أصدر رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان قرارات تمت بموجبها ترقية ضباط من رتبة العقيد فما دونها للرتب الأعلى، وقضت قرارات البرهان وهو القائد العام للقوات المسلحة، بإحالة ضباط آخرين للتقاعد بالمعاش، دون تسميتهم. وقال بيان صحفي من مكتب المتحدث الرسمي للجيش السوداني، يوم الإثنين، إن القرارات جاءت في إطار الإجراءات الراتبة التي تتم طبقاً لقوانين ولوائح القوات المسلحة. وأضاف البيان: "يأتي هذا الإجراء الراتب سنوياً للمحافظة على التدرج الوظيفي والتسلسل الهرمي بالقوات المسلحة".
يتساءل كثير من السودانيين والمراقبين للشأن السوداني عما يقوم به الفريق البرهان من تخبط وتجاهل مُتعمد لتمدد ميليشيات الجنجويد القبلية حتى كادت تلتهم الجيش السوداني بكامله، والسؤال الأهم هو هل يتعمد البرهان تفكيك الجيش السوداني كما فعل علي عبد الله صالح. ولماذا؟ وهل ينتهي به الأمر ليلقى المصير نفسه؟
وعشرات من الأسئلة التي نُجيب عنها كالعادة بوضع مقارنات تُوضّح خطورة الوضع وتشابهه مع أحداث كثيرة لم يستفِد منها الجيش ولا القوات النظامية ولتفهم أكثر يجب أن تعلم أن علي عبد الله صالح هو أول رئيس يقوم بتحويل الجيش إلى جيش قبلي ويقوم بتقوية دور الإدارة الأهلية والاستعانة بميليشياتها في حروبه الداخلية مثل حرب صيف 1994 وحروب صعدة الستة (2004-2009)، واستطاع عبر القبيلة السيطرة على كل اليمن، وهذا ما قام به البشير في دارفور تماماً، وأصبحت هنالك قوات موازية للجيش من هيئة عمليات ودفاع شعبي وجنجويد (دعم سريع) كما حدث باليمن، مما يقودنا لفهم ما يفعله البرهان الآن.
مجازر الولاء
بعد استيلاء علي عبد الله صالح على السلطة في اليمن وخوض حرب 1979م واجهته انقلابات عسكرية وفهم أن الجيش منقسم تجاهه وعقيدته القتالية منقسمة أيديولوجياً وتنظيمياً، فقام علي بحملة تغييرات واسعة في قيادات الجيش وأعدم بعضهم وسجن الآخر، وأعفى البقية من مناصبهم وأحالهم للمعاش وأعطى قبيلته والمحسوبين عليه معظم الرتب القيادية في الجيش.
بعد استيلاء البرهان على السلطة في السودان في أبريل/نيسان 2019م واجهته انقلابات عسكرية وفهم أن الجيش منقسم تجاهه ولا يدين له بالولاء، بعد تخصيصه مقعد النائب لصديقه حميدتي، زعيم ميليشيا الجنجويد القبلية سيئة الصيت، في مخالفة واضحة للمتعارف عليه داخل الجيش.
فاعتقل البرهان رئيس هيئة الأركان وقائد سلاح المدرعات وقائد المنطقة المركزية والعديد من قادة الجيش بتهم الانقلاب عليه، معظمهم كانوا على خلاف علني مع حميدتي، وأحال عدداً كبيراً جداً من قيادات وضباط القوات المسلحة للمعاش ليضمن خروج كل المعارضين له من المشهد.
غفل الكثيرون عن هذه الملحوظة التي تؤكد وجود قطاع كبير داخل المؤسسة العسكرية يرفض بقاء البرهان ونائبه وحملة التفكيك الممنهجة للجيش، وأن البرهان ليس ديكتاتوراً على الشعب وحسب، بل على العسكر أيضاً.
في اليمن أعلن صالح الحرب الباردة داخل المؤسسة العسكرية بتحويل جيش المناطق القبلية لجيش عائلي بإقالته لكبار الضباط وتسليم المناصب الحساسة فيه لأقاربه من الأقل عمراً من أبنائه وعائلته.
هذا الأمر أثار غضب حلفائه الأوائل بدءاً من علي محسن الأحمر قائد الفرقة الأولى مدرع وذراع صالح اليمنى، فكانت بداية الانشقاق داخل الجيش الذي يُبحر صالح فيه بعيداً عن المؤسسية.
