"الثورة ليست فطيرة تعجنها في الصباح كي تأكلها في المساء، إنها مخاض عسير قد ينجب لك ملاكاً وردياً أو وحشاً يلتهم كل أحلامك، وهي مسار طويل، لا يدوم أياماً أو سنوات، بل مراحل ومحطات، ويستهلك أجيالاً"
1/ الإهانة: عهدة الغضب التي ولدت ثورة الابتسامة
في الوقت الذي لا يتوقعه أحد تأتي الثورات بغتة كزلزال في اللحظة التي يعتقد فيها الرؤساء والسلاطين أن كل شيء على ما يرام، وأن الوضع خامد هامد. يدفع ذلك السكون المخادع "الحكام" والبطانة إلى التمادي في التعسف، تحت وهم القوة، ثم فجأة تتسبب حادثة بسيطة إلى إطلاق الشرارة الأولى، فتكون الزناد الذي يطلق رصاصة الرحمة التي لا تعود.
هذا ما وقع في الجزائر، يوم 19 فبراير/شباط 2019، تلك البلاد التي في عاشت عهدتين من حكم بوتفليقة الممتدتين بين 1999/ 2008، حداً مقبولاً من الممارسة الوظيفية لرئيس دولة محنك في العلاقات الخارجية، لكن مروره القسري نحو عهدة ثالثة بتعديل الدستور كان له الأثر الواضح في السنوات التي تلت، إذ أصيب بمرض في أواخر تلك العهدة، وفرض فرضاً في العهدة الرابعة، ليحكم قعيداً على كرسي متحرك، وفي وضعية غير لائقة لحكم بلد، ثم أريد له وهو شبه جثة أن يستمر لعهدة خامسة، فكان كفيلاً بتلك الرغبة وتلك الصور أن تولد "إهانة تاريخية" جمعية وفردية للجزائريين، الذين تيقنوا أنهم تحت وصاية "قوى غير دستورية"، تختفي وراء شبح الرئيس للاستمرار في الحكم ضداً لصورة البلد والأعراف وأخلاق البشر، وبالتجاهل التام لذكاء الشعب.
لخّص الناشط السياسي وعالِم الاجتماع الجزائري ناصر جابي "وهم القوة" التي دفعت السلطة للذهاب في خيار انتحاري بقوله: "السلطة لا يمكنها أن تتوقع" ما حدث، لأن الحكام "يعيشون في عزلة، ومنقطعون عن الشعب منذ ثلاثين سنة"، أما زبير عروس، الباحث في علم الاجتماع فلخّص المشهد بجملة مكثفة: "سبب هذه الثورة هو الإهانة التي أصبح يشعر بها الجزائريون بكل فئاتهم، بعدما أصبحوا أضحوكة العالم". ولزاماً كان الجواب عن تلك الأضحوكة بحراك شعبي لإنهاء "المهزلة"، يوم 22 فبراير/شباط 2019.
2/ صراع الهوية وغياب التنظيم: الغرغرينا التي نخرت عملاق الطين
صحيح أن الحراك بدا قوياً بأعداده المهولة، وكان مثالياً، سلمياً، صنع مشاهد راقية جلبت له وصفاً مبهراً على الصعيد العربي والدولي، هو "ثورة الابتسامة"، لكنه ولد بعفوية في الشارع لا داخل أحزاب ومؤسسات، أو في خضم نهضة فكرية وسياسية.
نشأ فجأة كردة فعل عن إهانة، وأينع مثل زهرة وسط صحراء سياسية قاحلة، سرعان ما تأفل لانعدام الجذور، ثم للمناخ الراعي للنمو والبقاء. شعر قطاع عريض أنه قوة قادرة على تغيير النظام برمته، بعد استقالة بوتفليقة، وأهمل في المقابل تلك القوى التي راحت تنفح في رماد نيران الصراع الثقافي بين التيارات العروبية والأمازيغية، وتحديداً بين "القبائل والعرب"، هذا التهارش الفج حول العرق واللسان، دون البحث عن مشروع وفاقي على المدى المتوسط والبعيد تقوده نخب تصالحية واعية، تكرّس القبول والتعايش لبناء مجتمع أمة التدمير المتبادل.
