رغم وجود علاقات ودية بين إسرائيل وأوكرانيا وتموضع تل أبيب ضمن الحلفاء المقربين من الغرب، إلا أن الموقف الإسرائيلي من الغزو الروسي وإدانته دولياً اتصف بالحذر واستعمال لغة دبلوماسية هادئة في ظل الرغبة بعدم إثارة غضب الدب الروسي الذي يمكن أن يستخدم عدة ملفات للإضرار بالمصالح الإسرائيلية.
العلاقات الإسرائيلية الأوكرانية
لعب وجود جالية يهودية أوكرانية يناهز عددها 75 ألف شخص دوراً في رسم علاقات تعاون بين تل أبيب وكييف، وبالأخص في ظل الديانة اليهودية للرئيس الأوكراني زيلينسكي ووزير دفاعه ريزنيكوف. فمن جهة تنظر كييف إلى تل أبيب باعتبارها أحد اللاعبين المؤثرين في السياسة الأمريكية وكذلك تتمتع بعلاقات جيدة مع موسكو، بما يمكّنها من لعب دور الوساطة خلف الكواليس. وقد حرصت أوكرانيا على التعاون مع إسرائيل في ملفات متعددة من أبرزها التعاون العسكري والاستخباري، وهو ما تجلى في الاستجابة للمطالب الإسرائيلية نهاية القرن الماضي بالامتناع عن بيع معدات لطهران تُستخدم في صناعة الصواريخ والأنشطة النووية، كما تعاونت أجهزة الأمن الأوكرانية مع الموساد في عام 2011 لاختطاف مدير محطة كهرباء غزة والحاصل على الدكتوراه في الهندسة من جامعة أوكرانية "ضرار أبو سيسي" خلال زيارته لكييف عام 2011 حيث سُلم إلى إسرائيل التي حكمت عليه بالسجن 21 سنة بذريعة مشاركته في تطوير صواريخ حماس. وخلال معركة أسوار القدس في العام الماضي غرد الرئيس الأوكراني على تويتر معلناً تضامنه مع إسرائيل.
ولكن في المقابل نظراً لحساسية العلاقات الإسرائيلية مع موسكو، فلم تقابل تل أبيب إقبال كييف عليها بالمثل، ففي عام 2014 تغاضت تل أبيب عن إدانة اقتطاع روسيا شبه جزيرة القرم من أوكرانيا، بل اعتذرت تل أبيب عن الاستجابة لطلب كييف بالتوسط في حل الأزمة مع موسكو آنذاك، وكذلك تجاهلت تل أبيب في عام 2021 طلب كييف شراء بطاريات من منظومة القبة الحديدية.
ومع تزايد الحشود الروسية قرب الحدود الأوكرانية في يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط قبل بدء الحرب، والإدانات الأمريكية والغربية المكثفة لتلك التحشيدات، اكتفت تل أبيب على لسان رئيس الوزراء بينيت بالدعوة للهدوء والحوار، فيما طلب المستوى السياسي من قادة الجيش الإسرائيلي عدم التعليق على التطورات في أوكرانيا. ولكن مع اشتعال الحرب وتزايد الضغوط الأمريكية على إسرائيل لاتخاذ موقف واضح، أصدرت الخارجية الإسرائيلية بياناً باهتاً ورد فيه (تدعم إسرائيل وحدة أراضي وسيادة أوكرانيا، وتعرب عن قلقها على رفاهية 8000 إسرائيلي في أوكرانيا، وعلى مصير الجالية اليهودية) وتجنب البيان إدانة روسيا التي سارعت عبر بعثتها في الأمم المتحدة للتعبير عن قلقها من خطط تل أبيب لتوسيع النشاط الاستيطاني في مرتفعات الجولان المحتلة. فما الذي تخشاه إسرائيل من روسيا؟
مخاوف تل أبيب من موسكو
تخشى تل أبيب من أن يؤدي تبنيها لموقف حازم من الغزو الروسي لأوكرانيا إلى دفع موسكو للعب ضد إسرائيل في عدة ملفات من أبرزها الملف السوري. فحتى اليوم رغم نشر روسيا لمنظومة إس 400 للدفاع الجوي في قاعدة حميميم بسوريا فإن موسكو سمحت للطيران الإسرائيلي بشن غارات دورية على أهداف سورية وإيرانية لعرقلة التمركز الإيراني في سوريا، ومن ثم تخشى تل أبيب من أن تندفع موسكو في حال إغضابها لغلق المجال الجوي فوق سوريا أمام الطيران الإسرائيلي، مما يعني تمكن إيران من ترسيخ وتعميق وجودها على الحدود السورية مع إسرائيل ونقل المزيد من شحنات الأسلحة والصواريخ الدقيقة وبناء بنية تحتية يصعب القضاء عليها لاحقاً، وبالفعل أوصلت روسيا رسالة ضمنية بذلك عندما نفذت طائرات حربية سورية وروسية دوريات مشتركة لأول مرة في المجال الجوي على طول الحدود السورية في 24 يناير/كانون الثاني 2022 بالتزامن مع إعلان وزارة الدفاع الروسية أن البلدين يخططان لتسيير هذه الدوريات بانتظام. وهو ما فهمته تل أبيب على أنها رسالة روسية لواشنطن بأن التوتر في ملف أوكرانيا سينعكس سلباً على ملفات أخرى مثل الحدود السورية الإسرائيلية.