وفي السودان أعلن البرهان الحرب الباردة داخل المؤسسة العسكرية بتحويل الجيش المناطقي والجهوي والمؤدلج لجيش عائلي أو أيديولوجي يبقى فيه من يدين بالطاعة للبرهان ولا يعترض على تمدد الجنجويد، هذا الأمر أثار غضب حلفائه الأوائل مثل اللواء نصر الدين عبد الفتاح قائد المدرعات الذي اتُّهمَ بمحاولة انقلاب بعد خلاف معلن له مع زعيم الجنجويد في فترة الاعتصام.
وتمدد الغضب ليصل حتى أركان حرب مجلسه العسكري من أمثال صلاح عبد الخالق والكباشي والراحل جمال عمر وزير الدفاع السابق، وغيره ممن اختفوا بشكل مفاجئ من المشهد العسكري، وكانت هذه بداية الانشقاق داخل الجيش المنقسم بين عسكريي المؤسسة وجيش البرهان الجنجويدي.
خطة بتر الأطراف
عندما بدأ صالح بتوريث ابنه أحمد قائداً للمؤسسة العسكرية عمل على التخلص من أي منافس محتمل يمكن أن يعارض أحمد، فشرع بتغيير المشهد العسكري من كل الشخصيات الموالية له سابقاً والمعارضة لفكرة التوريث عبر إدخالها في حروب ومعارك مفتعلة وتجفيف مصادر قوتها، فقام سراً بتبنّي جماعة الحوثيين وأوكل مهمة قتالها لقائد المدرعات علي محسن الأحمر الذي يُشكل خطراً على مشروع توريث ابنه، بل ذهب إلى احتضان تنظيم القاعدة وتوجيهه في إثارة رعب دول الجوار ليُعزز موقفه ويحصل على دعم العالم أمام ثورة الشعب ضده- بحسب مصادر وتقارير.
على الطرف الآخر، عندما بدأ البرهان بتوريث حميدتي قائداً للمؤسسة العسكرية التي لا ينتمي إليها، عمل على التخلص من أي منافس أو معارض محتمل لقيادة حميدتي، فشرع في تغيير المشهد العسكري من كل الشخصيات الموالية له سابقاً والمعارِضة لفكرة وجود حميدتي قائداً في الجيش عبر إدخال هذه القيادات في حروب ومعارك مفتلعة وتجفيف مصادر قوتها.
فهوجمت الفشقة الأرض السودانية، ولكن لم تهاجَم حلايب السودانية واشتعل فجأة صراع قبلي مسلح جديد في دارفور، ليُعزز موقفه ويحصل على دعم العالم أمام ثورة الشعب ضده.
اعتمد صالح سياسة تفكيك الجيش تدريجياً لمصلحة قوات الحرس الجمهوري التي يقودها ابنه أحمد ولصالح جهاز الأمن الذي يقوده ابن أخيه فسخّر لهما كل إمكانياته المالية من أجل الحصول على صفقات الأسلحة المتقدمة والدعم الدولي.
اعتمد البرهان سياسة تفكيك الجيش تدريجياً لمصلحة ميليشيا الجنجويد التي يقودها نائبه حميدتي ولصالح جهاز الأمن الذي يقوده الموالون له في التنظيم ولا يمانعون قيادة حميدتي، فسخر- في رأيي وعلى ما يبدو لي من قراءتي للمشهد- كل أموال الارتزاق التي تأتي من اليمن وتهريب البشر وتجارة المخدرات والذهب من أجل حصول الجنجويد على أفضل صفقات التسليح المتقدمة والدعم الدولي عبر فتح منفذ لها مع إسرائيل ودول الجوار والخليج على حساب الجيش.
وفي اليمن، قام علي عبد الله صالح بتقوية نفوذ زعماء القبائل وأنشأ لهم أجساماً رسمية مثل اللجان الشعبية والجيش الشعبي للسيطرة على اليمن.
وفي السودان سمح البرهان لحميدتي بتقوية نفوذ زعماء القبائل عبر محاولة تقنين وضع الإدارات الأهلية من أجل السيطرة على السودان، وهذا ما رفضه الإعلان السياسي لـ(لجان مقاومة مدني) الذي وصف تمدد الإدارات الأهلية بأنه سبب في تغييب دور الدولة وقطع علاقة المواطن المباشرة مع مؤسسات الدولة، وهو فهم متقدم لمسألة أنظمة الحكم المحلي.
