يلعب الاقتصاد دوراً مهماً وحيوياً في نهضة الأمم، فلا نهضت أمة بدون اقتصاد كفيل برفع كفاءتها من العمل لتواكب التطور الحادث في الدول الأخرى ولاسيما دول العالم الأول، والمضي قُدُمَاً في تحقيق رغباتها من الاكتفاء الذاتي. وتعتبر المعرفة عنصراً مهماً وأساسياً في خدمة الاقتصاد وتنمية المجتمع، فلم تتقدمْ دول العالم الأول إلا بالمعرفة ونور العلم والمخزون المعرفي لدى هذه الدول. ويمكن اعتبار عمليات البحث العلمي ومخرجاته التي تخدم المجتمع مقياساً لتقدم الدول ونموها الاجتماعي والاقتصادي والتقني، وهذا يجعلها تتفوق اقتصادياً وعسكرياً وتكثر مساهماتها الثقافية والعلمية في الحضارة الإنسانية والعالم بأسره.
وقد أدى التزايد في استخدام البحث العلمي لتحقيق الرغبة الاقتصادية لدى بعض الدول إلى زيادة الفجوة بين الدول النامية والدول المتقدمة.
يرتبط نجاح جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية بتطور المخزون المعرفي وتحقيق مستويات عالية من التنمية التكنولوجية.
خير مثالٍ على ما سلف ذكره هو الولايات المتحدة الأمريكية، التي تتخذ من البحث العلمي سبيلاً سامياً لها في التقدم والازدهار، والدليل على ذلك أنها تعتمد على إعادة شحن الجامعات بالعنصر البشري، والعنصر التقني، أما العنصر البشري فهم علماء الجامعات والمراكز البحثية وحتى طلاب الدراسات العليا من الماجستير والدكتوراه وغيره، ولِذَا تهتم دول العالم الأول بالتعليم كشرط أساسي لتتقدمَ للأمام دوماً، وذلك عن طريق تقديم المنح الدراسية مثلاً والتي تتكفل من خلالها بمصاريف الطلبة الذين يتوقع أنهم سيَخدِمُون الدولة التي منحتهم المنحة، وبذلك تضمن لنفسها جودة المعاملة، والتقدم والازدهار، والرقي العلمي والصناعي.
أما عن العنصر التقني فيتمثل في استخدام التقنيات الحديثة والاعتماد عليها في تحسين الدخل العام للبلد، فمثلاً اليابان تشتهر في المقام الأول بصناعة الروبوتات، وتقول الإحصائيات إن العنصر البشري سيُستبدَل بالروبوتات في المستقبل القريب في اليابان، نظراً لكفاءتها، ولأنها تستطيع القيام بالمهام الصعبة، فبذلك توفر هذه الدولة.. اليابان مثلاً، حَق العِمالَةِ البشريَّةِ، وسيزيد ذلك من معدل التوفير الشهري، وبالتالي تحسن الاقتصاد نظراً لوفرة مرتبات العنصر البشري المُستبدَل بالروبوتات، حتى وإن كان هذه الوفرة محدودة، لِذَا فإن التقدم الاقتصادي لم ولن يتم إلا بعد الاهتمام بالبحث العلمي والتعليم، ولاسيما التعليم الجامعي والأكاديمي.
باتت دول العالم، ولاسيما دول العالم النامي، تتسابق في الحصول على عنصر علمي وتعليمي عالي المستوى، لتحقق رغباتها من التقدم التكنولوجي والأكاديمي غير المسبوق بالنسبة لها، تحقيقاً لرغباتها في امتلاك أقوى اقتصاد، حتى تُنَافِسَ الدولَ المُتقدِمة، ألا وهي دول العالم الأول.
حيث إن البحث العلمي هو المشاع الذي يشعُّ نوراً وهاجاً، ينيرُ الطريقَ الوحشيّ المُظلِم لدى هذه الدول النامية، وأيضاً البحث العلمي هو النواة التي تتركز حولها كل مقومات الحياة الاقتصادية الأخرى، وكذلك الدول المتقدمة أيضاً، وبعض البلدان النامية، حتى تُحقِقَ هذه الدول رغبتها في توفير بحث علمي قوي، حتى تحصل على لقب دولة علمية متقدمة، وليست مثلاً دولة فنية متقدمة.
لأن البحث العلمي هو الأساس الذي يرتكز ويعتمد عليه كل مكونات الحياة الأخرى، فمثلاً تصوير الفيلم الذي هو أساس التقدم الفني يعتمد على الكاميرا واستخدام أحدث الكاميرات، وصناعة الكاميرات في أحدث صورها يعتمد على البحث العلمي، ولاسيما البحث العلمي الفيزيائي وعلم البصريات مثلاً، ولن نتمكن من صناعة الكاميرا والميكروفون المستخدمين في تصوير الفيلم إلا بعد أن نرفع القبعة للعلماء والباحثين الذين يصلون الليل بالنهار داخل معاملهم ليطورا مثل هذه الكاميرات، أي أن البحث العلمي كما قلنا هو النواة الأصليَّة الأصيلَة التي تعتمد عليها كل مقومات الحياة.
