في الـ18 من أغسطس/آب 2018، وقعت حادثة غريبة نوعاً ما في المجال الجوي السوري، وهي قيام وسائل الدفاع الجوي التابعة لجيش النظام والعاملة على الأرض باستهداف طائرة نقل عسكرية روسية كانت تقوم بمهام ضمن استراتيجية الوجود الأمني الروسي في سوريا لتثبيت النظام ومحاربة الجماعات السنية المسلحة.
أدى ذلك الاستهداف الخاطئ إلى واحدة من أكبر الخسائر البشرية للبعثة العسكرية الروسية في سوريا في ذلك الوقت، وذلك بعد مقتل ما لا يقل عن 15 جندياً كانوا على متن طائرة "إليوشن – 20" العاملة على متابعة الإمدادات الروسية في قاعدة "حميميم" العسكرية على البحر المتوسط.
كشفت التحقيقات التي أجريت بواسطة الروس والسوريين عقب ذلك الحادث، أن هذا الاشتباك الخاطئ بين المضادات الجوية السورية والطيران الروسي الحليف قد وقع في الأساس بسبب قيام عدد من طائرات سلاح الجو الإسرائيلي (4 طائرات) بشن غارة على أهداف سورية قريبة من نفس المنطقة؛ دون التنسيق الكافي، من حيث الوقت وتدابير الميدان، مع الجانب الروسي.
إلى جانب الخسائر البشرية والميدانية، فقد خلصت التقديرات الروسية حينئذ إلى أن هناك نوعاً من "الاستهانة" الإسرائيلية بالوجود الروسي في سوريا، وهو ما يتسبب في الإساءة إلى صورة الروس لدى مؤيديهم من أنصار المعسكر الشرقي عالمياً، خاصة عند الأخذ في الاعتبار الفوارق العسكرية والتاريخية الهائلة التي تصب لصالح الروس عند المقارنة بإسرائيل.
تدابير روسية مضادة
لم يقتصر الغضب الروسي على المستويات العسكرية الوسطى أو على الخبراء الاستراتيجيين الذين يقومون بدور الإسناد الإعلامي للوجود الروسي خارج أوروبا، وإنما امتد إلى الدوائر الرسمية العليا، بما في ذلك البرلمان والرئاسة.
قالت وسائل الإعلام الروسية حينها إن الرئيس فلاديمير بوتين أعطى أوامره بالتنسيق مع قادة الجيوش لتسليم سوريا منظومة الدفاع الجوي الروسية المتطورة من طراز "S – 300" في أسرع وقت ممكن، أسبوعين تقريباً من هذا الوقت، إلى جانب تزويد الجيش السوري بمنظومة قيادة وسيطرة متطورة من روسيا.
قبل تلك الحادثة، كان التقدير في الدوائر الأمنية في المنطقة أن الضربات الجوية الإسرائيلية المنسقة مع روسيا تصب في صالح دعم العلاقة بين موسكو وتل أبيب، إذ يرتبط البلدان بعلاقات أمنية وتاريخية جيدة، بالرغم من التحالف الإسرائيلي الأمريكي التقليدي، كما أن هناك تقديراً أمنياً عاماً بأن إضعاف الوجود الإيراني في سوريا من شأنه أن يساهم في تقوية النفوذ الروسي في دمشق، إذ يتنافس الطرفان بشكل رئيسي على المصالح الاقتصادية والأمنية هناك.
ولكن بعد تلك الحادثة، توترت العلاقات الثنائية بين روسيا وإسرائيل كثيراً، إلى درجة أن بوتين رفض لقاء نتنياهو سراً وعلناً أكثر من مرة، بالرغم من إلحاح نتنياهو في طلب التهدئة واللقاء، مما سبب قدراً من الإحراج لرئيس الوزراء الإسرائيلي النافذ آنذاك.
تقليد جديد: للضربات تكلفة!
سلم الروس السوريين بطاريات "S – 300" المتطورة كما وعدوا تنفيذاً لاتفاقات قديمة بين الطرفين كذلك، ولكن ظلت فاعلية تلك المنظومة لدى طواقم الدفاع الجوي السورية محل شك في ظل عودة الضربات الجوية الإسرائيلية إلى سابق عهدها ضد الأهداف الإيرانية في سوريا.
علاوة على إمكانيات إسرائيل الهائلة في الإخماد والحرب الإلكترونية، إذ تسبق كل طلعة جوية من هذه الطلعات أعمال استطلاع ورصد وتشويش لمدة ساعات وربما أيام باستخدام طائرات الحرب الإلكترونية فوق البحر المتوسط، فإن التحليلات دارت حينئذ حول رفع الروس أيديهم عن دعم طواقم الدفاع الجوي السوري فنياً لتحقيق الاستفادة المثلى من هذه البطاريات.
