ذات مرة ركبت سيارتي إلى مكان لم أذهب إليه من قبل، رنّ جرس جوالي وأجبت السائل وكان صاحب طلب، أغلقت الهاتف وتساءلت في نفسي: "ما الهدف من خدمة شخص لن يقدم لي في المقابل شيئاً؟ ما الهدف من منفعة الناس وهم لا ينفعونك، وربما منهم من يضرونك؟"
لم تمر دقائق معدودة، وإذا بأحدهم يمر بدراجته أمام سيارتي فجأة ودون سابق إنذار، وبأقصى سرعة، وفي آخر لحظة سحقت فرامل سيارتي، لتقف قبل أن أدهس الراكب، كاد قلبي يخرج من بين أضلعي لهول الموقف، ولما تأملت الموقف بعد عودتي لمنزلي أدركت أنه ربما ما حدث كان هو الرسالة الإلهية، التي بعث الله بها لي رداً على سؤالي، فقد سألت "ما فائدة أن تخدم مَن لا ينفعك؟" وكانت الإجابة: "ربما خير قدمته لوجه الله فانتفع به أحدهم فكان حصن الله المنيع لك، وُفقت بالتدابير الإلهية لسبب نجاتك من موت محقق، أو حادث أليم، أو قدر محتم، هذه بتلك".
ماذا لو كانت حياتك اليومية التي تدور حولك ومحورها ثلاثة أو أربعة أشخاص حولك هي ما سوف تحاسب عليه يوم الحساب؟
هل استحضرت نواياك أن خدماتك وأفعالك لنفسك ومن حولك كانت لوجه الله خالصة؟ هل ترى عملك يصل للقبول عند الله؟ ما دليلك أنه قُبل؟ هل لديك فرصة للاستزادة؟
ماذا لو كانت هناك إمكانية أن تلهم أحداً ليفعل مثلك وتؤجران معاً دون أن ينقص من أجرك شيء؟
ماذا لو كان فعلك دلّ الضالَّ أو أرشد الحائر، أو فتح أبواباً مغلقة أنت لم تكن تعلم عنها شيئاً؟ ماذا لو كانت هناك دعوة صادقة في قلب أحدهم لك، وكانت سبباً في طيب ذكرك عند الله وأنت لا تعلم؟ ماذا لو كانت منصتك على شبكات التواصل الاجتماعي باب نفع؟ لِمَ تظن أن عملك لنفسك والأقربين يكفيك لتدخل الجنة؟
أغلب الناس يخاف نشر الفضيلة مخافة الرياء والعجب بالنفس، فالرياء كالنملة السوداء على صخرة في ليلة ظلماء.
ولو كنت شخصاً له ظهور على شبكات التواصل الاجتماعي، ولو مازال ضميرك حياً ينبض ولم ينضب بعد تبدأ في التساؤل، هل ما أقدمه على منصتي مفيد؟ هل أستحق اهتمام الناس ومتابعتهم؟ هل أفيدهم فعلاً؟ هل أُثاب فعلاَ، أم أنه رياء؟
وتساورنا الشكوك، ونتحسس النوايا، ويصبح الأمر كالفتنة فلم تعد تستطيع التمييز، هل أستمر رغم أن عملي كله مشاع للناس، ولا أعلم إن كنت حقاً أثاب عليه، أم أتوقف ويكفيني طيب العمل الخفي اتقاء لفتنة النفس والقلب.
ثم تتوقف لتجد هناك من يخبرك أنه فاته ذاك النفع لأنه كان يتعلم منه بسببك وقد توقفت، وهذا آخر يسألك عن كيف يحصل على معلومات عن كذا، فهو لم يعد يرى منشوراتك؟ أين أنت؟ وهذه التي قرأت ذاك الكتاب أو تعلمت هذا العلم لأنك أشرت إليه في أحد منشوراتك، نعم ذاك المنشور الذي نشرته واستشعرت انتكاس الإخلاص.
المشكلة التي لا يدركها الجميع أننا بحاجة ليقوّي بعضنا بعضاً، ويجر بعضنا بعضاً، صوت الظلم والضلال يصير أعلى إن خفض صوت الحق وضعف صوت المُطالب به. المشكلة أنك تجد العديد من مروّجي الضلال في كل مكان وهم أجرأ وأعلى، بينما الداعي للإحسان ارتكن جانباً خوفاً من الرياء، وخوفاً من الفتنة، وخوفاً مما لم يُحط به خُبراً.
وكيف نصبر على ما لم نحط به خبراً؟
ولكن لو قلنا إن الله أعطاك لساناً أو منصة تدفع بها خيراً، أو تدل بها على نفع، أو تقي الناس شراً، لِمَ لا؟
توقف إن شئت، بعضاً من الوقت إن أردت، لكن استمر، بدِّل أساليبَك.
ستُسأل ماذا فعلت بموهبتك، منصتك، علمك؟
حاوِل أن تكون حُجةً لك لا عليك، بأن توجه عملك للنفع العام، ولا توجه الأضواء لنفسك.
العمل الخيري والعمل العام ضرورة لبناء جسور التواصل الثقافية والمجتمعية بين الناس على اختلافاتهم، العصر الذهبي الإسلامي كان مزدهراً لما كان الملوك يكافئون مترجمي الكتب بوزن الكتب التي ترجمهوها ذهباً. الحضارة تقاس بالعلم والتعلم، اخرج من فقاعة الوهم والخوف.
لو كنا نقدر الله حق قدره، أين حظنا من خدمة عباده؟
نحن لن نستطيع مهما فعلنا في يومنا المحدود، بوقتنا المحدود والتزاماتنا اليومية أن نقوم بأعمال صالحة كافية لتؤهلنا لرحمة الله وجنته، نحن لسنا جاهزين بما يكفي، عباداتنا منقوصة، وينقصنا الإخلاص، وننسى استحضار النوايا، فما الحل؟
فلنجتهد في خدمة من لا نعرفه قبل من نعرفه، وبهذا ضمنا أن تكون بعض النوايا لله فعلاً.
رغم أهمية ظهور السيدات في الخدمة العامة، فإن الكثيرات يبتعدن مخافة الشكوك واللوم والمضايقات من مرضى القلوب، متناسيات دور الصحابيات وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم في نشر علمه وحماية التاريخ والثقافة، لم لا يذكر الناس أن أول من آمن بالنبي كان امرأة (زوجته خديجة)، وأول شهيد في الإسلام كان امرأة (سمية بنت الخباط)، أول جامعة في العالم بنتها امرأة (فاطمة الفهرية)، وأشهر حفاظ الحديث امرأة (السيدة عائشة)، وأهم معاهدة في التاريخ الإسلامي كانت صلح الحديبية، وكانت بعد مشورة امرأة (أم سلمة)، والسيدة نسيبة بنت كعب مثال يحتذى به في الصدق والإخلاص والهمة. لِمَ نسينا؟
العمل العام والعمل الخيري ليسا حكراً على الرجال، على النساء أن يكنّ مثل نُسيبة، وفاطمة، وأم سلمة، وعائشة، وفاطمة الفهرية، ولا يهم عدد من نخدمهم، الأهم الاستمرارية والإخلاص.
توقف حينما يجف حبر قلمك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.