لطالما طُرحت قضية الحقوق اللغوية والثقافية للشعوب الأصلية المهمشة في شمال إفريقيا من منظور ندية ومساواة الشعوب ببعضها، أي أنه في الغالب يتم الترافع في هذه القضية من مبدأ أن ممارسة اللغة والثقافة بحرية في كل المجالات هي حق أصيل لكل الشعوب، لأن الشعوب متساوية في الحقوق، وهذا الطرح بالطبع سديد ويتضمن غاية نبيلة أيضاً، ولكنه بشكل ما يضيق القضية ويسطحها باختصارها في مسألة الندية، في حين أن القضية أعمق وأكثر أهمية من مسألة الدفاع عن أهلية كل الشعوب في تحقيق المجد الثقافي أو الصدارة اللغوية المماثلة.
التعريف العلمي للغة: هي نسق وإشارات ورموز وأداة للتواصل والاحتكاك والتفاهم بين الأفراد.
وحينما نتحدث عن حق الشعوب أو الأفراد في ممارسة ثقافتها أو لغتها، فإننا نتحدث عن اللغات الأم، وإن تعريف هذه اللغات الأم علمياً وببساطة: هي لغتنا الأولى التي نتعرض لها في طفولتنا فيرتبط بها عقلنا اللاواعي، فتكون جزءاً من كينونتنا، وهي التي سنتصور بها العالم، وستكون المضامين الثقافية لنسقها جزءاً من شخصيتنا وطريقة تفكيرنا.
فيمكننا القول ربما بعبارة أخرى إننا كبشر لا نتناغم عاطفياً وثقافياً مع أي تواصل بالشكل المتكامل إلا إذا كان عن طريق لغتنا الأم، فكأن كلاً منّا حبيس لغته الأم وهي التي تجعله في حالة تواصل وترابط مستفيض مع العالم، فإذا كانت لغتك الأم غير منخرطة في المجالات الرائدة العلمية أو غيرها، فمن غير المرجح أن تبدع في تلك المجالات، لأن كواليس وعيك وعاطفتك شبه منفصلين عن العالم، فحتى بمجرد سفرك مثلاً إلى بلد ما وأنت لا تجيد لغته يصيبك الضياع أو نوع من العزلة، وحتى وإن كنت تجيد لغة ذلك البلد، فلن يجعلك ذلك على رضى مماثل لرضاك بلغتك الأم، فكأن اللغة الأم هي وحدها التي تجعلك في حالة تواصل وترابط حقيقي مع العالم.
اللغة الأم: ضرورة للإبداع وضرورة نفسية
يقول عالم اللغويات جون تشومسكي، إنه من المهم ممارسة الأطفال للغاتهم الأم في التعليم، بسبب ما يترتب على ذلك من تأثير إيجابي على الصعيد النفسي والاجتماعي والتربوي، لأنها تقلل من آثار الصدمة الثقافية التي يتعرض لها الطفل عند دخوله المدرسة، وتقوي أيضاً إحساسه بقيمته الذاتية وشعوره بالانتماء، وترفع من إحساسه بإنجازه على المستوى الأكاديمي.
لذا فإن الأهمية البالغة لممارسة اللغة الأم في المجالات خاصة بالنسبة للأطفال تتجلى في تأثيرها على الصحة النفسية، فحسب هرم الاحتياجات الأكثر أهمية للإنسان الذي وضعه عالم النفس "أبراهام ماسلو" فإن الإحساس بالقيمة الذاتية والشعور بالانتماء، حاجة أساسية لتحقيق الإتزان النفسي، وهو ما يدرج تحت احتياجات الأمان، والاحتياجات الاجتماعية، والحاجة للتقدير.
ولا يخفى أيضاً على من له بصيرة أن الصحة النفسية لا تكمن في تقويض حريات الإنسان، أو تضيق مساحة ذروة اتصاله ووجده، مثلما تفعل الدول -التي تبنت القومية العربية- في شمال إفريقيا ضد الشعوب الأصلية، والذي وصل إلى حد شيطنة لغتهم الأم، باعتبار أن هذه الأنظمة انبثقت في الأساس عن ثقافة الجهاد الديني ضد المستعمر الأوروبي، ما عزز استمرار القادة الدينيين الذين تعوزهم الكفاءة على التواجد في مراكز القرار والسلطة، أي برغم من التحاق دول شمال إفريقيا بركب الدول الحديثة إلا أنها لم تتبن المرجع العلمي، الذي يمكن أن يضمن للجميع حقوقهم، من خلال وضع سياسات من شأنها معالجة الأمور من منظور علمي بحت، والاهتمام بالكفاءات بدل اعتباطية الثقافة المبنية على العاطفة الدينية أو غيرها.
معاداة الأمازيغية في شمال إفريقيا
صعد ازدراء اللغة الأمازيغية في شمال إفريقيا مع موجة الحركة القومية العربية التي وصلت إلى المنطقة وظهرت على أنها حركة إصلاحية تناهض سوء الأوضاع الاقتصادية والسياسية للمنطقة وتناصر قضايا المسلمين العرب في الشرق الأوسط، وسرعان ما عمد انقلابيو ومتبنّو هذا التيار في السلطة على طمس اللغة الأمازيغية وحتى اعتبار ممارستها في العلن جريمة وتآمراً على الدولة، وهذا ما يجعلنا في حيرة وتساؤل عن لماذا هذه المعاداة للغة الأمازيغية والثقافة الأمازيغية؟
في وثائقي نشر على منصة نتفليكس بعنوان (كيف تصبح طاغية؟)، يشرح المعلق الصوتي الخطوات التي يتبعها الطغاة في الحفاظ على السلطة بعد الحصول عليها، ويقتبس اقتباسات من كتاب يسميه كتاب الحيل، إحدى تلك الخطوات أو الحيل هي "كن منقذ الشعب"، أي يجب أن تظهر لشعب كمنقذ من مؤامرة ما تحاك في الخفاء، كما فعل مثلاً القائد النازي أدولف هتلر الذي أوهم شعبه بأن الشعب اليهودي خطر محدق ويجب التخلص منهم، وإن هذا التفسير يفسر أحد أوجه الأسباب التي دعت الطغاة والمستبدون في شمال إفريقيا أن يروجوا لبروباغندا تشيّطن وتخوّن اللغة والثقافة الأمازيغية أي اللغة الأم لهذا الشعب الأصيل في شمال إفريقيا.
وفي الأخير لا يسعني إلا أن أقول إن الأقليات والشعوب الأصلية في العالم لا تزال مستمرة وتطالب بحقوقها الثقافية واللغوية بغية تحقيق تواصل وترابط مع هذا العالم الذي لم يكن بالرحابة والسعة التي ينبغي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.