي لن تؤتي ثمارها إلا بعد سنوات.
أيضاً، تحتاج هذه التكنولوجيا والصناعات إلى تطوير البيئة المحلية بشكل متكامل وليس فقط بيئة عمل هذه الصناعات. ما يعني مزيداً من الإصلاحات والسياسات في الاقتصاد الكلي. أخيراً، وهو الأهم، ستحتاج إلى نجاح النظام السياسي في التقليل من الآثار السلبية الشعبية لمعدلات التضخم المرتفعة والتي يمكن أن تؤثر سلباً على نتائج الانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة في تركيا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.