لعقود طويلة والعالم الثالث يئن تحت وطاة التخلف، لقد كان خروج الاحتلال الأجنبي -خرج بمؤسساته فقط- لحظة فارقة في تاريخ الشعوب الإفريقية؛ فلسنوات ظل الاحتلال يرهق البلدان، ويجثو فوق صدر التنمية فيها، وقد أعتقد، وللوهلة الأولى، أن ابتعاده عن هذه الدول مبدئياً يحمل أول بذور التنمية!
مضت الأيام بسرعة، انتهى القرن العشرون بخيبة أمل كبيرة، وبدأ القرن الجديد بأحلام عظيمة، ولعل حلم التقدم هو ما لم يبارح ذهن الشعوب الأفريقية وشعوب العالم الثالث عامة، إلا أنه وبمرور واحد عشرين سنة من الألفية الجديدة، لا زال الحال كما كان، وإن لم نقل إن الأمور ازدادت سوءاً، وحتى أولئك الذين افتتحوا القرن بصدور رحبة وأمل حقيقي، باتت صدورهم أضيق من أي وقت مضى، وجذوة أملهم بدأت تخبو شيئاً فشيئاً، ولسان حالهم: لا جديد تحت الشمس.
مع هذا التخلف، أضحى الشباب المسلم عرضة للضياع الفكري، وهكذا وجدنا أنفسنا أمام نماذج محرفة من الأفكار، وخاصة أننا نعيش عصر السرعة، نطل على منجزات الآخر فنصاب بالإحباط، وهنا يتسلل إلا ذهننا وذواتنا الإحساس بالدونية، ودون أن ندرك نسقط واقعنا على تاريخ أمتنا التليد.
ومع قوة الإعلام الغربي والإعلام العربي الموجه والمنبطح للغرب، تتغذى هذه الدونية لدى الشباب خاصة، وتطفو مشاعر احتقار الذات أكثر فأكثر، وهكذا تصبح أوروبا في نظر الشباب أصل كل تحضر، والعالم العربي-الإسلامي منبع كل تخلف، بل وقفز البعض أميالاً ليلصق التخلف بالإسلام، فبعض المجموعات المصرية تدعو للعودة للدين الفرعوني، وبعض المجموعات في الشمال الإفريقي تطالب بالعودة للثقافة البربرية، وذاك أن هذه العودة هي الحل للتقدم، فهي تشابه في مضمونها الحضارة الغربية!
لا ينبغي أن نلصق هذه الرؤية التي باتت تتبنى شريحة واسعة من الشباب في الإلحاد بأنواعه، إنما يجب الوعي بكونها شبه نمط يتبناه الشباب العربي باختلاف انتماءاته العقدية، كما لا يجب أن نتهم هؤلاء ونلصق فيهم ما لا يصح، وعوض ذلك وجب تفهم موقفهم هذا، ومحاولة مقارعتهم بالحجج الدامغة التي تزيل عن أعينهم الغشاوة، وتضع أمامهم الحقائق التاريخية التي لا يجب نكرناها ولا نسيانها.
فليست أوروبا أول حضارة إنسانية، وليس الأوربي إنساناً دون الناس، ولا دماغه بعشرة أدمغة عربية، وليس هناك عرق أفضل من الآخر ولا دولة هي أرقى من الأخرى، فشعوب العالم متساوية، والحضارات الإنسانية يكمل بعضها بعضاً؛ وليس وجود حضارة بنيت من الصفر، فكيف يعقل أن يبني الأوربي حضارته دون أساس!
لنا تاريخنا المشرف
لا ينفك الشباب يقارن منجزات الغرب اليوم ويُسقطها على كامل التاريخ، فيرى أن التاريخ يبدأ عند جبل طارق أو السواحل الغربية لبحر إيجة، وما دون ذلك لا يسمو لكونه تاريخياً إنسانياً!
والحقيقة أن الإسلام بنى حضارة عظيمة امتدت أطرافها من الهند شرقاً إلى الأطلسي غرباً، وأخرج لنا عظماء نبغوا في شتى المجالات؛ ابتداءً من السياسة وانتهاءً بالفن والعمران، فالمطلوب إذاً إعادة قراءة هذا التاريخ قبل إطلاق الأحكام الجزافية.
فليس التاريخ الأوروبي هو الأفضل إلا إذا لم تدرس تاريخ الإسلام أو تاريخ حضارة الصين، وهنا يأتي دور الأنظمة التعليمية والإعلام، فالمطلوب إدخال منجزات الحضارة الإسلامية للمقررات الدراسية وتعمق في فلسفة الدين الإسلامي باستحضار نماذج من إبداعات العلماء المسلمين، لكن ليس كما هو موجود في الكتب الآن، فهي تشير إليها بشكل مقتضب، وتمر على الكثير منها مرور الكرام، ولا تعطي للشخصيات الإسلامية حقها، وبالتالي نصبح أمام متعلم غير واعٍ بتاريخه، وإنجازات أمته، ومُعرَّض لأي نوع من الغسيل الدماغي الذي تقوم به القنوات الإعلامية.
