لقد فتحت لي فتوى الكد والسعي التي تحدث عنها شيخ الأزهر منذ عدة أيام الباب لأدلي بعدة أمور طالما شغلت بالي وتفكّرت بها، وأبدأ أولاً بخلاصة لهذه الفتوى، ثم أعلق عليها.
فتوى الكد والسعاية تعني أن الزوجة حين تكون شريكة بالمال والجهد في تكوين ثروة الزوج فينبغي أن تأخذ نصيباً من المال والربح.
ووردت هذه الفتوى عند المالكية بفضل جرأة الفقيه ابن عرضون بالحق، حيث تنبه لدور النساء في المجتمع البدوي الذي نشأ وعاش فيه، ووجد الرجال أهل حروب وقتال؛ فتحملت النساء أعباء الحياة: من شؤون البيت والطبخ والحمل والولادة والتربية.. إلى أعباء الزراعة والرعي.. جهد زائد بذلته، فلابد أن يُقَدَّر، وأن تترتب عليه حقوق إضافية، أي زيادة على ما قرره الشرع لها (في الظروف العادية)؛ معتبراً ذلك من مقتضى العدل والإنصاف.
وكان السوسي أحد الفقهاء المغاربة قد وصف يوميات المرأة هناك فكتب: "تقوم سحراً لتطحن، ثم تسخن ماء الوضوء مع الفجر، ثم تحلب البقرة، ثم تسقى من البئر بالقُلَّة على ظهرها. ثم إن أرادت أن تحطب فإنها تبكر. ولا تطلع الشمس إلا وهي وراء الروابي (في الحقول) ثم لا تكاد تدخل الدار حتى تهيئ الغداء وترضع ولدها…".
وكان جهدها محل تقدير في مجتمعات ذلك الزمان، لذلك سُميت المرأة في اللهجة الأمازيغية "تامغارت"، والكلمة مؤنث أمغار أي الشيخ رئيس القبيلة، وأطلقت الكلمة على المرأة باعتبارها رئيسة الأسرة وسيدة البيت.
وبالطبع: لم تمر فتوى ابن عرضون بسلام، لأن كثيرين عارضوه، وإن كان هناك من أيده واهتم بفتواه من فقهاء المالكية المغاربة، واستدلوا على الفتوى بأن حرمان أحد الزوجين من حقه في السعي والكد في تكوين وتنمية ثروته يدخل في باب أكل أموال الناس بالباطل: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) النساء: 29.
واستدلوا أيضاً بقصة عامر بن الحارث وزوجه حبيبة بنت زريق، حيث كان عامر قصاراً، وزوجته ترقم الأثواب، حتى اكتسبا مالاً كثيراً، فمات عامر، وترك الأموال، فأخذ ورثته مفاتيح المخازن والأجنة، واقتسموا المال، ثم قامت عليهم زوجته حبيبه، وادعت عمل يدها وسعايتها، فترافعت مع الورثة لعمر بن الخطاب، فقضى بينهما بشركة المال نصفين، فأخذت حبيبة النصف بالشركة، والربع من نصيب الزوج بالميراث، لأنه لم يكن له أولاد يرثونه، وأخذ الورثة الباقي.
ثم مشت الفتوى، وقضى بمثلِها كثير من القضاة والفقهاء عبر العصور، وبها أفتى الأزهر عبر تاريخه، أي بما استقر فقهاً من ضرورة حفظ حقوق المُساهمين في تكوين وتنمية الثّروات والتّركات، فأحيا فتوى الكدّ والسّعاية بالتزامن مع زيادة مُشاركات النساء في تنمية ثروات أزواجهن، وخروجهن لسوق المال والأعمال:
فالزوجة قد تشارك (1) بالوقت أو الرأي أو العمل الجسدي في مشروع أو شركة أو صنعة ونحو ذلك، أو (2) تشارك بمالها الذي ملكته من هبة أو هدية أو ميراث أو مهر أو حليّ أو راتب أو غيره، وتستحق التعويض.
وحقّ الكدّ والسّعاية للزوجة لا يُقدَّر بنصف ثروة الزوج أو ثلثها، وإنما يُقدّر بقدر مالِها المُضاف إلى مال زوجها وأرباحه.
ونوّه الأزهر لأن حق الزوجة لا يتعلق بانتهاء الزوجية -بوفاة أو انفصال- وإنما هو حقّ للمرأة حال حياة زوجها وبقاء زوجيتهما.
ولا يُغني التزام الزّوج بالنّفقة على زوجته عن حقّها في كدّها وسعايتها.
هذه الفتوى الأساسية، ولكن لي بعض الإضافات والملاحظات على أمور وردت فيها:
أولاً- قالوا في فتوى الكد والسعاية: "إنها تجب لمن شارك في تنمية الثروة فقط، أما من لم تشارك فيها بالعمل أو تنميتها فلا سعاية لها".
