خرجنا من امتحانات الإعدادية وكانت حالة من السباب غير المبرر تعم المكان، ولم يستهدف هذا السباب مَن وضع أسئلة امتحان الرياضيات بقدر ما استهدف "المشرفين" على الامتحانات!
كان الجميع غاضباً من كون المشرفين أدّوا الأمانة التي وُكِلت إليهم ولم يعملوا على مساعدة الطلاب عن طريق جعلهم "يغشون".
كان أولياء الأمور في الساحة يرددون: (ما حلّو شي؛ الإشراف واعر)، بمعنى أن الطلبة لم يتمكنوا من حل الأسئلة، لأن الأساتذة الذين أشرفوا على مراقبتهم لم يسمحوا لهم بأن يغشوا!
توالت اللعنات على هؤلاء المشرفين دون غيرهم، وعلى الرغم من عدم منطقية الأمر وغياب طرح تساؤلات مثل:
– لماذا لم يستعد الطلبة للامتحان؟
– كيف لهم أن يعتمدوا على إمكانية الغش؟
– ما علاقة المشرفين بغباء هؤلاء الطلبة؟
فإن أحداً لم يتجرأ على طرح هذه التساؤلات!
قِس هذا المثال على ما يحصل داخل كل مصلحة حكومية في ليبيا.
في الحقيقة أطياف كثيرة من الناس ترغب في تسهيل أمورها، وتبحث عن هذا المرتشي الذي يمكن أن يسهّل إجراءاتهم من خلال قبوله ببعض المال. أطياف كثيرة خبرت تجاوز أزماتها من خلال سلوك "طرق مختصرة".
الأمر ثقافةٌ اعتادها ليبيون كثر، وأصبح الخروج عن نهج الفساد فعلاً شاذاً غير مقبول وغير منطقي.
أكتب لكم هذا المقال وأنا في طابور أحد المصارف بليبيا وأحاول إخراج مبلغ من المال من حسابي الشخصي، إلا أن عملية إخراجه كاملاً تتطلب مني أن أدفع مبلغاً مالياً مقابل ذلك، بحجة أن المصرف "لا يملك سيولة كافية"!
ولكن يبدو أن العاملين في المصرف قادرون على تمرير أزمتي إذا ما قبلت بمنحهم مبلغاً مالياً مقابل إخراج جزء من نقودي.
هذا الأمر لا يحدث بشكل سري حتى، وجميع من يملكون حسابات مصرفية في ليبيا يعلمون هذا جيداً، ولا يبدو أن تهديدي لهم يمكن أن يلقى أي تأثير يُذكر.
ما هو غير طبيعي أن أطالب بأن أحصل على نقودي كاملةً دون أن أدفع رشوة مقابل ذلك.. وقد أكد لي ذلك جمعٌ غفيرٌ من المتوافدين على المصرف الذين ما إن بدأت بالهجوم على الموظف المصرفي الذي أخبرني بأنه سيخرج لي أموالي مقابل نسبة، بدأوا بدورهم بسبِّي وقالوا لي: (أنتي تنحي).
(أنتي تنحي) هي جملة ليبية محلية تعني أنني أهذي بكلام غير منطقي!
الموظف يخبرني بأنني إن أردت إخراج مبلغ (15 ألف دينار ليبي) من حسابي فإنه يجب أن أمنحه نسبةً تقدر بـ1500 دينار، وهي نسبةٌ رأى جمع المتوافدين أنها عادلة ومنطقية وأنني يجب أن أقبل بها، لأن موظفين آخرين يعملون على أخذ نسبٍ أكبر من هذه.
في الحقيقة بعض الليبيين لا يريدون للفساد أن ينتهي أو أن يُقتلع من جذوره نهائياً، لكن يبحثون عن "الأقل فساداً"، ذلك الشخص الذي يستطيع أن يقبل الرشوة مقابل تسهيل الأمور، على ألا تكون رشوة كبيرة!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.