ولنؤكد فكرتنا.. دعونا نوضح بمثال آخر، ألا وهو الدواء، حيث إن صناعة الدواء تعتمد على استخدام أساليب قويِمَة واضِحَة من مخرجات البحث العلمي، وكذلك أيضاً لتطويره، فمثلاً صناعة دواء مُتقدِم يعالج وباءً مثلاً أو مرضاً نادراً يصيبُ الأشخاصَ والمواطنين، فبالتبعية سوف يحافظ على هذه الأشخاص ويحميهم من الموت، وبالتالي لن تقل نسبة السكان والبشر وهكذا، وبالتبعية لن تقل نسبة العِمَالة البشرية المُعتمَد عليها في الصناعة، أو أن على سبيل المثال، هناك دواء يعالجُ مرضاً نادراً يوفِرُ ويلغي إجراء عملية جراحية تتكلف عشرات الآلاف من الدولارات للأشخاص الذين يُعالجون على نفقة الدولة مثلاً، فبالتالي قد وفَّرَ هذا الدواء ملايين الدولارات لهذه الدولة، ولعلَّك تتساءل أنت -قارئي العزيز- ما دخل الدواء بالاقتصاد، فأقول لك إن هذا مثالاً يوضح فكرة أن الاعتماد على البحث العلمي في تطوير مثل هذه الأدوية وتحسين جودتها، بالتبعية يحسن من الاقتصاد بشكل طفيف مبدئياً، وبنسبة كبيرة في النهاية، أضِفْ إلى ذلك أن دولةً ما تتفرد بامتلاكها دواءً ما، لا يعرف سر صنعته سوى علماء هذه الدولة، أو أن فكرته وتركيبته معروفة، ولكنَّ هذه الدولة تصنعه بأحدث التكنولوجيات لتوفر وتقلل من سعره نسبياً، فإن هذه الدولة ستكون ذات اقتصاد قوي، والسبب ليس الدواء! ولكن السبب يكمن في البحث العلمي.
نعم.. البحث العلمي، حيث إن العلماء والباحثين هم مَنْ طوَّروا هذا الدواء، ومِنْ ثَمَّ فإن البحث العلمي يدخل في كل شيء، نعم.. في كل شيء حرفياً، حتى أن الماكينات التي تعمل في المصانع هي من مخرجات البحث العلمي، فالبحث العلمي هو الأساس في كل شيء.
هناك مصطلح نَوَد أن نشير إليه، ألا وهو مجتمع المعرفة، وهو مصطلح يشيرُ إلى ذلك المجتمع الذي يتخذ من المعرفة أسلوباً لحياته، ويتخذه أيضاً رئيسياً، وتخطيطياً، وتطبيقياً في شتى مجالات حياته، ليحسن من حياته للأفضل، مًستخدِماً بذلك وبالتبعية أنواع المعارف الإنسانية المختلفة، ليحقق رغباته.. كل الرغبات، مثلاً الاكتفاء الذاتي من مُنتَجٍ ما، وكذلك أيضاً يمكنه استخدامه في اتخاذ القرارات السليمة والرشيدة، وأهم ما يميز هذا المجتمع، مجتمع المعرفة، أنه هو المجتمع الذي ينتج ويختلق المعلومة من أساسها، لمعرفة خلفيات وأبعاد الأمور بمختلف أنواعها، في كل البلاد والدول (أي العالم بأسره)، وليس بلده فقط، فنتمنى أن نكون مجتمعاً معرفياً يتخلق المعارف الإنسانية الخاصة به، ويصنع العلم، ويزفر المعرفة، ويشـهـق العلوم، كي يهتم بمخرجات البحث العلمي، كي يصنع لنفسه التقدم، ولبلده الازدهار، وهذا كان المعنى الاصطلاحي لكلمة مجتمع المعرفة.
وأخيراً، فإن البحث العلمي عنصر من أهم العناصر الحياتيَّة، التي تلعب دوراً مهماً في التقدم والرقي الدولي، والمحلي، وكذلك العالمي، ويجب علينا نحن -الدول العربية- أن نهتم به كثيراً حتى يتسنى لنا أن نصبحَ مجتمعاً معرفياً، يخلق لنفسه الرأي ويتأثر به، ويصنع العلم بالعلم، نعم.. يصنع العلم بالعلم، عن طريق استخدام دائرة المعارف الإنسانية في إنتاج وعمل بحث علمي مُتَقدِم يخلقُ حالة اقتصادية مُنعــَــشـَـة، كي نصنع لأنفسنا بها المجد، والحق يُقال.. أن بعض الدول العربية قد أدركت ذلك مؤخراً اهتمت بالبحث العلمي وخلق حالة علمية خاصة بها، ومن ثم فإن البداية ليست بالكثرة، وإنما بالتتابع، فكما بدأت دولة واحدة، ستلحق بها الأخرى والأخرى إن شاء الله، لننظر إلى مستقبل مُشرِقٍ لدولنا العربية في القريب العاجل.
ودعونا نقول إن البحث العلمي كي يتطور فإنه يلزمه أن ننظر إلى أنفسنا ونعرف كيف نفكر، فالتفكير بداية الرحلة التي تجعلنا نهتم بالبحث العلمي، ويقول كونفوشيوس: "لا يمكن للمرء أن يحصل على المعرفة إلا عندما يتعلم كيف يفكر"، فالتفكير الصحيح في وضع خطة لاستخدام مخرجات البحث العلمي لا يأتي من يوم وليلة، بل من المِراس والتعلُّم المستمر وهكذا، ونقول نحن -كاتب المقالة- اختصاراً: "لن تتقدم أي دولة إلا بالبحث العلمي، ولن تتقدم الدولة نفسها بالبحث العلمي، إلا عندما تعرف كيف تفكر تفكيراً سليماً في كيفية استخدام هذا البحث العلمي ومخرجاته".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.