التمييز والانقسامات
سياسة صالح أفضت لوجود انقسامات وعدة جيوش في اليمن موزعة بين الحرس الجمهوري لابنه والمدرعات لعلي محسن الذي أصبح بجيشه وتسليحه مستقلاً عن وزارة الدفاع وجيش الدولة المتمثل في القوات البرية للجيش ورافقت الانقسام مفارقات بين الجندي الذي ينتمي للحرس والجندي الذي ينتمي للفرقة، فكان الزي العسكري للحرس مختلفاً عن الزي الذي يرتديه أفراد القوات البرية وأفراد الفرقة، ويتمتع جندي الحرس براتب ومزايا مالية تزيد على غيره من أفراد الجيش، ناهيك عن التدريب وغيره، وأدت التفرقة مع الأيام لوجود حالة من الفرقة والعداء بين أفراد القوات المسلحة، وكانت أهم أسباب تأييد جنود الفرقة الأولى مدرع للثورة الشبابية اليمنية عام 2011.
سياسة البرهان أفضت كذلك لوجود انقسامات وعدة جيوش في السودان موزعة بين الجيش النظامي وبين جيش ميليشيا الجنجويد التي تتبع لحميدتي الذي أصبح بجيشه وتسليحه مستقلاً عن وزارة الدفاع وجيش الدولة المتمثل في القوات البرية، بل تم دمج حرس الحدود في ميليشيا الجنجويد.
ورافقت هذه الانقسامات مفارقات بين الجندي الذي ينتمي للجنجويد والجندي الذي ينتمي للجيش، فالزي العسكري للجنجويد مختلف عن الزي يرتديه أفراد الجيش، ويتمتع جندي الجنجويد براتب ومزايا مالية تزيد على غيره من أفراد الجيش ناهيك عن التدريب وغيره، و بحسابات منطقية فإن هذه التفرقة ستؤدي دون أدنى شك إلى نمو حالة من الفرقة والعداء بين أفراد الجيش والجنجويد وربما تأييد الجيش للثورة الشبابية الحالية كونها الصوت الذي يتفق معهم في عدم السماح للجنجويد بتفكيك الجيش، وضرورة وجود جيش وطني موحد بعقيدة جديدة تبعده عن المناطقية والجهوية والقبلية، وهذا ما يقاتل البرهان وحميدتي ضده حالياً.
السقوط
انحاز علي محسن الأحمر للثورة الشبابية ضد علي عبد الله صالح وانقسم الجيش إلى قسمين (جيش أنصار الثورة – جناح علي محسن) وجيش العائلة بقيادة صالح، وهو انقسام كشف عورة حجم الانقسام داخل الجيش الذي كان تصنيفه الخامس عربياً والثالث عشر عالمياً وفقاً لجلوبال فاير باور في 2013، وخاض الجيشان معارك ضد بعضهما البعض في العاصمة صنعاء ومدن أخرى.
ووفقاً لدراسات أمنية فإن احتمال انحياز قادة من الجيش السوداني للثورة الشبابية المستمرة ضد البرهان ارتفعت بنسبة تفوق الـ83% وإن إمكانية نشوب صراع بين الجيش والجنجويد باتت محتملة بشكل كبير في ظل تقدم الأخير على الأول وتمدده داخلياً وخارجياً وفرضه سيطرته حتى على قادة الجيش الذي هبط للمركز الـ73 عالمياً.
بعد معرفة علي محسن بأن الحوثيين هم جماعة سرية لعلي عبد الله صالح وأن معركته ليست معهم انشغل بحرب الأسرة، مما سمح للحوثيين بالتقدم وفرض أنفسهم في المشهد كطرف ثالث، بل قاموا بقتل من صنعهم بصورة وحشية بإطلاق النار على رأسه وتقطيع قدميه، ليُقتَل علي عبد الله صالح بجماعته التي صنعها بيده وفضّلها على جيش البلاد الرسمي.
"مش من رحمي"
بحسب تقرير البي بي سي وفي العام 2017 أقر البرلمان السوداني قانوناً ليكون ملزماً للجيش بضم الدعم السريع له، ولكن ازداد نفوذ الميليشيا وجاء الرفض من حميدتي صاحب مقولة (الجيش دا حقهم هم) الذي رفض قرار البرلمان بضم الدعم السريع للجيش واعتبر نفسه قوة موازيه للجيش وأصبح يتبع لرئيس الجمهورية. ويبدو للعيان أن حميدتي سيخيرهم قريباً بين الدمج في الدعم أو التسريح.
هذه هي المشكلة الثالثة التي حددها رئيس الوزراء المستقيل حمدوك في خطاب الاستقالة قبل مغادرته: الانقسام داخل القوات المسلحة، والمنافسة بين الجيش والقوات شبه العسكرية. وقد قام البشير بإنشاء قوات موازية للجيش، وجهاز المخابرات.
