تشهد الحملات الانتخابية الرئاسية في فرنسا هذه الأيام احتقاناً وتجاذباً بين مرشحي تيار اليمين المتطرف وحتى ما كان يعرف بـ"اليمين المعتدل" في سباق انتخابي لم تعرفه انتخابات رئاسية منذ تأسيس الجمهورية الخامسة عام 1958.
سيكون تاريخ الدور الأول يوم 10 أبريل/نيسان القادم، يليه الدور الثاني يوم 24 من نفس الشهر ثم تعقبه انتخابات تشريعية في شهر يونيو/حزيران المقبل.
المحور الأساسي للحملة الإنتخابية لهؤلاء المرشحين هو موضوع (الهجرة القانونية وغير القانونية) على حد السواء وتأثيرها على مسلمي فرنسا أو الناخب المسلم خصوصاً.
أصبح هذا المتغير في المعادلة الانتخابية لدى أحزاب اليمين المتطرف عنصر قلق وسبباً للأزمة متعددة الأبعاد التي تعيشها فرنسا منذ عقدين.
منذ تأهل مرشح حزب اليمين المتطرف جان ماري لوبان للدور الثاني في شهر أبريل/نيسان 2002 — وصف ذلك اليوم بالزلزال السياسي — وبعد عقدين من ذلك تحوّل الزلزال إلى نسمة وصار خطاب الكراهية والعنصرية بسمة في وجه مرشحي أحزاب اليمين المتطرف على غرار مرشحة حزب التجمع الوطني مارين لوبان ومرشح حزب "الاسترداد" الصحفي المثير للجدل إريك زمور.
المهاجرون والإسلام.. خلاص المتطرفين في فرنسا
تشير مسألة الهجرة والإسلام في فرنسا إلى أزمة عميقة في المجتمع الفرنسي، حتى أصبحت أبسط أمر عند مرشحي اليمين المتطرف وناخبيهم وفي غرف تحرير الإعلام المعادي للإسلام والعرب. عندها بات المسلم الفرنسي أو المقيم الشرعي في فرنسا إلى حد ما يتساءل عن ماذا يحدث في فرنسا أو ماذا حدث؟
منذ ثلاثة عقود وفرنسا اليمينية المتطرفة والمعتدلة أحياناً تنظر للإسلام كخطر على ثوابت هويتها المسيحية، لكن خلال السنوات الأخيرة أضحى موضوع الهوية والخطر الوجودي على الثقافة الفرنسية الذي انتقل من التصريحات الحزبية إلى الابتذال الإعلامي والتصريح السياسي الوقح.
هذا ما يجرنا إلى واقع المسلم الفرنسي أو المقيم المسلم الشرعي وخاصة العربي في فرنسا ومحله من الإعراب في الحملات الانتخابية التي هي حملة ثقافية وفكرية أكثر منها حملات انتخابية مسؤولة بمفهوم أدبيات الفكر السياسي الكلاسيكي.
بالطبع أغلبية كبيرة من المسلمين في فرنسا والعرب يعيشون حياة عادية مسالمة يتصارعون فيها على لقمة العيش ويحاولون رفع قدراتهم الشرائية. المسلمون في فرنسا لا يفوق عددهم سبعة ملايين نسمة أي ما يعادل نسبة 10% من الكثافة السكانية داخل فرنسا وفي أقاليم ما وراء البحار.
لذلك غالبية المسلمين ولا سيما الشباب المسلم من أصول مغاربية ومن دول الساحل الإفريقي يستحضرون حبهم العميق لفرنسا وروح "مبادئها الإنسانية" من مساواة ومنح الفرص من أجل العيش الكريم الذي هاجر من أجله أجدادهم وآباؤهم في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. لكن لمن يتابع عن قرب السباق الانتخابي الفرنسي يجعل هؤلاء الشباب يفكرون في الهجرة من جديد أو النزوح عن فرنسا إلى بلد آمن يضمن لهم الاحترام وحق العبادة أو بعبارة أخرى حرية المعتقد.
فرنسا، بلد فيكتور هوغو وألبير كامو، ليست كفرنسا رينو كامو صاحب كتاب "الاستبدال الكبير" الذي استلهم مرشح حزب اليمين المتطرف، إريك زمور الذي دفع ببلده من خلال خطاب استفزازي تبناه منذ حادثة "الجهادي محمد مراح" في مدينة تولوز ربيع عام 2012، تلتها هجمات باريس وملعب فرنسا خريف عام 2015 من قبل متطرفين جهاديين والتي أودت بحياة 130 شخصاً وتسببت في صدمة عميقة في المجتمع الفرنسي.
