لم تكن بالنسبة لي أكثر من مجرد فنانة جميلة جداً، غنى لها عبد الحليم، وخرجت في نهاية حياتها لتقول مجموعة من التصريحات النارية التي صارت مادة للتندر ومضرباً للأمثال، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حتى عقب وفاتها بـ 8 سنوات، تظهر لي ولغيري، صورة لها مع موقف مكتوب، عبر الصفحة الرئيسية Home الخاصة بفيسبوك، فتتوالى التعليقات والمشاركات.
قررت أن أبحث، هل قالت تلك السيدة الجميلة كل هذا الكلام القاسي، أم أنها مجرد محاولة من صفحات التواصل لجمع علامات الإعجاب والمشاركات؟ هكذا بدأت رحلتي للتعرف عن قرب على تلك السيدة التي لم ألبث أن وقعت في غرام أفكارها وعقلها ومبادئها في الحياة، والتي لم تكن عادية على الإطلاق، كما أنها لم تكن متسقة مع جمالها الشديد، حيث من النادر أن تجد امرأة جميلة جداً وصلبة جداً لهذه الدرجة بحيث تنجو وحدها، وتبقى حتى آخر أيامها متسقة مع نفسها بمنتهى الصدق والاحترام.
"لا أقرأ اللغة العربية"
في واحدة من سفرياته إلى الخارج، تعرّف الأب المسلم -مهندس الري- على والدتها المجرية المسيحية، وتزوجها لينجب منها في محافظة الفيوم، كلاً من مريم ويوسف، اللذين تعلّما في القاهرة، حيث تلقت مريم تعليمها في المدرسة الألمانية بباب اللوق، تلك التي تعد واحدة من أكثر المدارس صرامة وعراقة، وقوة في النظام التعليمي المصري وحتى الآن، فيما بقي كل من الوالدين على دينه، الأب صلى الفروض حاضرة، والأم مسيحية متدينة جداً.
في بيتهم لم تكن اللغة العربية هي لغة التفاهم، فكل من الأم والأب والأبناء لم يكن بينهم جميعاً لغة مشتركة سوى الألمانية، لذا في المشاجرات كان الأب يعبر عن أقصى غضبه بشتائم مصرية، بينما هي تنطلق بسباب مجري، دون أن يفهم أي منهما شيء مما يقوله الآخر، وحدها مريم التي كانت تتحدث سبع لغات، تفهم الكلام السيئ المتبادل فتتصور أنه قد ينتهي بجريمة لفرط الانفعال، لكن الأمور كانت تنتهي سريعاً؛ لأن أحداً منهم لا يفهم الآخر.
كانت اللغة الأساسية في المنزل والمدرسة الألمانية، لم يعرف أكثر المنتجين والمخرجين أن مريم وإن كانت تجيد التحدث باللغة العربية، إلا أنها لم تكن تعرف كيفية قراءتها أو كتابتها بكفاءة، تقول في لقاء سابق لها مع الإعلامي الراحل وائل الإبراشي: "كنت أسجل السيناريو وأسمعه كي أحفظ، ولم أكن أقرأ العقود قبل التوقيع، لكنني عقب عشرات السنوات علمت نفسي قراءتها بعدما صارت العقود معقدة وتتضمن بنوداً مجحفة تستحق التفاوض بشأنها".
"ممنوع الرد على التليفون أو ارتداء المايو".. هكذا مات والدها بسببها!
صحيح أن الأم أجنبية، لكن الصرامة والمحافظة كانت سيدة الموقف، تقول مريم: "كان مسموحاً لي ارتداء المايو على الشاطئ حتى سن الـ 12 لكن بعد هذه السن لم يعد مسموحاً لي، أرتدي بذلة وأجلس لأشاهد البحر من بعيد، مع مجموعة ممنوعات أخرى مثل عدم النظر من الشرفة، وعدم الرد على التليفون".
وصل حد الصرامة أن كان المنزل خالياً من الأسرة ما عدا مريم التي وجدت رنات متتالية من الهاتف، فقررت أن ترد بما أنها وحدها فإذا به والدها يختبرها، وعلى إثر قيامها بالرد قام بإلغاء التليفون من المنزل كلياً، تقول مريم: "اتربيت في بيت صارم حتى صرت صارمة مع نفسي".
نوم في تمام الثامنة حيث يغلق باب الغرفة، والنور، حتى موعد الاستيقاظ في تمام الخامسة صباحاً، حيث تعد لطفليها عصير الجريب فروت قبل الذهاب إلى المدرسة.