وبالحديث عن الإعلام، فلا يمكن إغفال ما طرأ على منظومة الإعلام في الوطن العربي، فلسنوات طوال كنا نتابع إنتاجات تلفزية عن تاريخ أمتنا وعلمائنا، وأصحاب المذاهب، ولعل ما يحضرني اليوم مسلسل أبي حنيفة النعمان.
لقد كنا محظوظين للغاية أن شاهدنا هذه الإنتاجات، وتابعنا برامج دينية تسلط الضوء على تاريخنا، ومع ذلك لم ندرك عظمة حضارة الإسلام، بل كنا نحن أيضاً ضحايا الإعلام الموجه؛ فكنا نتبنى نظرية شبابنا اليوم، واعتقدنا كما يعتقدون هم "أن أوروبا هي التاريخ ولا قراءة للتاريخ دون النظرة الأوروبية"، فلهذا نقول إن التعامل مع الإشكالية يجب ألا يأخذ مسار التعنيف أو الانتقاص من الشباب ووصمه بما لا يصح.
والإعلام له رسالة يجب عليه إيصالها، فليست مهمته بث الترفيه فقط، فالإعلام اليوم لاعب أساسي في تشكيل الوعي المجتمعي، ويمتلك الإعلام من القوة ما لا تمتلكه المدافع، ونحن نرى كيف باتت الدول تعتمده في تليين شعوبها أو التلاعب بشعوب الدول أخرى، ولهذا يجب خلق قنوات والعمل على صناعة إنتاجات تهدف إلى تغيير نظرة الشباب المسلم إلى نفسه وإلى تاريخه، فأنَّى لمن يحتقر ذاته أن يفخر بماضيه ويخطط لمستقبله!
كما أن الخروج من قوقعة القراءة الأوروبية للتاريخ لن ينجح إلا بامتزاج رغبة وحب في المعرفة، فلا يمكن لأي محتوى أن يغير قناعات الشباب ومهما كانت حججه، ولهذا من الأهمية بمكان تحفيز الشباب على قراءة الكتب، وخاصة تلك التي تتحدث عن الحضارة الإسلامية، ومن الجيد البحث عن كتب لمؤرخين أجانب ذوي مصداقية، وهم كثر.
فمطالعة هذه الكتب ستعمل على إزالة الغشاوة من على أعين المنبهرين بالغرب، وستمكنهم من امتلاك أدوات بحث توصلهم إلى استنتاج مقدار الوهم الذي يسبحون فيه، وتفتح الباب على مصراعَيه للتصالح مع ذواتهم ومع تاريخهم.
ولا أخفي على القارئ الكريم -وقد أشرت إلى ذلك سابقاً- أني كنت على شاكلة هؤلاء الشباب والمثقفين، وهذا ما جاء كنتيجة لانغماسي في قراءة كتب الفلاسفة الغربيين ابتداء من سقراط وانتهاءً بفوكو وهابرمس وغيرهما من الفلاسفة المعاصرين.
هذا الاطلاع المدفوع قبل كل شيء برغبة في الدفاع عن الإسلام كاد يوقع بي في الفخ، ولكن الفترة التي تلت الانتهاء من قراءة أهم كتب القوم، تزامنت مع قراءات أخرى كمجموعة السوائل لبومان، وكتاب "مجتمع سوي" لفروم، وغيرها؛ فكانت هذه القراءات الجانبية ذات تأثير كبير، إذ سرعان ما أدركت أن هذه الحضارة الغربية مع منجزاتها لم تستطِع أن تنقذ الإنسان من أزمته، بل أدخلته في أزمات هو في غنى عنها (يمكن إفراد مقال خاص بالموضوع)، وآنذاك بدأت في مراجعة أفكاري وتصحيح نظرتي فوجدت أني واقع تحت تأثير "النزعة الأوروبية"؛ كشاب مغربي مسلم كنت أنظر إلى مجتمعي نظرة انتقاص وأقف مذهولاً أمام كل ما هو أوروبي.
بالإضافة إلى القراءة، لا يمكنني إغفال الدور الحاسم الذي لعبه المهندس "أيمن عبد الرحيم" فك الله أسره، فلنقل إن الرجل أصابني بدوار حضاري، واستفز كل ملكات العقلية، والأهم أكد لي أن الخلاصة التي خرجت بها من قراءتي للفكر الغربي (غير قادر على معالجة أزمة الإنسان) صحيحة بنسبة مئة في المئة.
إذا كنت أعرف ألف كتاب فالمهندس وضع بين يدي ألف ألف كتاب وكلها تناقش موضوع الشرق والغرب، وهكذا بدأت مرحلة جديدة من القراءة ابتدأت بقراءة كل من "الإسلام بين الشرق والغرب" لعلي عزت بيغوفيتش، و"الدولة المستحيلة" لوائل حلاق.
وما زالت هذه المرحلة قائمة، واليوم يمكنني أن أكتب هذا المقال وأقول لك وبكل فخر: "اعتزّ بتاريخ أمتك وإياك والسقوط في فخ التغريب، وتذكر أن الأنبياء وُلدوا في الشرق، وأن أوروبا لا نبي لها".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.