الهجرة من جديد
عندها أبدى الرأي العام الفرنسي تعاطفاً طوعياً مع التطرف اليميني وصعود خطاب الكراهية ضد المسلمين في الإعلام الفرنسي الذي خدم إريك زمور مرشح حزب "الاسترداد"- هذا الخطاب جعل المسلم في فرنسا لا يشعر بالأمن وأصبح بُعبُعاً إعلامياً وسياسياً. هذا الخطاب لم تغذّه شطحات إريك زمور، بل سبقه جان ماري لوبان في نهاية القرن الماضي ونيكولا ساركوزي باستعماله عبارة: "فرنسا، أحبها أم أغادرها؟!"
فكرة النزوح عند العرب والمسلمين بدأت تراوح الشباب المسلم المؤهل علمياً ومهنياً بالهجرة إلى بريطانيا وكندا والولايات المتحدة وقطر وأخيراً إلى تركيا بالنسبة للأسر الملتزمة والمحافظة. موضوع هجرة العرب والمسلمين إلى العالم الجديد وقطر وتركيا يدخل في إطار ديناميكية اقتصادية جديدة يتفاعل معها بسرعة خاصة عنصر الشباب الذي بات لا يثق في السياسات العامة للحكومات الفرنسية المتعاقبة خلال العقدين الماضيين في موضوع الاندماج عند اليسار والانصهار عند اليمين.
أضف إلى ذلك، صعود خطاب الكراهية والعنصرية الذي يخشى العرب والمسلمون أن يصبح مسألة مقننة ونظامية في حالة وصول مارين لوبان أو إريك زمور للسلطة.
فمع احتمالية حصول أحزاب اليمين المتطرف وحزب الجمهوريين على ما يقرب من 50% من الأصوات في الدور الأول وفقاً لآخر استطلاع رأي لشركة "ELABE BFMTV" صدر يوم 17 شباط/فبراير، تفاقمت مخاوف الناخب المسلم الذي صمت آذانه من طرح المرشحين المتطرفين أن فرنسا باتت مهددة حضارياً بسبب الغزو الثقافي المسلم، من خلال الحملات المصوبة تجاه المسلمين والعرب، التي يستعملها يومياً مرشحو أحزاب اليمين المتطرف.
أصبحت مسألة هجرة الأدمغة المسلمة والعربية في فرنسا نحو دول أخرى غربية وعربية ومسلمة تحترم دراساتهم ومقامهم العلمي وتضمن لهم حياة مهنية أفضل، مسألة عاجلة ومطروحة على طاولات معظم العائلات المسلمة والعربية. هذا ينطبق على الباحثين الجامعيين والطلبة المسجلين في الدراسات العليا. حيث أصبحت مسألة التمييز العنصري في فرنسا، والتي انتقلت من طابعها العرقي-الإثني إلى الطابع الديني، ظاهرة بمعنى الكلمة.
بالنسبة لمن يتابع الحملة الانتخابية من الخارج، يرى أن مستوى النقاش ضعيف ويثير مخاوف عند الحديث عن النزوح هذه المرة ليس بالعودة إلى البلد الأصل بل إلى الهجرة من جديد لدول غربية أخرى ومسلمة لها رصيد قديم وسياسات عامة ناجعة في اندماج الأقليات العرقية والدينية والمهاجرين والنازحين في المجتمع المضيف.
كما يبقى الحديث عن هذه البلدان الغربية ذات الثقافة المعتدلة مع المهاجرين مثلاً المملكة المتحدة والولايات المتحدة وكندا بعيدة إلى حد ما عن التمييز ضد المسلمين والأقليات الأخرى. الناخب الأمريكي انتخب حسين باراك أوباما، كما أدخل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
حملات الترويع والتخويف
بعد تصريحات مرشح اليمين المتطرف زمور ومرشحة اليمين الكلاسيكي فاليري بيكريس، ازداد الضغط أيضاً على المسلمين الفرنسيين وبات خطاب الكراهية ضد المسلمين- عرباً وفرنسيين- سلعة حزبية رابحة لأحزاب اليمين المتطرف والإعلام المعادي للإسلام.