ولنفرض أن الزوجة لم تسعَ على شيء، فقط تفرغت للبيت والأولاد، والسؤال:
1- أليس لها أي شيء إضافي سوى ما حدده الفقهاء من السكنى والطعام والحاجات الضرورية؟
فالمال عصب الحياة، والتملك غريزة وحاجة، والمرأة لا تريد موت زوجها وميراثه والتركة، وإنما تريد البحبوحة مع وجوده، بحيث لا تشعر بالإهانة أو بأنها متطلبة، أو طماعة، أو أنها تسأل ما ليس لها.. وهي تطلب أموراً من التحسينات أو مما لم يكن حاجة وأصبح كذلك (مثل موبايل، أو نفقة لأمها أو هدية لصديقة..).
ولقد بيّن الله تعالى أن السائل والمحروم لهما حق معلوم، غير الزكاة، أفلا يكون للزوجة والشريكة قسم من مال الزوج، خالصاً لها فتتصرف فيه كيف تشاء؟
2- كانت المرأة في عصر الرسالة تعيش في كنف زوجها، فإذا مات أو طلقها، كانت مكفولة بالسكن والنفقة حتى تنتهي عدتها، فيتزوجها على الفور صحابي آخر، حتى لكان لا يستطيع الانتظار فيعرض بخطبتها. فإذا لم تتزوج رجعت لبيت أهلها، أو أنفق عليها أبوها أو أخوها، أو بيت مال المسلمين.
واليوم تغيرت ظروف العصر، وضاع خوف الله، ولم تعد يد الأزواج كلهم يد أمانة، فكثير من النساء يموت زوجها فتُخْرج من بيتها عنوة، أو يطلقها زوجها طلاقاً مفاجئاً وتعسفياً، ومثل هذا الزوج قد يطردها من البيت، ويمنعها من قضاء العدة فيه، ويحرمها من نفقة العدة. فكيف تعيش؟ وكيف ترفع دعوى نفقة والمحاكم غالية؟
وإذا انتهت عدتها لم تجد زوجاً آخر، ولم تجد من الأهل من ينفق عليها أو يحتويها، وأصبحت هناك صعوبات إضافية مع الثورات من شروط للإقامة والجنسية والسفر، ومع وجود بعضهن وحدهن ببلد غريب بعيد أصبحت حاجة الزوجة للمال أكبر وآكد وأقوى ريثما تتدبر أمورها، أو تعود لوطنها، فينبغي أن يكون بعض المال بين يديها، أو تكون لديها مدخرات سبق وجمعتها أثناء الزوجية تحسباً ليوم صعب.
ومن التغييرات رفض الأهل طلاق بناتهن حين تستحيل الحياة الزوجية، فتصل الزوجة والأولاد لمراحل الاكتئاب الخطير، والأمراض العضوية.. والأهل يرفضون احتواءها إما لاعتبارات مادية، أو اجتماعية، ويجبرونها على التحمل والشقاء.. فلو كان لها -حق الكد- لاستطاعت التصرف واتخاذ القرار بحرية، والاستقلال والنجاة بنفسها وأولادها من حياة بائسة.
ثانياً- لفت الأزهر إلى أن أعمال المرأة المنزلية لا تدخل في حقّ الكدّ والسّعاية، فعمل الرّجل خارج المنزل خدمة ظاهرة لزوجته وأهل بيته حتى يُوفر لهم النفقة، وأعمال المرأة المنزلية خدمة باطنة لزوجها وأبنائها حتى يتحقّق السّكن في الحياة الزّوجية.
وملاحظتي أن هناك فروقاً جوهرية:
– فأهم مهام الرجل وأحق حقوق الزوجة "النفقة"، وإذا لم ينفق يحق لها طلب الطلاق؛ في حين اتفقت المذاهب الأربعة على أن الخدمة غير واجبة على المرأة.
– والزوج يعمل فقط 8 ساعات، ويتقاضى راتباً لقاء ذلك، ويعتبره ماله الخاص ولا ينفقه كله على بيته (فلنفسه حظ وافر منه فيتفكه به)، كما أنه يترقى ويتلقى علاوات ويكتسب خبرة، في حين جهد الزوجة في البيت والحمل والولادة يهلك جسدها ويسارع بشيخوختها لأنه 24 ساعة، وكله خالصاً لأهل بيتها، وليس لها شيء لا علاوات ولا راتب، ولا حتى التقدير الكافي المرضي. بل دأب بعضهم على إحباطها والتأكيد بأن البيت بيته والمال ماله والأولاد أولاده، وكأن الزوجة ليس لها أي شيء!
– والقضية الأهم: أن الزوجة اليوم تتفضل وتخدم زوجها، بل لا تكتفي بذلك، وإنما تخدم أهله وضيوفه، وتحرص على إعداد الطعام الصعب، وتحضر لكل فرد ما يرضيه وما يشتهيه، وتوفر على زوجها المال حين تختار الأسواق الرخيصة وتتصيد التخفيضات.
– وتمسك الصغار وتحبسهم لتوفر له الهدوء ليعمل وينام (وقد أسكنها شقة صغيرة)، كما أن بعض الأزواج يسكنها مع أهله، أو بسكن غير مناسب، أو يلقي عليها مهامه، فتُحضر أغراض البيت وتشتري الخضار وتوصل الصغار للمدرسة، وتعوض غيابه وتقوم بدوره، وقد تعينه وتشجعه ليتابع دراسته، وتلاحق دراسة الأولاد وتحرص على تفوقهم، وتصبر وتحتسب على ما تلاقيه من إرهاق.