بداية لم تكن تبشّر بأي مستقبل يذكر، خاصة في المجال الفني، لكن ولع مريم بجمالها، جعلها تطلب من والدتها بأن تحظى بصورة في عيد مولدها الـ 16، وقتها خيّرهم المصور بين صور خاصة بخمسة جنيهات، أو صور يتم إشراكها في مسابقة جمال وتلك مجانية مقابل نشرها في المجلة، اختارت والدتها أن توفر الجنيهات الخمس، وقام المصور بإشراك صورة مريم في المسابقة، ونسوا كل شيء بأمر المجلة.
فازت الشابة بـ 250 جنيهاً، وبدأ الصحفيون يتوافدون على المنزل، ومن بعدهم المنتجون، أنور وجدي، وحسين صدقي، لكن والدها طردهم جميعاً حتى جاء أحمد بدرخان، فلم يطرده والدها، لمعرفة سابقة بينهما، من هنا قرأ والدها كلا السيناريوهين، فأعجبه سيناريو "ليلة غرام"، وقال لها: "هاتكوني مثل أعلى لبنات جيلك"، والذي ظهرت في أول مشاهده عام 1951 وهي تصلي إرضاءً لوالدها الذي كان يضع بنوداً في العقد تمنع التقبيل والأحضان وكل الممنوعات.
لكن والدها الذي وافق على تمثيلها وزواجها لم يصدق عينيه حين رأى صورة ابنته العائدة لتوّها من شهر العسل، وقد غطت صورها الجدران والأفيشات، فاختل توازنه في الشارع فتعرض لحادث تصادم توفي على إثره لاحقاً.
"أنت هنا الخادمة"
"بعد 200 فيلم وعمل كبير وشهرة واسعة، كنت أصل إلى البيت بعد العمل، فتطلب مني أمي أن أغسل الأواني وأمسح الشرفة، أقول لها أمي لقد أحضرت خمسة من الخدم، لكنها كانت ترد وتقول لي أنت هنا الخادمة، جعلني هذا أتعلم الاعتماد على نفسي".
كانت مريم الوحيدة بين زميلاتها في المدرسة التي لم تكن تملك مصروفاً، هكذا ذهبت مريم في أحد الأيام إلى والدتها لتطلب إليها أن تصير مثلهن، لكنها نعتتها بـ "الشحاذة" وأخبرتها بأن من يتقاضى المال يجب أن يفعل شيئاً بالمقابل، هكذا منحتها مهمة المكوجي: "قومي بوظيفته فأعطيكي المال الذي يتقاضاه". فتحولت مريم إلى مكوجي المنزل، ومع الوقت صارت تعلم جيداً قيمة المال، عمّق من شعورها ذلك طريقة والدها في التعامل معها، حيث أخبرها بأنها لن تحصل على شيء من مالها الذي تتقاضاه عن التمثيل: "طول مانتي في بيت محمد فخر الدين مش هتاخدي غير المصروف مني، فلوسك في دفتر توفير باسمك، في بنك مصر، ماتاخديش ولا مليم إلا لما تتجوزي"، تقاضت عن فيلهما الأول ألف جنيه، وعن الثاني ألف وخمسمئة، وعن الثالث ألفين، وعن الرابع ألفين وخمسمئة جنيه، هذا كله في عام واحد فقط، كان والدها يوقع عنها على الأفلام، مع محمود ذو الفقار، الذي قرر أن يتزوجها، ليتخلص من تحكمات والدها في فنها، بينما هي قررت أن تتزوجه لتتخلص من شكل الحياة، ورثني من والدي، كان في عمر والدي، يتفق ويحصل على الأموال عني".
اعتياد على التنظيف والأعمال المنزلية تحول إلى ولع إلى درجة أنها صارت تفعل الأمر على سبيل الاستمتاع: "أروح عند شادية أو سعاد، ألاقي المطبخ فيه مواعين أقف أشطبه".
"متربية إني ماقولش لأ، طول عمري أقول حاضر وطيب وماشي، أي راجل يطلبني للجواز كنت بوافق، ماتعلمتش أقول لأ غير لما والدتي اتوفت".
في الواقع كان بإمكان تلك السيدة التي لا تتحرج من قول ما ترغب فيه، أن تقول "لا" لأمها، لكنها لم تقلها قط، وظلت تضع لأمها مكانة خاصة، دون إفراط أو تفريط حتى وفاتها وقد شارفت على المئة عام.
