منذ عام 1991، وفي أعقاب سقوط المعسكر الشيوعي، تتهافت دول أوروبا الشرقية والتي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي أو أعضاء في حلف "وارسو"، المتاخمة لحدود الدول الأوروبية الغربية، على الاصطفاف في طابور الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي الغربي.
في الواقع هناك أسباب كثيرة وراء هذا التهافت، منها دينية/ثقافية، ومنها اقتصادية/سياسية.
الصراعات الدينية بأوروبا الشرقية
فما يتعلق بالدين والثقافة فإن بعض شعوب هذه الدول هي كاثوليكية مثل بولندا، وكاثوليكية/بروتستانتية مثل لاتفيا، أو بروتستانتية/كاثوليكية مثل إستونيا، وكاثوليكية مثل ليتوانيا، وكاثوليكية/بروتستانتية لا دينية مثل التشيك وسلوفاكيا، مع أقليات أرثوذوكسية في كل من هذه الدول.
هذا الهلال الأوروبي الشرقي لديه حساسيات عميقة وبالغة تجاه الروس على هذه الأصعدة المتجذرة في التاريخ والدين والهوية. أضف إلى هذا الشعور بالعار والنقمة على العهد الاشتراكي السوفييتي الذي تمركز حول الهوية الروسية والمصالح الخاصة بموسكو.
هذه الشعوب الأوروبية لديها وعي بالغ الحساسية تجاه تلك الحقبة، وتعتبرها سبباً رئيساً في تخلفها عن الغرب الأوروبي. على أن اللحاق بأوروبا الغربية، دفع بهذه الشعوب، أن تهرع إلى الانضمام أو الركض باتجاه حشر نفسها في دائرة الاتحاد الأوروبي. فالأمنية الكبرى لهذه الدول كمنت في أن تتقدم اقتصادياً عبر الانفتاح الاقتصادي وتطبيق قواعد الرأسمالية الغربية. وتضافرت هذه العوامل مجتمعة، لإضاءة هذه الأمنية؛ حيث إن النجاة من "جحيم" الروس والاشتراكية اعتبر انتصاراً حقيقياً.
ومنذ عام 1991، فإن هذه الحال ظلت الأكثر رواجاً لدى هذه الشعوب لأكثر من عقد ونصف، مع فتور متزايد منذ بضع سنوات، لكن الفتور ينحصر بين أوساط أكاديمية وثقافية لا تحظى بالشعبية أو الشهرة اللازمتين للتأثير الشعبي.
والذاكرة الجماعية لشعوب الشرق الأوروبي أقوى من أي حسابات علمية ودقيقة في اختيار أي وجهة لهذه الشعوب التي تحتفظ بذاكرة سوداء تجاه روسيا.
وفي مقابل هذا الهلال الأوروبي الشرقي، المنفصل والمتنافر من السوفييتية الاشتراكية والروسية الأرثوذوكسية، تقف روسيا وريثة الإمبراطوريتين السوفييتية وقبلها القيصرية لترتكز على الهوية المغايرة للروس مع الأوروبيين. فالروس هم مادة الدولة التي تأسست على الأيديولوجية الماركسية-اللينينية. وقبل ذلك كانت روسيا أرثوذوكسية. وهناك اتفاق شبه عام بين الأكاديميين الأوروبيين والروس، على أن روسيا ليست جزءاً من أوروبا على صعيد الهوية والثقافة والدين والحضارة. فمرحلة النهضة الأوروبية التي بدأت مع بزوغ القرن الثالث عشر، وكذلك موجة الإصلاحات الدينية البروتستانتية التي عصفت بالكنيسة اللاتينية الكاثوليكية في أوروبا الغربية، في نهاية القرن الخامس عشر، ظلت روسيا بمنأى عنها، وهي التي كانت في تلك الأحقاب تعيش تحت ظل الاحتلال المغولي الذي استمر لأكثر من ثلاثة قرون. ثم عاشت روسيا في ظل النظام القيصري لحوالي قرنين ثم الإمبراطورية الروسية لحوالي قرنين أيضاً، ومن ثم دخلت في المرحلة السوفييتية منذ عام 1917 وإلى عام 1990.
وفي كل تلك المراحل كان التمايز والاختلاف والصراع هو ديدن العلاقة الروسية مع دول أوروبا الغربية. حتى إن تحالف الروس مع الدول الغربية ضد هتلر لم يؤد إلا إلى المزيد من تعميق الشروخ بين العالمين الروسي والأوروبي-الأمريكي الغربي على جميع الأصعدة، ومن ثم تعمقت الشروخ أكثر أثناء الحرب الباردة وإلى يومنا حيث انفجر بركان الحرب من هذه الشروخ.
كعب أخيل الروسي
ظل الاقتصاد والظروف المعيشية "كعب أخيل" في النظام الروسي، لذلك فإن "بيريسترويكا" غورباتشوف، إعادة الهيكلة الاقتصادية للنظام الروسي، في نهاية القرن العشرين جاءت كاستجابة للضرورة التاريخية، في إعادة هيكلة الاقتصاد الروسي ليقف على قدميه، بأمل دخوله في تنافس مع الغرب… لكن "بيريسترويكا غورباتشوف" فشلت وانهار الاتحاد السوفييتي.