وبالتالي: أليس لها أي شيء مقابل ما توفره على الزوج من أجور المُدَرِّسين الخصوصيين والخدم والسائق وغيره؟
ولقد كانت النساء في عصر الرسالة يجاهدن (والجهاد ليس فرضاً عليهن) فكان الرسول (عليه السلام) يعطيهن "ويحذين من الغنيمة"، وأقصد حين تقوم بمهام لها أجر، فيجب أن يجير الأجر لها.
3- والأمر الأهم أنهم يفتون أن عمل المرأة يحتاج لإذن الزوج، وأن المرأة محبوسة عليه، وفرقوا بين الشريفة والوضيعة ببعض الفتاوى، فكيف إذن يعتبرون تضحيتها، ومكوثها بالبيت وهي طبيبة ومهندسة لا يستحق أجراً؟
والزوجة حين تكون طبيبة، أو مهندسة أو محامية تكون قد كدت وتعبت وسهرت الليالي، وأنفق أهلها أموالاً طائلة لتتعلم وتحصل على شهادة عالية، فيأتي الزوج فيمنعها من العمل بلا وجه حق (لأنه لا يحبذه، أو غير مقتنع بعمل المرأة، عنده راتب جيد…)، أفلا يحق لها تعويض مالي عما أنفقته؟ وتعويض معنوي عن تعبها، وعن بقائها هكذا وقفاً معطلاً بالبيت وزوجها غائب، وليس لها أولاد بعد؟
خاصة أن هناك من يفتي بأن المرأة إذا توظفت وقصّرت بواجباتها، فيكون عليها تعويض زوجها بالمال. فعلام لا يعوضها هو؟
فأحياناً يكون راتب الطبيبة عشرات الألوف، فإذا منعها من العمل، فمن المروءة والعدل تعويضها بقدره.
4- وفي الشرع يمكن ويحق للزوج أن يطلق زوجته في أي وقت، فكيف ستتمكن الزوجة حينها من إيجاد عمل وهي بلا خبرة؟ وكيف ستجد عملاً وقد تقدمت بالعمر؟ وما التعويض عن وقتها وشبابها الذي أذهبته بخدمة زوجها فلما أسنت واحتاجت ماله تركها!
وهنا تأتي أهمية متعة المطلقة التي ذكرها القرآن في عدة مواضع، وأكد الفقهاء أنها تجب لكل مطلقة، وهي تشبه فتوى الكد وتؤكدها لأنها تعويض لها لما قدمته، وتشبه مكافأة نهاية الخدمة، فيجب في هذا الزمان تفعيلها.
ثالثاً- وأعلم أن هناك من قال: "تقنين فتوى كهذه يقتل التكافل داخل الأسرة، ويؤدي لبهوت العلاقات وجفافها، فالأسرة ليست سوقاً ولا شركة استثمار"، ولكن كثيرين يتعاملون مع الأسرة بهذه الطريقة، حين يتحدثون عن راتب الزوجة، وحق الزوج فيه، ويسوغون له إكراهها على أمور… وينسون المودة والمرحمة!
هذا أولاً، وثانياً: صحيح أن العلاقة الزوجية تقوم على المودة، ولكنها تقوم أيضاً على الحقوق المادية: فالزوج له العلاقة، والزوجة لها النفقة. وديننا الإسلامي اهتم بالأموال، وجعلها حلولاً وتعويضاً حتى للأمور المعنوية، حين شرع الأرش والديات، وجعلها بالأمور المحببة فالمهر للزوجة، والغنيمة للمقاتل، والأجر للعامل، وحث على الهدية والهبة والصدقة، فعلام نتحرج من ذكر المال بالحياة الزوجية؟
وثالثاً- الزوج لو حدد للزوجة معاشاً لبدا الأمر وكأنها خادمة، ولكن لو ترك لها أن تأخذ منه بالمعروف، كما حكم المصطفى لهند زوجة أبي سفيان، فهذه هي العدالة، ومن المرحمة والمودة أن تترك مساحة للكرم والنخوة.
والخلاصة: يجب أن يكون لكل زوجة حق بالكد والسعي، ولكن بطريقتين:
الأولى: يجب أن يكون لكل زوجة حق من مال زوجها بالمعروف (سوى النفقة المعتادة والمفروضة)، لأن الزوجة السوية الصالحة تكون راعية ومؤتمنة، وتستحق أجراً ومكافأة إضافية، لتعيش مرتاحة وفي بحبوحة، وتنفق وتدخر وتتصدق.
الثانية: تكون خاصة للزوجة التي تشارك بمالها أو جهدها في مشروع يدر مالاً، فعندها يجب التقنين، وحفظ حقوقها وأرباحها، وتكون ذمتها المالية التجارية منفصلة عن ذمة زوجها، فله ربحه ولها هي ربحها الخاص.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.