"مقعدش مع البت دي في الكوشة"
"حظ الملايح بالأرض طايح".. ربما ينطبق ذلك المثل إلى حد بعيد على مريم فخر الدين، تلك الفتاة الجميلة التي لم ترتدي فستاناً أو تحظى بحفل زفاف قط، حين تقدم ذو الفقار للزواج منها، لم يكن الأمر -بحسبها- عن حب، ولكن لأجل المصلحة، هكذا قرر أنه لن يقيم حفل زفاف ولن يشتري لها فستاناً أبيض: "قال مش هقعد مع البت دي في الكوشة"، هكذا تزوجا ولم تعترض الفتاة الجميلة التي ظل زوجها يتقاضى عنها أموال عملها، ويشتري لها ما يحتاجه عملها من فساتين وأدوات، مع كل عام يتم تغيير سيارتها، أما ما يدخل جيبها فعلياً، فلم يكن يزيد على ربع جنيه في اليوم فقط: "كان يقولي كلي سندوتش بوفتيك من عند مشمش وخمسة صاغ حاجة ساقعة و5 صاغ بقشيش".
لم تنس مريم قط طريقة زواجها: "مكانش لي رأي لكن هو وافق أتجوز واحد أكبر مني بـ 23 سنة، عمري ما لبست فستان فرح واتجوزت 4 مرات، حسيت إن بابا زحلقني وطردني من البيت، كأنه حاسس إني عورة، أو بلاء".
عقب فيلم "حكاية حب"، بدأت الزيارات تتزايد ومريم في البلاتوه فلا تكرم ضيوفها، ما جعل البعض يعتقد أنها بخيلة، لكن في زيارة لمصطفى أمين ويوسف السباعي لها أخبرتهما بأن كل ما تملكه ربع جنيه، فاقترحا عليها أن توقع عقود أفلامها بنفسها ولا تخبر ذو الفقار بالمبلغ الكلي، فتعطيه النصف وتأخذ النصف: "حاولت أروح البنك السواق فتن عليّ، حاولت أروح المقابر منعني بعدها من الخروج لأني ماستأذنتش".
انتهى زواج مريم من ذو الفقار خلال تقديمها فيلم "الأيدي الناعمة"، قبل هذا الفيلم كان محمود قد سافر، فراحت تعد ما قامت بإخفائه داخل جواربها الملقاة خلف المرآة: "لاقيتهم 40 ألف جنيه، ولأني مقدرش أخرج من البيت، قررت أنتقم منه جوه البيت، أنا مش متخلفة عقلياً، اتفقت آخد الشقة في الدور الرابع واشتريت العفش ونقلت أنا وبنتي".
"انضرب في الأستوديو آه في البيت لأ"
"كان إداني قلمين مرة أو مرتين".. تتحدث مريم فخر الدين عن المرات التي ضربها خلالها ذو الفقار بأريحية، ولا تجد غضاضة في الاعتراف بالعنف الذي كان آخره "شتايم عنيفة وشلاليت" على باب شقتها الجديدة الذي كان يعلوه "ترباس" ضخم لحميها وابنتها.
مع ذلك تؤكد باستمرار أن المعضلة لم تكن في الضرب ولكن في استحقاقه! تقول: "كان مخرج هايل، أتحمل إنه يضربني في الأستوديو لأنه كان أستاذي، لكن في البيت أنا المدام، أنا أحسن منه، وهو مش أحسن مني في شيء".
"أنا حلوة بس بلا قيمة"
هكذا تصف نفسها في لقائها مع الإعلامية هالة سرحان في الدقيقة 27 من لقائهما، تصف لها كيف حولت سيطرت والدتها على حياتها إلى جحيم دائم: "أنا كنت حلوة بس مليش كلمة في البيت، أول لما أتطلق تيجي تقعد عندي، وتبدأ قايمة الممنوعات، فبضطر أتجوز بسرعة في مدة أقصاها 3 شهور بعد الطلاق عشان أخلص من التحكمات". طلقني محمود ذو الفقار بدأت هي الأوامر: "روحي السوق امسحي المطبخ، اطبخي الأكل".
كانت مريم في حاجة لتربيت على كتفها يجعلها توافق على أول طارق، وكان الطارق في المرة التالية طبيب مصري، مساعد للطبيب الألماني الذي أجرى لها جراحة، بعد أن فقدت السمع، استعادت سمعها ولكنها لم تستعد قدرتها على الرفض، هكذا وافقت على الزواج منه، ولكن عقب حصوله على الدكتوراه: "إديتله فلوس يروح يكمل تعليمه، راح مارجعش، أنا بعد كده اشتغلت (الأيدي الناعمة)، وكنت ناقصة رومانسية، وناقصة حب واهتمام، كبرت في مخي أروح لندن، أعمله مفاجأة، مثلت على الكومسيون الطبي إني لسة طارشة ومسافرة لأغراض طبية، وسافرت على أمل أعيش حياة رومانسية هناك، لكن روحت لاقيتني بأطبخ الأكل وأشطب المواعين ورجعنا مصر، خلفت محمد ابني ولما بقى عنده سنة اتطلقت بسبب الخيانات العديدة".