وبلغة أخرى، قيل أيضاً إن الروس، بالرغم من تسليمهم دمشق هذه المنظومة، فإنهم يحجمون قيادة الجيش السوري عن استخدامها سواء بأوامر مباشرة، أو من خلال نشر البطاريات على نحو عملياتيّ يفقدها فاعليتها المرجوة.
رسخ ذلك التحليل بعد فشل وسائل الدفاع الجوي السوري في الحد من الانتهاكات الجوية الإسرائيلية بالرغم من تأكيد استلام تلك البطاريات، في نفس الوقت الذي تحدثت فيه مصادر مشتركة عن تحسن نسبي في العلاقات بين موسكو وتل أبيب، مع التوصل إلى تفاهمات ميدانية تضمن تفادي تلك الحوادث مستقبلاً.
ومع ذلك؛ فقد بدا- بمرور الوقت- أنه مع تغاضي موسكو عن لجم تل أبيب فيما يخص تجاوزاتها للأجواء السورية، ظهر تقليد ميداني تكشر من خلاله القوات الروسية العاملة على الأرض في سوريا عن غضبها تجاه الممارسات الإسرائيلية الخطيرة نوعاً ما؛ دون تفجير للأوضاع الملتهبة أصلاً في هذه الساحة المتشابكة.
يقوم هذا التقليد على استخدام الروس أدوات تكنولوجية خاصة بالتشويش على وسائل الطيران الإسرائيلية، المدنية والحربية، بين الوقت والآخر وفي أوقات الذروة، مما يسبب إرباكاً عملياتياً معتبراً لدى الجانب الإسرائيلي.
بعد أشهر من تلك الحادثة المشار إليها، أبلغت قيادات الطيران المدني في إسرائيل أن أعمال التشويش والإعاقة والشوشرة الإلكترونية القادمة من سوريا، دون تحديد دقيق لمصدرها، تؤثر سلباً على الملاحة الجوية في المطار الأكبر والأهم في البلاد، وهو مطار اللد "بن غوريون".
ومع استبعاد قيام أي من اللاعبين الموجودين في منطقة المتوسط بتلك الأعمال؛ إما لوجود علاقات جيدة بينها وبين إسرائيل، مثل اليونان وقبرص الرومية، أو لعدم وجود مصلحة لها في ذلك مثل تركيا ومصر، وتحليل مصادر تلك الأعمال فنياً؛ تأكد الإسرائيليون أنها قادمة من القاعدة الروسية في "حميميم".
من التشويش الأحادي إلى التنسيق العملياتي
بالنسبة للخبراء العسكريين الروس والذين ينشطون بعد تقاعدهم من العمل العسكري النظامي في العمل محللين عسكريين في المراكز البحثية المقربة من موسكو، فإن الأخيرة اعتمدت على هذا الأسلوب كي ترسل إلى تل أبيب رسائل عملية بخصوص عدم رضاها لا عن مطلق استباحة الأجواء السورية، وإنما عن غياب التنسيق في استهداف شحنات الأسلحة، وتوسيع دائرة الأهداف أحياناً بما يتجاوز الحد من مخاطر عاجلة إلى استعراض القوة في البيئة السورية من منطلق: أن هذه الأرض ليس لها كبير!
حاول الإسرائيليون التكيف الميداني مع هذه الأوضاع غير المستقرة بتوصيات تقنية للطيارين المدنيين والحربيين للهبوط والمناورة في ظل عدم استقبال بيانات واضحة من أجهزة تحديد المواقع في تلك المنطقة، ونفي روسي رسمي لتلك الأعمال تارة، وتبريرها بضرورة حماية الجنود الروس في سوريا تارة أخرى.
حتى نهاية يناير/كانون الثاني 2022، ظل الطيارون الإسرائيليون يشتكون من تلك الأعمال التي تعرضهم للخطر، وهو ما فهم منه أن الطرفين، الإسرائيلي والروسي، لم يتوصلا، رغم مرور 4 أعوام على حادثة الطائرة الروسية، إلى صيغة نهائية لتلبية المطالب الإسرائيلية في سوريا، دون إزعاج للجانب الروسي الموجود بطلب من الحكومة النظامية في دمشق.
ومع تطور الضربات الجوية الإسرائيلية في سوريا خلال الأسابيع الماضية كماً ونوعاً وتفاخر أفيف كوخافي قائد أركان الجيش بالقيام بتوغل بري غير بسيط في سوريا وامتداد الأذرع الإسرائيلية إلى مرفأ اللاذقية على البحر المتوسط والكثير من المواقع الاستراتيجية في العاصمة السورية، بدأ الروس يستخدمون أسلوباً جديداً ضمن الحرب غير المباشرة ضد الإسرائيليين في سوريا.
