لكل منّا زاوية صغيرة، ومساحةٌ ضئيلة اختلسَها مِن هذا العالم الكبير، لا يمتلكُ سِواها، يدافعُ عنها بشراسة لتبقى له وحده، حتى لو اضطره الأمر لأن يخدشَ صدر الحياة بأظافره، أو يغرس سكيناً في قلبها.
إلا أنه وبمجرد موتِنا يحتلُّ تلكَ الزوايا أناس غيرنا، ويستوطنُ غرفَها مَن خدعونا بالقول: إنّ الحياةَ تستمر بعدَ كلّ راحل. صحيح أنّنا لا نعرفُ متى سيأتي دورنا وبأنّنا لا ننتظر الموت كما ينبغي، ولا نتهيّأ لاستقبالِه كما يجب، بل نتمنى لو نغلق كلّ الأبواب في وجهه، ونعتذر عن كل المكالمات التي قد تُقابلنا به، إلا أننا دائماً ما نتمنّى لو أنه يزورُنا بالشكلِ اللائق لنا.
لا أن يختطفنا من بين مَن نُحب، فيحدِثَ في قلوبهم ثقباً يصعُب ترميمُه، وجرحاً ليس من السّهل شفاؤه.
ولأنّ دورة الحياة قاسية، نقرأُ أخبار مَن رحلوا فجأة فنحزن قليلاً، ثمَّ مع الوقتِ ننسى، مُسلّمين بأنَّ نزيف رحيلهم لن يتوقف، وأن علينا أن نعتاد، ووحدَهُ فراق مَن نحب يؤلمنا كثيراً، يعيثُ في داخلنا أذى، فنصدأ دونَ أن نشعُر.
سُئِل ابن الشّاعر جرير، ما كانَ أبوك صانعاً؛ حيثُ يقول:
"لو كنتُ أعلمُ أنَّ آخر عهدكُمْ.. يومُ الرَّحيلِ، فعلتُ ما لمْ أفعلِ"
فقال: "كان يفقأُ عينيْه ولا يرى رحيلَ أحبابِه".
نحنُ كذلكَ نتمنّى لو تُفقَأ أعينُنا ولا نرى رحيلَ مَن أحببنا، ولكنْ ماذا لو كانَ الراحل أنا أو أنت، نحنُ الذينَ نعتقد أنّ كلّ مَن مات هو إنسانٌ مسكين، فقَدَ مساحته من هذا العالم وابتعد، وأنّ هذا الموتَ الذي يزورُ غيرَنا دائماً قد لا يُفاجئنا الآن.
لذا كثيراً ما نستخفُّ بالكلمة، فنستعملُها للتعبير عن حبّنا لأحدهم، والخوفِ من فقدانه، أو عند تذمرنا من مطبّات الحياة الكثيرة، فتجدُنا نتمنى الموت على أنْ نصارعها وتغلبَنا، نؤجّلُ اعترافاتِنا، ونتريّثُ قبلَ البّوحِ بمشاعرنا، ونتمادى في جَرح الآخرين، أو نعقدُ صفقة مع الله، نخبرهُ فيها بأنّنا سنتوبُ يوماً، ظانّين أنّ في العمر بقية، وأنَّ الموتَ بعيدٌ عنّا، قريبٌ من غيرنا، متناسينَ أنَّ مَن ماتوا، كانوا مثلنا أيضاً يظنّون الموتَ بعيداً، فإذْ بهِ كانَ أقربَ إليهم منْ حبلِ الوريد.
