الغزو الروسي لأوكرانيا إيذانٌ بميلاد حقبة جديدة، لكن ليس بالمعنى الذي انتهى إليه فهْمُ القوى الغربية.
إن ما نشهده الآن هو تبدُّد العالم الذي انفردت فيه أمريكا والغرب بالهيمنة طوال ثلاثة عقود، على شؤون العالم العسكرية والاقتصادية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي. أما العالم الذي يُستحدث مكانه فهو عالم لا انفراد بالحكم فيه، بل تحكمه أكثر من قوة عظمى.
فإلى جانب الولايات المتحدة، ستبرز كتلة أخرى في قيادة العالم، كتلة تتكون من قوة أوروبية آسيوية، تحتل الصين جهة منها وروسيا من الجهة الأخرى. ويقع بينهما أكبر مساحة برية في العالم، واحتياطيات غير محدودة من الطاقة والقوى العاملة والقوة العسكرية والإلكترونية وقدرات الذكاء الاصطناعي.
إنها تدابير للخروج بأي مكاسب من سفينة النظام العالمي المحكومة بالغرق، وحتى تُرسم الخطوط الحمراء الجديدة، لن ينعم العالم بالاستقرار.
توالت علامات كثيرة على انهيار النظام الذي ملكت الولايات المتحدة زمام أمره، وإن حمل أسماءً مختلفة: التدخل الليبرالي الدولي في شؤون الدول غير الليبرالية، أو تحالفات الراغبين في الانضمام إلى عمليات الولايات المتحدة العسكرية، أو النظام القائم على احترام القواعد الدولية والحقوق.
وقد شهد العام الماضي بعض هذه العلامات، مثل سقوط كابول في أيدي طالبان، وطول أمد المفاوضات مع إيران في فيينا مع الاحتمال القائم بأن يؤول الفوز الأكبر فيها إلى طهران، والآن غزو بوتين لأوكرانيا.
هذه علامات ثلاث، وقد تتبعها علامة رابعة باستيلاء الصين على تايوان، وجميعها مرتبطٌ بعضها ببعض.
على حين غرة
يجمع هذه الأحداث أنها كلها حلَّت بالولايات المتحدة على حين غرة منها، فالولايات المتحدة لم يخطر لها أدنى خاطر بأن تنهار أفغانستان، التي لم يكن بها من ملامح الدولة إلا واجهة زائفة للدعاية، هذا الانهيار السريع فور الإعلان عن انسحابها. وأدهى من ذلك أن من بين جيران أفغانستان، كان الحرس الثوري الإيراني الجهةَ الوحيدة التي ملكت المعلومات الاستخباراتية الصحيحة وكانت مع طالبان في الميدان.
وعلى النحو نفسه، اضطرت الولايات المتحدة إلى التراجع على جميع الجبهات -لا سيما التخلي عن العقوبات- في مواجهة صمود المفاوضين الإيرانيين في فيينا. وبالمثل لم تكن مستعدة لاحتشاد القوات الروسية على حدود أوكرانيا والغزو بعد ذلك.
وهكذا، جاءت سياسة الولايات المتحدة لكل حدث من هذه الأحداث بلا رؤية أو تأهب، لكن ما هكذا تورَد الإبل.
حتى وإن كان الأقرب أن تستمر روسيا في إمداد أوروبا بالغاز، فإننا إذا نظرنا في الآثار التي قد تترتب على فرض حصار مالي غربي على روسيا وما قد يفعله ذلك بأسعار النفط القادم من إيران، فسنجد أنه لن يفعل إلا أن يزيدها ارتفاعاً.
والواقع أن هذا الحصار سيجعل إيران قِبلةً لدول أوروبا المتعطشة للطاقة، فهل كانت تلك هي الغاية من أربعة عقود من العقوبات، بلغت ذروتها مع سياسة "الضغط الأقصى" التي استخدمها دونالد ترامب؟ وذلك بعد أن كانت مراكز الأبحاث التابعة لتيار المحافظين الجدد في واشنطن تقول حتى وقت قريب جداً، إن تغيير النظام في طهران أمرٌ ممكن.
أما إذا نظرنا إلى الأمر من جهة الدول المفعول بها في النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، فإننا سنجدها حانقة على سمتين بارزتين لواشنطن في إدارتها لهذا النظام: أولاهما، العجز الكامل عن تصور أي رؤية أخرى للعالم غير رؤيتها له، وثانيتهما، الرفض التام لأي تراجع أو تنازل عن رؤيتها ما إن تحدِّد مسار العمل في أمر ما.
وهكذا، حدَّدت أمريكا -وحدها- تعريف السلوك الديمقراطي، ومنحت نفسها الحق في العفو عن المستبدين الموالين للغرب إذا خالفوا هذا السلوك أو نقضوه. وأصبحت معايير حقوق الإنسان والسياسة الخارجية المُراعية للقيم محكومةً بهواها في الانتقاء؛ فهي إذا أرادت، استخدمت مخالفتها حجة لمعاقبة فنزويلا، وإذا لم ترد، تغافلت عن انتهاكها في السعودية أو مصر.