المشكل الأكبر، أن الأمر خرج من حيز التصريحات إلى الأفعال، حيث ارتفعت الأعمال المعادية للمسلمين بنسبة 52% في عام 2020 عن العام السابق، وفقاً للشكاوى التي أشارت إليها اللجنة الاستشارية الوطنية لحقوق الإنسان التابعة للحكومة. تصاعدت الحوادث ضد العرب والمسلمين خلال العقد الماضي، وبلغت ذروتها في عام 2015. في عام 2017، وجدت دراسة استقصائية أن الشباب الذين يُنظر إليهم على أنهم عرب أو سود كانوا أكثر عرضة 20% للمراقبة من قبل الشرطة.
في سوق العمل، تقل احتمالية الاتصال بالمرشحين للوظائف ذوي الأسماء العربية بنسبة 32% لإجراء مقابلة عمل، وفقاً لتقرير حكومي صدر في نوفمبر/تشرين الثاني 2021. كما لوحظ أن أعداداً هائلة من عائلات شابة وأمهات يكافحن للعثور على وظائف في فرنسا بسبب ارتداء الحجاب، الذي يُعد عقبة أمام المحجبات في فرنسا في الإدماج المهني وحتى الرياضي.
بدأ أكاديميون مؤخراً في رسم صورة اجتماعية تفصيلية للمسلمين الفرنسيين الذين غادروا فرنسا من أجل مستقبل أفضل، تضمن المشروع الأكاديمي بحثاً حول هجرة المسلمين الفرنسيين بقيادة باحثين منتسبين إلى جامعة ليل والمركز الوطني للبحث العلمي CNRS، هذا حسب صحيفة The New York Times.
حسب التقرير، فإن شعور المسلمين والعرب في فرنسا بخطر العنصرية وتصاعد "الإسلاموفوبيا" هو شعور متباين في حد ذاته، كون أن ليس هناك جالية مسلمة وعربية متجانسة، والسبب هو كثرة الأقليات والاختلافات الأيديولوجية والمكانة الاجتماعية والثقافية والعلمية لأفراد الجالية المسلمة والعربية- هذا ما جعل موقعها الانتخابي في المعادلة السياسية ضعيفاً وعرضة لهجمات مرشحي اليمين المتطرف واليمين المعتدل وحتى من قبل إدارة الرئيس إيمانويل ماكرون باتباعه سياسة مشددة ضد المسلمين بحجة محاربة التطرف وما سماه "الإسلاموية الانفصالية"، بعبارة أخرى يريد تدجين المسلمين وتأميم الإسلام على النموذج العلماني الفرنسي- كون العلمانية في فرنسا أصبحت دين الدولة في بلد يتشدق ساسته وإعلاميوه ونخبته على أن لا دين يعلو على دين آخر!
رغم كل الضغوط النفسية والاجتماعية إلا أن غالبية المسلمين والعرب لا يرغبون في النزوح الجماعي عن فرنسا، أو إعادة الهجرة كونهم يعون جيداً أن لهم حقوقاً تحميهم كما عليهم واجبات، والحل يكمن في بطاقة الناخب وعليهم أن يرسلوا رسالة قوية لمرشحين الأحزاب المتطرفة واليمينية وحزب الجمهوريين والحزب الحاكم حزب الجمهورية إلى الأمام، والذي يراهن رئيسه الرئيس المنتهية ولايته الرئيس ماكرون على مواجهة أحد مرشحي الأحزاب المتطرفة في الدور النهائي، ظناً أن الفوز سيكون سهلاً، كما فعلها في انتخابات 2017 ضد مرشحة حزب اليمين المتطرف مارين لوبان وسيناريو انتخابات عام 2002 مع والدها ضد مرشح اليمين المعتدل جاك شيراك.
في الأخير، فإن تركيز الحملات الانتخابية الرئاسية في فرنسا على الهجرة هو تكريس لعقدين من الهروب إلى الأمام والمراهقة السياسية لثقافة سياسية قديمة مهووسة بالهوية الوطنية التي عمّمها الرئيس السابق نيكولا ساركوزي وخدمها الإعلام المعادي للإسلام مفوضاً موكله مرشح إيريك زمور، الذي ترشح لينصر فرنسا من غزو الإسلام لضواحي المدن الكبرى كما يتوّهم، واسترجاع الهوية الفرنسية.
في عالم السياسة عجائب، لكن يا لها من غرابة أن تصبح فرنسا مهددة من طرف العرب والمسلمين ومنقذها إريك زمور من دين يهودي وعرق بربري.
إذاً، كما نقول بالعامية الجزائرية: وين، الهربة وين؟!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.