لعلّ ما يجعلُنا كذلك؛ هو أنّنا لم نجربْ بعد، معنى أنْ نكونَ تحتَ التراب، فتستمر الحياةُ من بعدنا كما بدأتْ، مع أنّنا نتمنى لو أنّها تتوقفُ بموتِنا، لم نجربْ بعد معنى أن نُترَك بلا سند، وأن يحتل أمكنتنا غيرُنا، وأن نوضعَ في حفرة صغيرة، يكادُ العقلُ لا يستوعبُها، نحنُ الذينَ نخافُ من الأمكنة الضيّقة، نوضَعُ في حفرةٍ بلا نوافذ، نجرّب أن نلّوح لِمَن تركونا وفرّوا مغادرين، ولكن ما مِن مُجيب، نحاولُ أن نقصَّ المسافة بيننا وبينهُم بمعجزة، فيبتلِعَنا التراب ونختنق، ولا يبقى معنا سِوى أعمالنا، وأخلاقنا، ومبادئنا التي التزمنا بها، وتلكَ التي انحرفنا عنها، وحفنة من أدعية مَن أحبونا بصدق، وبِضْع كَدَمات تركها غيابُ مَن عَبرونا يوماً ومروا، وبقايا أعمال استهنا بها، فارتطمْنا بخيبتِنا مرددين: "رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ".
هل جرّبَ أحدكُم أن يتساءلَ: إنْ مِتْنا، مَن سيمشي في جنازتِنا؟ مَن سيرثينا؟ منْ سيقفُ على قبرنا طويلاً، واضعاً يداً على الرُّخام، ويداً أخرى يمسحُ بها دمعاً أبَى أن يجِف؟ مَن سيواظبُ في ما بعد على زيارتِنا مخلصاً لذكرانا، ونحن بأمسّ الحاجةِ لنسمعَ وقْعَ خُطوات أحدهِم، مَن سيسلّم علينا ويُغرقنا بكلّ ما فاتنا من تفاصيل؟
فكيفَ لنا بتقبلِ حقيقة موتنا؟ ونحنُ دائماً ما نرفضُ أن يكونَ موتُ أحدهِم حقيقة، بل نعتقدُ أنّ أحبّتنا في أيةِ لحظة، سيدقُّون الباب، وسيتركونَ لنا رسالة، أو مكالمة، ومَن يدري، ربما يخرجُون لنا من دهاليز غُرَفِنا المُعتمة دونَهم.
هكذا نحن، بأسئلةٍ بريئة نواجهُ حَدَثاً عظيماً كالموتِ، نجزمُ أنّنا عشنا تجربته القاسية، بموتِ عزيز، أو برحيلِ صديق، أو بفقدان حبيب، بوداعِ وطن، أو بكرسي سَئِم قارعةَ الانتظار، بأقنعة مزيّفة جعلتْنا نبتلعُ كلامنا، أو بِنُدوب طَفَت وأغرقتنا، أو بخيبات عبرتْنا كمسمار عَلِق في المنتصفِ مُنحنياً، بعد أن خسِرَ معركته مع الحائط.
قد كان جبران صادقاً عندما قال:
"ما زلتُ أؤمنُ أنّ الإنسان لا يموتُ دفعةً واحدة
وإنّما يموتُ بطريقة الأجزاء
كلّما رحل صديقٌ مات جزء
وكلّما غادَرَنا حبيبٌ مات جزء
وكلّما قُتِل حلم من أحلامنا مات جزء
فيأتي الموت الأكبر ليجدَ كلّ الأجزاء ميتة
فيحملها ويرحل".
لأنَّ الكثيرَ منّا لم يجرّبْ أن يكتبَ رسالتَهُ الأخيرة للعالم، تبقى أكبرُ المعارك؛ هي تلكَ التي نخوضُها لنثبتَ أنفسنا، لنتركَ أثراً، لنجعلَ مَن تركْنا خلْفَنا يتوهُ بين صورنا الأصدق والأعمق، لنكافحَ من أجلِ أن يُقال عنّا: "رحمهم الله" بابتسامةِ حب لا تخلو من الحزن، لنجدَ مَن يُهدينا دعاء يليقُ بما تركناهُ من أثر.
فلنجاهدْ جميعاً من أجلِ أن تكونَ رسالتنا الأخيرة في هذا العالم كوجودِنا فيه، خفيفة نبيلة، مشرقة، "فقيمةُ الإنسان فيما يضيفُه إلى الحياة بينَ ميلاده وموته".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.