ولذلك، كان توني بلير وجورج بوش هما من قررا غزو العراق في اجتماعهما بمزرعة كروفورد قبل عام كامل من وقوع الغزو، وقبل دخول مفتشي الأسلحة النووية التابعين للأمم المتحدة. وكان بوش هو أول من مزَّق المعاهدات الدولية، ووصف معاهدة 1972 للحد من الصواريخ الباليستية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي بأنها معاهدة "تقادَمَ عليها الزمن". وكان بيل كلينتون أول من صاغ حدوداً جديدة لدولة أوروبية، هي كوسوفو، بعد الحرب مع صربيا.
منافس فاشل
لم ترَ واشنطن في روسيا عدواً لها، وأسوأ من ذلك عند بوتين، أنها عدَّت روسيا ليس إلا منافساً فاشلاً لا يرقى لأن يكون ندّاً لها. وفي معظم الأوقات خلال العقود الثلاثة الماضية، كانت واشنطن تتعامل مع موسكو بمنطقٍ خُلاصته: "نسمع ما تقوله، لكننا سنفعل ما عزمنا عليه على أي حال".
ومن ثم تلاحقت تدخلات الغرب على نحو بدا لا نهاية له ولا رجوع عنه مهما كانت الخيبات التي آل إليها، ولم يُجدِ أي شيء فعلته الصين أو روسيا نفعاً في إيقاف ذلك، ولا شك في أن ذلك راكمَ غيظاً مستعراً في النفوس لدى روسيا والصين. ولما امتلأت خزائن روسيا بدولارات النفط، أخذت تعزِّز بناء جيشها، لكن القادة العسكريين في بريطانيا وأمريكا استهانوا بذلك وعدُّوه مزحةً لا يُلتفت إليها، بيد أن الواقع الآن يشي بأنهم تعجَّلوا أحكاماً سابقة لأوانها.
شاعت حكايات كثيرة عن العجز العسكري الروسي، مثل حكاية الطيارين الروس الذين لا يحلِّقون بطائراتهم إلا بضع ساعاتٍ كل شهر، لأن البلاد عاجزة عن تحمُّل أثمان الوقود، وحكاية البحَّارة الذين لم يجدوا شيئاً ينفقونه في جولات تسوقهم أثناء زيارات التبادل إلا نفقات اليوم التي كانت تمنحها لهم الدول المستضيفة، أو الحكاية عن تهالك السفن حتى إن كل سفينة كانت ترافقها سفينة أخرى؛ مخافةَ أن تتعطل في الطريق، وليس انتهاءً بحكاية عجز روسيا عن إنشاء قوة استكشاف عسكرية.
لكن هذه التقديرات ما لبثت أن تغيرت بعد أن بدأ بوتين تدخله العسكري في سوريا، لا سيما بعد أن بات هذا التدخل فاعلاً حاسماً في الإبقاء على بشار الأسد بالسلطة.
في غضون ذلك، كان بوتين يشحذ ذهنه في التدبير لردٍّ ما. وعادةً ما يخطئ الناس فهم ذلك، فيختزلون تفسير الأمر في مجرد محاولة من ضابط سابق متدني الرتبة في جهاز الاستخبارات الروسي "الكي جي بي" يسعى إلى استعادة الاتحاد السوفييتي. لكن الأمر ليس كذلك، فالاتحاد الروسي الذي يقوده بوتين كيان رأسمالي بالكامل، والرجل الذي يترأسه هو أغنى زعيم في تاريخ روسيا، وقد بلغ من الثراء حداً يتجاوز حتى ثروات القياصرة. وكذلك الحال مع الامتيازات الهائلة التي حظي بها القادة السوفييت، فهذه أيضاً يهون شأنها إذا وازنتها بثراء بوتين.
وإذا أردت دليلاً تراه بعينيك على ذلك، يكفيك أن تتجول في مناطق الملكيات الخاصة وسط الغابات المحيطة بموسكو، لترى "الداتشا" التي كانت ذات يومٍ منازل الطبقتين الوسطى والعليا في الحقبة السوفييتية، فلا تبلغ في عينيك اليوم إلا بيوتاً خشبية بالية ومتداعية، بطلاء أخضر يكاد يسقط عنه قشره، ويشتد هوانها عندك إذا حوَّلت بصرك إلى أكواخ العطلات الخاصة، أو "الكوتيجي"، المكونة من ثلاثة طوابق ويملكها أثرياء روسيا الجدد. ويمتلئ الطريق إلى هذه المنتجعات بإعلانات عن سيارات اللامبورغيني الفارهة والشقق الخاصة لعشيقتك.
القومية الروسية
بوتين يمثل حكم الأوليغاركية أو الأقلية وليس حكم السكرتير العام للحزب الشيوعي. كان الاتحاد السوفييتي قوة عالمية، أما الاتحاد الروسي، فهو قوة إقليمية في أقصى الأحوال. والقول بأن الأيديولوجية التي ساقت بوتين إلى غزو دولة أوكرانيا التي لا يعترف بوجودها، مستمدة من الأرثوذكسية الروسية والقومية الروسية، أقرب إلى الصواب من الزعم بأنها مستمدة من شيوعية البلاشفة.
