المتتبع للأزمة الأوكرانية الحالية والتصعيد الكبير بين روسيا والولايات المتحدة في الأسابيع القليلة الماضية، والتي كان آخر فصولها الاجتياح الروسي للأراضي الأوكرانية، يلاحظ أن المواقف الأوروبية من التصعيد تختلف باختلاف مصالح الدول الأوروبية، فبينما صعّدت المملكة المتحدة من لهجتها تجاه روسيا، حاولت فرنسا انتقاد روسيا والتوسط في نفس الوقت، حيث زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون موسكو، وجلس متباعداً عن نظيره الروسي. وعبّرت بولندا عن دعمها لأوكرانيا في وجه التصعيد النفسي الروسي، واتخذت دول اسكندنافية موقفاً مشابها للموقف البولندي.
في مقابل المواقف الأوروبية والأمريكية المنتقدة والمتسمة بالتصعيد تجاه موسكو كان الموقف الألماني مهادناً، حيث انتقدت ألمانيا بدورها الحشد العسكري الروسي على الحدود مع أوكرانيا، وسافر مستشارها الجديد أولاف شولتز إلى موسكو بدوره باحثاً عن تهدئة، وهو موقف قوبل بانتقادات أوروبية وأمريكية ومن الحكومة الأوكرانية نفسها.
وفي حين فسّر بعض المحللين الموقف الألماني بأنه ينبع من أسباب تتعلق بأمن الطاقة، حيث تعتمد ألمانيا إلى حد كبير على روسيا في إمدادها بالغاز عبر خط "نورد ستريم"، أرجع محللون آخرون الأمر إلى أسباب تاريخية ونفسية تتعلق بمبدأ الحياد الذي تنتهجه ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية في الصراعات. حيث أشار تقرير لإذاعة BBC أن "مسحاً سنوياً كشف عن أن معظم الألمان يعتقدون أن المفاوضات الدبلوماسية هي أفضل طريقة لحل أي نزاع، وأن القوات الألمانية نادراً ما تشارك في أي شيء آخر غير مهام حفظ السلام".
وتنقل BBC في تقريرها عن الموقف الألماني، عن توماس كلاين-بروكهوف، من صندوق مارشال الألماني قوله إن "لدى ألمانيا سياسة طويلة الأمد لضبط النفس عندما يتعلق الأمر بالصراع العسكري بجميع أنواعه، ويُنظر إلى تصدير الأسلحة على أنه يؤجج الصراع بدلاً من الحد منه، هذه السياسة طويلة الأمد تنص على أن ألمانيا لا تصدر أسلحة إلى مناطق الصراع". لكن من المفارقات أيضاً أن ألمانيا تعد واحدة من الدول الكبرى المصدرة للأسلحة في العالم، بالرغم من الضوابط الألمانية الصارمة على مكان إرسال الأسلحة.
وللتدليل على الجدل الدائر في مراكز اتخاذ القرار في ألمانيا، يكفي الإشارة إلى تقدم قائد البحرية الألمانية كاي أخيم شونباخ باستقالته، بسبب تصريحات مثيرة للجدل أدلى بها بشأن أوكرانيا. حيث قال في وقت سابق من شهر فبراير/شباط إن فكرة أن روسيا تريد غزو أوكرانيا ما هي إلا هراء، وإن كل ما يحتاجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو الاحترام.
الموقف الألماني تغير نحو موقف أكثر تشدداً بوقف ألمانيا التصديق على مشروع خط "نورد ستريم 2″، الناقل للغاز الروسي إلى ألمانيا، في 22 فبراير/شباط، تبعه إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن، في 23 فبراير/شباط، أن الولايات المتحدة ستفرض عقوبات على شركة Nord Stream 2 AG، التي تقوم ببناء خط أنابيب الغاز الروسي الذي ينقل 55 مليار متر مكعب سنوياً إلى ألمانيا، وستطال العقوبات الأمريكية مسؤولي الشركة أيضاً. وقال بايدن "هذه الخطوات جزء آخر من الشريحة الأولية للعقوبات"، رداً على تصرفات روسيا في أوكرانيا. كما أوضح: "لن نتردد في اتخاذ المزيد من الخطوات إذا استمرت روسيا في التصعيد".
بطبيعة الحال تحسب الدول حساباتها جيداً قبل اتخاذ موقف في أي صراع دولي، حيث تدخل حسابات الربح والخسارة -سياسياً واقتصادياً وأمنياً وعسكرياً- في تحديد موقف الدول. وفي الحالة الألمانية فإن حسابات تأمين الغاز لأكبر اقتصاد وأكبر كتلة سكانية في الاتحاد الأوروبي، ستكون حاضرة في أي نقاش داخل مؤسسات اتخاذ القرار في ألمانيا. وإذا ما أضفنا إلى هذا العقدة التاريخية الألمانية من الحروب، وكون توحيد الألمانيتين الشرقية والغربية كان آخر النقاط التي تم نقاشها بين آخر زعيم سوفييتي، ميخائيل غورباتشوف، وبين وزير الخارجية الأمريكي الذي وعده في المقابل بعدم التمدد شرقاً "ولو لشبر واحد"، فسنجد أن الموقف الألماني له تبريراته.