"بقيت بني آدم عشان خدت بالجزمة.. مش عيب نضرب بناتنا"
في نصيحة منها موجهة إلى الفنانة نهى العمروسي وابنتها نازلي، الفتاة التي اشتهرت لاحقاً عقب شهادتها في قضية "الفيرمونت" ، كانت العمروسي تتحدث عن صعوبة التربية خاصة وأنها صارت الأب والأم معاً، وأن زوجها الراحل الفنان مصطفى كريم كان شخصية عطوفة جداً، بدا وكأن الأم (نهى العمروسي) تشعر بالمأساة اللاحقة التي أثرت على الحالة النفسية لابنتها، فقالت لكل من مريم فخر الدين وهالة سرحان في اللقاء القديم: "في الزمن اللي احنا فيه، بنتي لما تبقى شابة لازم تبقى جامدة وفاهمة الدنيا أكتر".
لكن مريم عاجلتها: "تفهم إيه؟ دي عيّلة، المهم تكوني إنتي فاهمة، هقولك على حاجة، أنا عندي بنت يتيمة، بنت محمود ذو الفقار، وولد أبوه موجود، الولد ليه حد يسنده، لكن اليتيمة دي لازم تاخد بالجزمة عشان تعرف إن مالهاش إلا أم واحدة تسمع كلامها، أنا بقيت بني آدم عشان كنت باخد بالجزمة، مش عيب تضربي بنتك أو تذنبيها، اسألي بنتي أنا هريتها"، أم بدت قاسية، لكنها تحافظ على ابنتها بشدة: "بنتي زوجها الأولاني جابهالي مطلقة وعلى إيدها طفلة سبع أيام، استنيت تلات شهور وجوزتها واحد تاني، مجراش حاجة، واحد ميحبكيش.. اللي بعده يحبك، بقالهم دلوقتي 20 سنة، الحياة فيها حاجات كتير جداً".
"ببتدي أي حاجة مرة بابتسامة واسعة"
حصلت على الطلاق من والد ابنها، وجدت نفسها فجأة تعول ابنها، عقب فترة توقف طويلة، ولم تجد عملاً عام 1967، فسافرت إلى لبنان بحثاً عن أي عمل، بمبلغ 13 جنيهاً مع طفلها ومربيته، اشترت علبة "سيريلاك"على النوتة، وأعطاها دجاج وكمثرى، وهكذا وجدت عملاً سريعاً.
"ولادي مش وظيفتهم يسألوا عليّ"
لم أتوقف أمام تصريح مثل ذلك الذي قالته مريم لوائل الإبراشي، حول علاقتها بأبنائها، بالرغم من صرامة العلاقة التي جمعتها بوالدتها، كسرت مريم فخر الدين دائرة الإساءة والاستحواذ: "ولادي يسافروا يتجوزوا يشتغلوا، مش مسؤوليتهم ياخدوا بالهم مني أو يخدموني ويسألوا عليّ"، قالتها باقتناع شديد، فهي ترى أن إنجاب طفل لا يعني استعباده، ولا فرض أمور عليه.
"سألوا عليّ أخدهم في حضني مسألوش مزعلش منهم"، بهذه البساطة صنعت علاقة جديدة كلياً مع كل من ابنها وابنتها.
اقتحم أباظة منزلها وعلمتها شادية الصلاة
بالرغم من حالة الجوع العاطفي الشديد، إلا أنها لم تكن صيداً سهلاً: "رشدي أباظة ضرب القفل بمسدس، ودخل البيت عندي كان فاكرني ست رخيصة، نزلت من سلم الخدامين وروحت لماما، رجعنا فتحنا الباب، لاقيت كباب وشرب، ماما قعدت أكلت وشربت وأنا اتكومت على الرصيف".
التزمت مريم فخر الدين بالصلاة في مرحلة متأخرة، وحتى نهاية حياتها: "مكنتش أعرف إلا الفاتحة وبس، شادية علمتني السور القصيرة، وبدأت من بعدها ألتزم في الصلاة".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.