لم يكن بوتين معادياً للغرب من البداية. لقد استغرق الأمر سبع سنوات طويلة، منذ صعوده إلى رئاسة الوزراء في عام 2000 إلى خطابه في مؤتمر ميونيخ للأمن في عام 2007. طوال هذه السنوات، حاول مراراً مشاركة الغرب والانضمام إلى حلف الشمال الأطلسي (الناتو)، لكن طلبه قوبل أيضاً بالرفض مراراً وتكراراً. والأمر نفسه حدث مع الأفكار التي عرضها حول اتفاقية أمنية أوروبية، فقد أُسيء تفسيرها ووُصفت بأنها محاولة من روسيا للسيطرة على سياسات دول أوروبا الشرقية التابعة لها وتقييد حريتها.
كانت نقطة تحوُّل بوتين عن مسار الحكم القائم على أوليغاركية موالية للغرب إلى نظام استبدادٍ مستند إلى القومية الروسية هو سقوط نظام القذافي في ليبيا. وليس الأمر هنا أنه كان مولعاً بديكتاتور ليبيا، بل المصالح النفطية والعسكرية الروسية التي باتت عرضة للخطر بعد إزاحة القذافي.
امتنعت روسيا عن التصويت على قرار الأمم المتحدة الذي سمح باستخدام القوة العسكرية في ليبيا، وهو قرار تحمَّل ديمتري ميدفيديف، رئيس الوزراء الروسي في ذلك الوقت، معظم تبعاته من الغضب الروسي، عندما تبيَّن أن النتيجة ستكون تغيير النظام.
وانتشر بعد ذلك مقطع فيديو روسي لا يُعرف من صوَّره، لكنه كان عالي الجودة، ويوصم فيه ميدفيديف بالخيانة، وهي الكلمات نفسها التي تُستخدم الآن لذمِّ ميخائيل غورباتشوف وبوريس يلتسين، اللذين يعدُّهما الغرب بطلين شاركا في إصلاح روسيا.
وهكذا كان التدخل الغربي في ليبيا عام 2011، وليس غزو العراق 2004، هو الفاعل الحاسم في دفع روسيا إلى التدخل في سوريا عام 2015.
ما الذي يُتوقع حدوثه الآن؟
أول التغييرات البارزة التي ستنتج عن غزو روسيا لأوكرانيا هو أن روسيا باتت تفعل علانية ما لطالما اتهمت أمريكا بفعله: تغيير الأنظمة المعارضة وإحلال أنظمة موالية مكانها.
وبعد أن ظلت روسيا عقوداً من الزمن تستنكر التدخلات الغربية في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن وليبيا، وتصفها بأنها تدخلات غير شرعية لتغيير الأنظمة، وبعد أن وصفت ثورات الربيع العربي بأنها ليست إلا مؤامرة كبرى رسمتها الاستخبارات المركزية الأمريكية، ها هي روسيا تولغ في الأمر نفسه في أوكرانيا.
إنها تستخدم المنطق نفسه الذي استخدمته واشنطن في معظم السنوات الثلاثين الماضية. إنها تغزو أوكرانيا ليس لشيء إلا لأنها تستطيع ذلك، ولأنها تعلم أن الناتو لو تحرك لمواجهتها، فسيشعل حرباً نووية.
في الشهر الماضي، قال ديمتري ترينين، وهو خبير مخضرم في السياسة العسكرية والخارجية لروسيا، ما يلي: "ربما نحن حقاً بصدد إنشاء (مشروع روسي) منفصل، وأن روسيا لم تعد تريد الاندماج في عالم يملك الغرب زمام أمره، وإن لم يكن المهيمن على كل شيء فيه. وبعد انفصالها عن الغرب، قد تقيم روسيا علاقات أوثق أو حتى تُحالف دولاً كبرى غير غربية، مثل الصين في المقام الأول، وإيران وغيرها من خصوم الولايات المتحدة في نصف الكرة الغربي، مثل فنزويلا وكوبا ونيكاراغوا".
"في ظل هذا السيناريو، قد تنتهج روسيا سياسة خارجية أكثر فعالية. وقد تبدأ موسكو في فعل الشيء نفسه الذي لطالما اتهمت الغرب كثيراً بفعله. وتسعى روسيا في هذا السيناريو إلى إنشاء مجالات نفوذ وحيازة الحق في استخدام القوة لإطاحة الأنظمة غير المرغوب فيها".
لا عُذر
في النهاية لا يوجد أي عذر لبدء حرب أخرى، ولا شيء من هذا يسوغ دخول الدبابات إلى أوكرانيا أو يجعله أمراً عادلاً.
كنت في غروزني عام 1994 عندما حاولت الدبابات الروسية التسلل إلى هناك. خاض الشيشان معركة ضخمة، ونجحوا في الحصول على مهلة قصيرة، ولم يُسحقوا إلا عندما حاول بوتين الغزو مرة أخرى في عام 2000، في حرب عمد فيها إلى تسوية كل مبنى في البلاد بالأرض، وتنصيب مختل عقلياً ليصبح رئيساً للبلاد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.