إلا أن روسيا الاتحادية وهي منهارة اقتصادياً ظلت قوة عُظمى عسكرياً. ومنذ مجيء بوتين إلى حكم روسيا بدأت دماء الإمبراطورية تدب في جسد الدولة، وعادت روسيا ذات هيبة واضحة في العالم في ظل تنامي ما يمكن تسميته بظهور المعسكر المستاء من الغرب، وهو يضم في حضنه خليطاً غير متجانس من الدول، لا يربط بعضها ببعض إلا اشتراكها في هذا الاستياء تجاه أمريكا أولاً ومن ثم أوروبا الغربية ثانياً.
وهذه الدول هي الصين وكوريا الشمالية وإيران وبعض دول جنوب أمريكا إضافة إلى روسيا طبعاً. تلك الدول فشلت في أن تتحول إلى بديل للاقتصاد الغربي الذي تترأسه أمريكا، بل لم تقدر في إيجاد اقتصاد موازٍ أو منافس للاقتصاد الرأسمالي الغربي الذي يدور بالدولار الأمريكي كوقود للماكينة الاقتصادية الغربية.
والأسباب كثيرة وراء ذلك الفشل كثيرة، من أهمها أن السوق العالمية منذ أكثر من قرنين يتعاظم عبر شبكات البنوك والمؤسسات التجارية الغربية التي دبت في جميع زوايا وأركان الأرض بمركزية وعملة غربيتين. فدول محور الاستياء، ما عدا الصين، تعتمد بشكل كبير على الموارد الطبيعية كالنفط والغاز وإنتاج محلي عاجز، مع فارق نسبي بالنسبة لروسيا التي تبيع الأسلحة. لكن الاقتصاد ومستوى المعيشة في هذه الدول، بما فيها الصين، ظل يعاني من التدهور مع ارتفاع في معدلات الفقر والبطالة والتدهور الاجتماعي.
أفغانستان الجديدة
اليوم تقف روسيا رأس حربة لهذا المحور المستاء. وبوتين يعرف نوايا الغرب بشكل عميق. فالدول الغربية التي تريد أن تدفع بالأوكرانيين إلى الحرب فأرسلت لهم شحنات كافية من الأسلحة النوعية، تأمل في تحويل كييف إلى "أفغانستان جديدة" بوجه الروس. والدول الغربية تريد لأمد الحرب أن يطول، لتحقيق أهداف كثيرة، غير مبالية بارتفاع عدد ضحايا الشعب الأوكراني.
ومن الأهداف الكبرى يأتي كسر الهيبة البوتينية أولاً، ومن ثم دفع الروس إلى التخلص من بوتين بعد إنهاكهم في الفقر والجوع، عبر العقوبات الاقتصادية، على غرار ما فعل الغرب مع العراق منذ عام 1991.
وإذا ما تمكنت الدول الغربية من كسر روسيا وإجبار الروس على التخلص من بوتين، فحينئذ سيسهل تطويق الصين.
لذلك، فإن تصريحات بوتين في الواقع تنبع من شعور عميق بمآلات السياسة الغربية تجاهه شخصياً وتجاه البلدان المستاءة منها؛ لهذا هدد بوتين بأن أي تدخل أمريكي-أوروبي في أوكرانيا، سيجلب رد فعل لم تر أوروبا وأمريكا مثله سابقاً.
عليّ وعلى أعدائي
إذا ما استمرت الحرب في أوكرانيا فإن الواقع سيفضي إلى سيناريوهين؛ الأول أن تتحول أوكرانيا إلى أفغانستان جديدة تنهك الروس وتكسر بوتين وتهز موقفه الداخلي، وهو ما يخطط له الغرب ويأمل.
وهذا الاحتمال إن تحقق لا يُستبعد أن تكون له آثار سلبية، منها احتمالية استعمال بوتين للأسلحة النووية كحل أخير، بمنطق (عليّ وعلى أعدائي).
السيناريو الثاني هو أن تنتصر روسيا في احتلال أوكرانيا، وإخضاعها تماماً وإعادة تقسيمها بما يضمن مصالحها بإقامة نظام موالٍ لها أو محايد بأوكرانيا. وإذا تحقق هذا الاحتمال، فإن خريطة العالم ستتشكل من جديد وربما تتعرض دول كثيرة إلى زلازل التقسيم والفوضى.
تبقى مخاطر الأسلحة النووية تحلق فوق رؤوس الجميع؛ لذلك فإن كثيراً من منظري العلاقات الدولية في الغرب يقفون ضد مفهوم "الدولة القومية الإقليمية" ويُلحّون في أن تسود الحكومة العالمية (القطب الواحد) في هذا العالم من أجل السلام العالمي عبر سيطرة أمريكا على كافة أنواع الأسلحة ومنها النووية في العالم.
لكن كيف السبيل إلى ذلك؟
دول الغرب تعتمد على عنصر مهم في هذه الحرب، لكسب هذه الجولة المهمة في المسير نحو الحكومة العالمية، وهي تمكين الأوكرانيين من هزيمة الروس في حرب طويلة، ومن ثم هزيمة بوتين بيد الروس المستائين، ومن ثم تأبط الصين وكسر أنفها، وهذا ما لا يرضاه بوتين لنفسه ولا الصين لكبريائها الصاعد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.