في المقابل يمكن تفسير الموقف الأمريكي الذي يميل للتصعيد وحشد الحلفاء ضد روسيا، بأنه يأتي في سياق الوفاء بالبرنامج الانتخابي للرئيس بايدن، الذي وعد قبل انتخابه بالتصدي لبوتين ومعاقبة روسيا على أي خطوات عدوانية تقوم بها، مثل الهجمات السيبرانية، أو دخولها في تقاطعات دولية في مواجهة الولايات المتحدة. وموقف إدارة بايدن تجاه الصين مشابه لموقفها تجاه روسيا، حيث تحاول إدارة بايدن منذ عامين التأكيد على عودتها لسياسة "العودة لآسيا" التي بدأها الرئيس الديمقراطي الأسبق باراك أوباما.
لكن تفسيراً آخر للموقف الأمريكي لم يتم التطرق إليه كثيراً، يمكن أن يشرح الموقف الأمريكي المتشدد تجاه روسيا، ورغبة إدارة بايدن في حشد الأوروبيين إلى جانبها ضد روسيا. هذا التفسير مرتبط برغبة الولايات المتحدة في أن تصير واحدة من كبار مصدّري الغاز الطبيعي المسال. وبحسابات الجغرافيا والأسواق الواعدة تعتبر أوروبا الخيار الأول للغاز الأمريكي. ولا يمكن إقناع الأوروبيين بالتخلي عن الغاز الروسي إلّا عن طريق التصعيد العسكري، الذي يصل لمرحلة تهديدهم باحتمالات قطع الإمدادات الروسية في حال نشوب حرب، وإجبارهم على البحث عن بدائل، وهو ما حدث في الأسبوع المنصرم، والذي شهد اعتراف موسكو بجمهوريتي دونيتسك ولوغانتسك الانفصاليتين، ودخول القوات الروسية إلى أوكرانيا، وقصف المدن والمواقع العسكرية الأوكرانية في صبيحة 24 فبراير/شباط.
في سبيل تحقيق هذا الهدف قام الرئيس بايدن، منذ شهر يناير/كانون الثاني، بدعوة أمير قطر -الذي تعتبر بلاده من كبار مصدري الغاز الطبيعي المسال في العالم- إلى البيت الأبيض، مطلع فبراير/شباط، لمناقشة كيفية إسهام قطر في تزويد أوروبا بالغاز، وتحدث مع زعماء دول أخرى مثل أستراليا ونيجيريا لطمأنة الأوروبيين وضمان وقوفهم إلى جانب أوكرانيا، ودعم الموقف الأمريكي المتشدد تجاه سيد الكرملين، الراغب في وقف التوسع الغربي شرقاً، بهدف ضم أوكرانيا إلى قائمة دول حلف الناتو، وهو خط أحمر بالنسبة لموسكو.
لكن التحرك الأمريكي لتطمين الحلفاء الأوروبيين بوجود بدائل للغاز الروسي من دول مثل الولايات المتحدة وقطر ونيجيريا ومصر والجزائر، سبقه تكثيف في إمدادات الغاز الطبيعي المسال إلى دول أوروبية خلال العام 2021 وحتى الآن. حيث تشير بيانات (CEDIGAZ) والوكالة الأمريكية للطاقة (iea) إلى أن واردات دول الاتحاد الأوروبي (EU-27)، والمملكة المتحدة، من الغاز خلال العام 2021، كانت كالتالي: 26% من الولايات المتحدة، 24% من قطر، 20% من روسيا. وبهذا استأثرت هذه الدول الثلاث على 70% من واردات أوروبا من الغاز.
هذه الأرقام توضح كيف أن جزءاً من الاستراتيجية الأمريكية للتصعيد في مواجهة التصعيد الروسي يهدف إلى إرغام الدول الأوروبية على البحث عن بدائل للغاز الروسي، الأمر الذي يحقق هدفين: الأول زيادة الصادرات الأمريكية من الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا، والثاني محاصرة روسيا اقتصادياً عن طريق فرض عقوبات على صادراتها من الغاز، وعلى شركاتها العاملة في مجال الغاز وغيره. ومثلما يبحث الرئيس الروسي عن الاحترام -مثلما أوضح قائد البحرية الألمانية المستقيل- فإنه يبحث أيضاً عن وسيلة لزيادة أسعار النفط تعوّض بلاده عن الخسائر التي ستقع بسبب العقوبات الاقتصادية الغربية وتكاليف الحرب المرتفعة. وهكذا نجد أن الجانبين؛ الروسي والأمريكي، تدور حساباتهما حول المصالح الاقتصادية، بنفس القدر الذي تدور فيه حول مسائل الأمن القومي وحماية الحلفاء، الأمر الذي يذكرنا بالمقولة الأمريكية القديمة "إنه الاقتصاد يا غبي It's economy, foolish".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.