ظهر جلياً أن شرائح ونخباً لا تريد أن ترتقي إلى مفهوم الأمة، فامتلأت الساحة بمصطلحات مقززة، ثم تطور الأمر لصراع الراية الأمازيغية وراية أولاد نايل، فحرب السيطرة على سلالم البريد المركزي لمقابلة كاميرات التلفزيون والقنوات المحلية، كما لو أن كل طرف كان همه "إثبات الذات"، لا الدفاع عن عقد اجتماعي، شبيه على الأقل بذلك الذي توصلت إليه أحزاب وطنية وعلمانية وتروسكية يسارية، تحت سقف سانت إيجيديو بروما العام 1994. غير خافٍ تماماً أن قوى استثمرت في الصراع الثقافي العربي الأمازيغي لتفتيت الحراك من داخله، فثمة قناة تلفزيونية مقربة من دعاة العهدة الخامسة، استضافت فرحات مهني، زعيم حركة الماك الانفصالي، ليدلي بتصريحات قابلة لتكون استثماراً مفيداً في صب الزيت على النار. ثم كانت أفواج من الحراكيين تطرد كل جمعة رئيس حزب أو شخصية من "الحق في التظاهر"، وأكثر من ذلك طَرَد حراكيون الدكتور لالماس بتهمة الخيانة، بمجرد قبوله فكرة الحوار ونقل أفكار لممثلي النظام.
بات واضحاً أن "الثورة البيضاء" ارتكبت خطأً جسيماً عندما عارض أنصارها فكرة التنظيم والتأطير والتمثيل والوفاق، ظناً أن ذلك يُعرّضها للتفكيك والضرب والاضمحلال، فيما تؤكد تجارب جزائرية محلية أن ذلك أكبر خطأ، لأن العكس هو الصحيح، إذ كان يكفي مثلاً الرجوع إلى نماذج وطنية قريبة، مثل ثورة التحرير الكبرى، التي نجحت لسببين، هما القيادة الوطنية الجماعية والهياكل التنظيمية، ثم تجربة سانت إيجيديو في التقاء التيارات المختلفة ذات المرجعيات المتناقضة حول بنود عقد سياسي، ثم إلى تجربة اجتماعية لبني ميزاب بغرداية، عبر نظامي مجلس عمي سعيد وهيئة العذابة، اللذين سمحا للإباضيين بالاستمرار في التاريخ على مدار 1200 سنة، فيما ضاعت إباضيات دول مجاورة بين أقدام الأيام.
3/ حراك بلا مشروع أو ديكتاتورية الشارع
بعد مرور ثلاث سنوات انتهى الحراك كقوة شارع، ذلك أنه كان بذرة حملت عوامل فنائها بين أحشائها، افتقرت للرؤية فيما يخص التنظيم والتأطير، ثم لغياب المشروع. لا يعقل أن تعيش ثورة دون أساسيات عرفت تاريخياً بفلسفة التنوير التي سبقت التحولات الكبرى عبر الثورة الفرنسية، أي بـ"الخروج القص"، ويقصد به بناء إنسان يتمتع بالاستقلال الذاتي والمعرفة والحرية. وثمة مانعان أساسيان يحرمان الفرد من تحقيق ذلك، هما "الكسل" و "الجبن"، حسب ما يؤكده إيمانويل كانط، وهو أحد أشهر فلاسفة التنوير.
لجأت شرائح واسعة إلى تطبيق ديكتاتورية الشارع، وهي التي كانت تسعى لأنهائها في المؤسسات، إذ يرفضون الاختلاف وحرية الآخر، مزاياه الشخصية، والخصوصية الثقافية والألسنية للجزائريين، كما أن النخبة، سواء تلك الجامعية أو الإعلامية، أو الكتاب والفنانين، وجرّاء عاملَي الكسل والجبن لا تزال تعاني سنوات من التخلف الأكاديمي.
لا على صعيد الحركة، بل على صعيد إنتاج الأفكار الجديدة، وتغذية شرايين المجتمع بالأنماط اللازمة في التفكير فيما يخص الحريات الأساسية والفردية والمرأة والشباب وحقوق الإنسان والفكرة المدنية والتداول بين الأجيال، وفتح الاقتصاد لتحرير الفرد، وغيرها من المقاربات الحداثية التي أنتجت دولاً ومجتمعات نراها كل يوم في الواقع والشاشات، وفي أنماط الحكامة الرشيدة والمراقبة عبر هيئات انتخابية ذات كفاءة ونزاهة، منتجة للقدوة والرمز والمثال، فننبهر بنموذجها في الحكم والإنتاج والاقتصاد، ثم ننتكص عن اكتساب العشر من تجاربها، بل نمارس التواطؤ بالصمت وعدم التنبيه والجهر بالحقيقة والركون في الوضع الراهن.