وكذلك تخشى تل أبيب من أن تتجه موسكو نحو تعزيز علاقاتها مع إيران في ظل العقوبات الغربية المكثفة التي تتعرض لها، وهو ما قد ينعكس على تقديم موسكو لخبرات وأسلحة متطورة لإيران وصولاً إلى مساعدتها في الملف النووي الذي ترى تل أبيب أنه يمثل التهديد الأبرز ضدها في المرحلة الحالية. أما في حال التوصل لاتفاق نووي يبدو وشيكاً مع إيران يتضمن بطبيعة الحال الإفراج عن الأموال الإيرانية المجمدة والبالغة عشرات مليارات الدولارات بالتزامن مع رفع العقوبات، فإن هذا قد يدفع باتجاه المزيد من التغول الإيراني في المنطقة، والمزيد من الدعم لحزب الله اللبناني وحركة حماس، مما يعني تنامي التهديدات للمصالح الإسرائيلية.
التحالف مع واشنطن مقدم على موسكو
تأمل تل أبيب أن يتوقف القتال في أوكرانيا قريباً، وتركز في خطابها على استعدادها لتقديم مساعدات طبية لأوكرانيا بالتزامن مع جهودها لتنظيم سفر أعضاء الجالية اليهودية الراغبين في مغادرة مناطق القتال، فيما لم تعلق إسرائيل حتى الآن رسمياً على طلب الرئيس الأوكراني من رئيس الوزراء الإسرائيلي في 26 فبراير/شباط التوسط واستضافة المفاوضات بين أوكرانيا وروسيا بدلاً من بيلاروسيا الحليفة لموسكو.
ولكن في حال طول أمد الصراع وامتداده لدول أخرى حليفة لواشنطن، ستضطر إسرائيل لمغادرة مقعد الحياد المزعوم، وذلك للحفاظ على تحالفها الوثيق مع واشنطن التي ما زالت توجه أكبر مساعدة عسكرية أمريكية سنوية للجيش الإسرائيلي، كما تقدم أحدث أنواع الأسلحة لتل أبيب لضمان تفوقها العسكري في المنطقة، فضلاً عن تعهدها بضمان أمن إسرائيل، وبالتالي لن تضحي تل أبيب بمصالحها مع واشنطن والغرب من أجل عيون موسكو.
وفي ظل التطورات الأخيرة تطرح بعض الأوساط الإسرائيلية تصوراً مفاده أنه في حال تطور الصراع الغربي الروسي فإن الاهتمام الأمريكي بالشرق الأوسط سيزداد باعتباره حلقة مهمة في جهود تقويض النفوذ الروسي وبالأخص في سوريا وليبيا والبحر المتوسط، وهو ما سيصب في مصلحة إسرائيل، كما يرون أن الدعم الإيراني للغزو الروسي على لسان الرئيس إبراهيم رئيسي سيدفع واشنطن وحلفاءها لوضع إيران في خانة روسيا مع ما يعنيه ذلك من تقويض النفوذ الإيراني حتى في حال عقد اتفاق نووي.
وفي المحصلة تحرص إسرائيل على التعامل بحذر مع الأزمة الأوكرانية كي تتجنب بقدر الإمكان تداعياتها السلبية وتنتهز الفرص التي قد تتيحها للمصالح الإسرائيلية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.