ولدى قوات الأمن السريع هيكلها القيادي وتمويلها الخاص كجزء من اتفاق تقاسم السلطة، من المفترض أن يدمج دقلو قواته في الجيش، مما يعني التخلي عن بعض سلطته. في هذا الشأن، يقول الجنرال البرهان إن هذا سيحدث "في الوقت المناسب" وحميدتي يصر على أن هذا قد حدث بالفعل!
لكن هذا التناغم السطحي يمكن أن يتبخر بسرعة. ففي يونيو/حزيران، بدأت قوات الدعم السريع والجيش بتحصين مقراتهما في الخرطوم بأكياس الرمل. لقد وصل الأمر إلى نقطة كان من الممكن أن يقتلوا فيها بعضهم البعض في الشوارع.
بعدها، هدأت الأعصاب، والمحادثات بين الجنرال برهان وحميدتي منذ ذلك الحين. ويعتقد البعض أن الجنرال البرهان ربما يكون قد وافق على تأجيل التكامل وانضمام قوات الدعم السريع إلى منظومة القوات المسلحة إلى أجل غير مسمى. ومع ذلك، فإن هذا من شأنه أن يضعه على خلاف مع السودانيين بما فيهم قوى الثورة والقوى السياسية عموماً، وهو كان رأي حمدوك الذي يرى أن السودان يجب أن يكون له جيش وطني واحد.
أسئلة كبيرة لا تزال قائمة حول حميدتي. قليلون يشككون في أن لديه طموحات رئاسية، (في أثناء تناوله وجبة إفطار فاخرة في منزله أخبر مجلة الإيكونميست أنه أخذ دروساً في اللغتين الإنجليزية والفرنسية) لكن موقفه يبدو هشاً بعض الشيء. السعودية والإمارات العربية المتحدة، اللتان كانتا تدفعان لآلاف من جنوده للقتال في اليمن، ليستا بحاجة إلى خدماته الآن. كما أن وفاة ديكتاتور تشاد إدريس ديبي يعتبر أنه قد فقد حليفاً إقليمياً آخر. وتشير الزيارات الأخيرة له لكل من قطر وتركيا وإثيوبيا إلى أنه يبحث عن أصدقاء جدد.
وربما لقلق وخوف داخلي لحميدتي، أصبح يحذر ويكرر من "انقلاب" من قبل أشخاص مرتبطين بالنظام القديم. على الرغم من أن هذا الأمر غير مرجح، فالإسلاميون من حزب البشير والنظام السابق قد يتحالفون بشكل محتمل مع فصائل موالية لهم في الجيش لإجبار دقلو على الخروج، كما يشير الباحث الفرنسي جان بابتيست جالوبين.
الأمر الذي قد يؤدي الى اندلاع القتال في جميع أنحاء السودان. ومع ذلك، يعتقد مراقبون آخرون أن دقلو نفسه سيشكل تهديداً أكبر لعملية الانتقال، لأنه يخشى على مصالحه الاقتصادية- أو حريته. هذا بالإضافة إلى التحقيق في مذبحة فض الاعتصام، حيث قتل أكثر من 100 متظاهر في عام 2019 وتشير أصابع الاتهام إلى مسلحيه.
لا علم لنا بالغيب ولكن في مرحلةٍ ما سيدرك قادة الجيش السوداني أن استرداد أراضي السودان إن لم ينجح بالوسائل الدبلوماسية، فإنهم كجيش موحد وقوي ووطني يمكنهم استرداد كل شبر من تراب الوطن ومن خلفهم سيقف كل الشعب السوداني مسانداً، ولكن في عز حربهم في الفشقة (شرق السودان) وقف قائد الجنجويد بعيداً ولم يساعدهم بل زار إثيوبيا مستثمراً، في تحدٍّ واضح لقيادات الجيش التي أغضب البعض منها هذا التصرف.
وفي ظل احتمالية نشوب الصراع بين الاثنين لا بد أن يتقدم الطرف الثالث المسلح (الحركات المسلحة) وتفرض وجودها وتقضي على الطرف الذي يشكل خطراً عليها وعلى ما يمكن أن يشكل تهديداً لمصالحها في الدخول ضمن منظومة الدولة بشكل نظامي، ولا يوجد في نظر المحللين شخص تنطبق عليه هذه المواصفات سوى البرهان الذي يسير على خُطى علي عبد الله صالح ويُفكّك الجيش لصالح الجنجويد. فهل يلقى البرهان نفس المصير؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.