أسهمت تيارات ذات خطابات راديكالية في استعداء المؤسسات الأمنية، بشكل خلق حالة ريبة من تقاطعها مع أجندات دولية، ذكرت شرائح واسعة بأجواء التسعينيات، فيما كان التدرج السياسي يقتضي مرونة تأخذ بعين الاعتبار ما يمكن تحقيقه، وفقاً لقاعدة "ما لا يُدرَك كله يدرك جله" لا ما يمكن الحلم به.
ويمر ذلك عبر التنظيم للتفاوض، بما أن الحراك ثورة سلمية لا حالة ثورية، حول تغيير أو تعديل قواعد اللعبة السياسية قبل الانخراط فيها، آخذاً بعين الاعتبار الأوضاع الجيوسياسية الجهوية المتسارعة، كي لا تكون الحركة قفزة في الهواء.
وعدم حسم تلك النقاط أسهم بشكل أو بآخر في توزيع أوراق الشارع بين مساند ومعارض، بين مشارك ومقاطع للانتخابات الرئاسية، التي جاءت بعبد المجيد تبون رئيساً للجمهورية، ثم تكرس الانشقاق حول ورقة الطريق، باستنزاف تلك القواعد غير المتمرسة في السياسة، ولا ملكت رصيداً فيها، بما أنها ولدت في صحراء سياسية، وفي نمط دولة ذات نظام سياسي مؤطر لم يسمح على مدار عقود طويلة بنشأة مجتمع مدني مستقل ومبادر، علاوة على تبني نمط اقتصادي ريعي أنتج زبائن لا مواطنين، ومستفيدين لا سياسيين، وشركات مقاولة لا أحزاباً، ضمن مسار تحوّل فيه العمل السياسي لوسيلة، لا من أجل تغيير الأوضاع العامة، بل من أجل الخلاص الفردي بواسطة الارتقاء الاجتماعي والتربح مالياً واقتصادياً مما تديره تلك الترقية في المربع المغلق.
4/ المستقبل: هو الواقع الذي تصنعه لا ما تحلم بصناعته
رفع عبد المجيد تبون شعار "الحراك المبارك"، ثم قدم ورقة اعتماد سمّاها الجزائر الجديدة. نظم انتخابات برلمانية وبلدية شهدت نسب مشاركة ضئيلة، لكنها خلت من التزوير، وعكست بالمقابل الحياد الأسطوري للمجتمع عبر العزوف، إما بسبب عدم الموافقة على نمط الحكم برمته، أو جراء اللامبالاة، واللامبالاة عن تحديد المصير مشكلة خطيرة، تؤكد أن المجتمع "غير سياسي"، ومن لا يمك الحس السياسي لا يمكنه إحداث التغيير.
من الساذج ومن غير المعقول قط أن تطالب فئات غير منظمة ومشتتة برحيل النظام السياسي بغتة، كي تحل محله قوة عمياء لا تملك غطاء سياسياً وممثلاً شرعياً ومنظماً، ثم إنه وبعد ثلاث سنوات من التيه والمراوحة في المكان عادت الأحزاب التقليدية، كحزب جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي والمستقبل وحمس والبناء، وثلة من الأحرار للبرلمان والمجالس البلدية، وخرج الحراك من الشارع عائداً إلى البيت، بعد أن رفعت قطاعات منه شعاراً سريالياً غزا العالم.
"فليرحلوا جميعاً"، وكان الأمر كأن شيئاً لم يكن.
يتسرع البعض في إطلاق الأحكام المتسرعة لمناهضة تاريخ يسير ببطء ليصنع أشياءه المتينة، فيقولون في شبه يأس مطلق "انتهى الحراك"، كما لو أن ثورات التغيير تدوم يوماً وتنقضي في ليلة، وفعلاً فإنه بالنظر للعوامل الواردة قبلاً فقد انتهى الحراك كحركة في الشارع، رحل بوتفليقة وزمرته فانتفى مفعول الإهانة، لكن فكرة الحراك لا تموت؛ إذ إنها ترتبط بحركة التاريخ والتطورات والأسباب والمسببات.