يقوم هذا الأسلوب على تنويع التنسيق العملياتي بين الجانبين الروسي والسوري بشكل غير مسبوق جواً وبحراً في مناطق التماس مع الجيش الإسرائيلي، من الجولان المحتل إلى البحر المتوسط، ضمن تدريبات اتفق الطرفان على أن تصبح دورية ممأسسة بشكل رسمي، وهو ما مثل تحولاً جديداً في ميزان القوى على الأرض بعيداً عن تل أبيب ولصالح دمشق، وربما طهران على مضض.
كيف حيّد بوتين الإسرائيليين في أوكرانيا؟
في الأساس، من المعروف أن لإسرائيل نفوذاً أمنياً ميدانياً واسعاً في شرق أوروبا، ومن يقرأ في سير ضباط المخابرات الإسرائيليين الذين يتولون مناصب بارزة في الموساد سيجد أن العمل في إحدى دول شرق أوروبا ضروري لكل ضابط كفء في الجهاز، ولعله بناء على تلك السردية الأمنية جرى إعداد عدد من الأفلام العربية التي تتناول الدور الإسرائيلي العابر للحدود أوروبياً.
تاريخياً، تنظر إسرائيل إلى منطقة شرق أوروبا، ضمن عدة مناطق أساسية على مستوى العالم، وفقاً لتقسيم جغرافي عرقي، على أنها مورد محتمل دائم لليهود الأوروبيين في حال حدوث أي قلاقل أمنية، مثل إثيوبيا والمغرب والسودان في إفريقيا، واليمن وإيران في آسيا، فكل صراع واسع محتمل في منطقة ذات نفوذ يهودي تاريخياً يجري تأويله في دوائر صنع القرار الإسرائيلية على أنه فرصة لجذب مئات اليهود إلى الوطن الجامع.
من الناحية الاقتصادية، قد يكون من المفيد لإسرائيل أن تعزف أوروبا تدريجياً عن الاعتماد على الغاز الروسي، وذلك لكي يزداد التفكير الغربي من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في إمكانية الاعتماد على التحالف الإسرائيلي في شرق المتوسط، والمؤلف إلى جانب تل أبيب من اليونان وقبرص ومصر، وسلسلة حقول لفياثان وأفروديت وظهر.
كما أن منطقة شرق أوروبا تعد أحد أبرز أهداف سوق السلاح الإسرائيلي، وبالأخص وسائل الدفاع الجوي والمسيرات والحرب الإلكترونية ومضادات الدبابات، إلى وسط آسيا، وقد كانت إسرائيل جزءاً رئيسياً من سوق السلاح الذي ازدهر نهاية 2020 في الحرب بين أذربيجان وأرمينيا.
ولكن الملاحظ أن إسرائيل رغم كل هذه العوامل، والتي يأتي إلى جانبها أيضاً كون كييف واحدة من العواصم القليلة التي اعترفت بسيادة إسرائيل على القدس ضمن خطة ترامب قبل عامين، تجاهلت الانخراط في هذا الصراع إلى جانب الولايات المتحدة والمعسكر الغربي ميدانياً أو إعلامياً.
على العكس، رفضت إسرائيل طلباً رسمياً من أوكرانيا ببيع بطاريات القبة الحديدية المصنعة بالتنسيق مع الولايات المتحدة، كما اتخذت إجراءات من شأنها إحراج الأوكرانيين وإزعاجهم بما في ذلك فتح القنوات التلفزيونية الرسمية أمام قادة المعارضة المسلحة، الانفصاليين المدعومين من روسيا، وطلب المساهمة من موسكو في نقل عشرات اليهود الأوكرانيين إلى إسرائيل.
أدت هذه الإجراءات الأخيرة إلى إغضاب الأوكرانيين بشكل هائل، وذلك خلافاً لما كانوا يعولون عليه من دعم إسرائيلي لهم في مواجهة روسيا باعتبار تل أبيب جزءاً من المعسكر الغربي، وهو ما فتح الباب أمام حرب كلامية بين الطرفين قال الأوكرانيون خلالها إن الإسرائيليين يتعاملون معهم بتبجُّح وازدراء "كما لو كانوا يتعاملون مع قطاع غزة".
هذا في نفس الوقت الذي أدت فيه نفس الإجراءات إلى تلافي إغضاب الروس، الذين تخشى إسرائيل أن يمتد غضبهم إلى إحدى أبرز البؤر خطورة (سوريا)، وهو ما يعود في الأساس إلى السياسة الخشنة نوعاً ما التي يستخدمها الروس منذ سنوات في سوريا ضد إسرائيل، والتي قد تتطور- حال خرجت الأمور عن السيطرة- إلى رعاية الروس ضرب أهداف إسرائيلية عبر الأراضي السورية بواسطة ميليشيات شيعية، كما يقول الروس أنفسهم وكما يصرح الإسرائيليون في كواليس لقاءاتهم المسربة إلى الإعلام.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.