ففي العام 1988 اندلعت أحداث أكتوبر (تشرين الأول) التي صنعت واقعاً مغايراً اختلف بالكامل عمّا كان سائداً منذ 1962، سمح بميلاد أحزاب وجمعيات سياسية وصحافة مستقلة وحرية التعبير والتظاهر، ثم تكرر المشهد في العام 2019 عبر الحراك، لا يتعلق الأمر بروزنامة أو موعد مسبق، بل بالسبب والمسبب، والعلة والمعلول، بالفعل وردة الفعل.
مرت الذكرى الثالثة للحراك بلا ذكرى، لأن الضمير الجمعي يرفض إعادة إنتاج ما لم ينتج شيئاً مما كان يتوقع، أو كان حركة حققت بعض الأهداف اللحظية، أو كاشفاً بالمقابل عرياً ومحدودية فكرية ومشروعية، فالذي لا يحفر عميقاً لا يُشيد عالياً.
5/ المخرج: إصلاح شامل في السياسة والاقتصاد والحريات
وبالمطلق لا تعني نهايته في الشارع البتة أن النظام الرئاسي الجديد، الذي حمل ما سمّاه "الجزائر الجديدة" سينام مطمئناً بعد ليلة 22 فبراير (شباط)، فعليه أن يفتح ورشاته الخاصة في التماهي مع مطالب التغيير العميقة فيما يتعلق بالحريات السياسية والحقوقية والإعلامية. قد يكون جواب عبد المجيد تبون "بأن مطالب الحراك لُبّيت، ولم يعد هنالك من داع للخروج للشارع بدل الدخول في المؤسسات"، مقنعاً إزاء افتقاد كتل الحراك المتلاطمة لمشروع بديل، وصحيحاً بالنسبة للذين لم يكن لهم هدف غير رحيل بوتفليقة، غير أن رزمة من القوانين التي حشرتها زمرة بوتفليقة لا تزال سارية المفعول، مثيرة الضبابية، بالتعارض مع الحقوق الطبيعية، حتى إنه لا يمكن التفريق بين الحق في التظاهر السلمي والتجمهر غير المسلح، وحرية الرأي والقذف، وما بين النقد والتحريض، ونقل الحقيقة والإثارة، فالنقد لا يعني بالحتمية العداء، بل الرغبة في التطوير والوصول إلى التوافق بدل الصراع. وبديهي أن تلك القوانين الرادعة المتعارضة مع جوهر الدستور التي أُعدت لترويع الشارع قبل الحراك من ميلاد الحراك في حد ذاته، غير أنها بقيت نصوصاً مطبقة، في حاجة لإعادة النظر كي لا تذهب الجزائر الجديدة ضحية جدر وأسوار بنتها الجزائر القديمة للقضاء على كل رغبة أو مسلك للتغيير الحقيقي الناجع.
كما يتطلب الأمر على الصعيد الاقتصادي، وهو الأهم، تغييرات جذرية منفتحة على الاستثمار الخارجي، وفتح السوق على مصراعيه، والبحث عن شراكات للإنتاج والتصدير، لخلق الثروة والتصدي لغول البطالة المرشحة للارتفاع مستقبلاً على الصعيد العالمي، بسبب تداعيات كورونا والغلاء والحروب.
إن عدم التكيف مع المطالب بالاستيعاب لا الردع يجعل مسببات الحراك كامنةً بين التفاصيل، لأنها مرتبطة بأسباب، تماماً كما وقع خلال الثورة الفرنسية. عبثاً حاول متنورون في شخص الدكتور جيلبير، الذي كان ثورياً حد النخاع، وبطل "الثورة الحمراء" لألكسندر دوما، تنبيه الملك لويس السادس عشر للإصلاح من الداخل، والتنازل قليلاً لحركة الشارع بعد إسقاط سجن الباستيل، وقد أبدى الملك النية في ذلك وكان الوقت متاحاً، غير أن مقاومة زوجته ماري أنطوانيت والحرس القديم للمشروع، ثم العجز عن تحسين الأوضاع الاجتماعية والمعيشية، كانت سبباً في ثورة جياع عارمة، تجاوزت فكرة الإصلاح إلى استئصال الملكية من الخارطة والتاريخ.
واللافت للنظر أن ذلك وقع بسبب كلمتين خلّدهما التاريخ، يوم دخلت الحسناء مارلين شمبري، بائعة الزهور، رفقة قارعات الطبول على رأس محتجين على قصر فرساي، وأطلقت قبل أن يُغمى عليها جوعاً بين يدي لويس التاسع عشر: "الخبز يا مولاي".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.