عُرِضَت أزماتٌ شبيهة بأزمة أوكرانيا عدة مرات في قاعات هوليوود، لكن تبقى سلسلة أفلام Star Wars الأنجح على الإطلاق.
دارث فيدر في هذه السلسلة رجل خطير، يجعل ضيوفه ينتظرون، أحياناً لمدة أربع ساعات أو أكثر، ويرتدي حذاء يعزز طول قامته الطبيعي. ومثل كثيرين آخرين يبلغون من العمر 69 عاماً، يعاني الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من مشاكل في الظهر، ومع ذلك فهو يحب الظهور بمظهر الرجل المرن القوي بأشكال مختلفة فهو تارة غطَّاس وأخرى طيَّار وأحياناً فارس.
لكن في النسخة المحجوبة لبوتين، نراه قصير النظر، فيخلط بين صحفي سابق في صحيفة The Times البريطانية ورئيس جهاز الاستخبارات البريطاني، الذي كان حول نفس طاولة العشاء في نادي Valdai Discussion (مثلما كنت أنا كذلك). وعلى نفس الطاولة قال إن أوكرانيا غير موجودة، وشبّه الساعين إلى استقلالها بالفاشيين من الحقبة النازية.
الرواية القائلة بأن الصراع في أوكرانيا يمكن اختزاله في الصراع الدائم بين الاستبداد الشرقي والديمقراطية الغربية، ليست سوى فصل في كتاب "الأساطير". العلاقة بين الروس والأوكرانيين متشابكة ومعقدة، ولها تاريخ طويل مثل العلاقة بين الإنجليز والاسكتلنديين.
الاتحاديون والقوميون
جزء كبير من المؤسسة البريطانية هو اتحادي، وهذا هو السبب في أنه من المفارقات أن وزير الدفاع بن والاس، وهو نقيب سابق في الحرس الاسكتلندي، قدم مؤخراً لنظيره الروسي، سيرغي شويغو، سيفاً من عهد جورج السادس، "عندما قاتل الاتحاد السوفييتي وبريطانيا جنباً إلى جنب ضد النازيين".
والاس هو اتحادي من حزب المحافظين لا يتعاطى بلطف مع خطاب القومية الاسكتلندية، على الرغم من أن عقوداً من حكم حزب المحافظين، وفي مقدِّمتها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، شكلت بطبيعة الحال أغلبية من أجل الاستقلال في اسكتلندا. في أوكرانيا يقف والاس إلى جانب القوميين وليس إلى جانب الاتحاديين.
هل من غير المعتاد أن تسرع المملكة المتحدة للدفاع عن البريطانيين العرقيين في الأراضي الأجنبية؟ كيف بدا الأمر برمته فيما يتعلَّق بأيرلندا الشمالية؟ حتى يومنا هذا تتمسك الحكومة البريطانية بالصيغة التي تنص على أن أيرلندا الشمالية تنتمي إلى التاج البريطاني، ما دامت الأغلبية في المقاطعات الست تريد الاحتفاظ بها على هذا النحو.
ومع ذلك، في أوكرانيا، تعتبر بريطانيا الأوكرانيين الذين لا يعترفون بحكومة ما بعد الثورة الأوكرانية في 2014 في كييف "انفصاليين".
هذا ليس على بعد مليون ميل من اتفاقية "مينسك" الموقعة في عام 2015، والتي دعت إلى انسحاب القوات الأجنبية والمرتزقة من شرق أوكرانيا، وكذلك الإصلاحات الدستورية في أوكرانيا التي من شأنها التمهيد لنظام فيدرالي لامركزي.
اتفاقية "مينسك" وقعها بوتين عن روسيا، وفرانسوا هولاند عن فرنسا، وأنجيلا ميركل عن ألمانيا، وبترو بوروشينكو عن أوكرانيا، لكنها لم تُفعَّل مُطلَقاً. ونقلت صحيفة The Guardian البريطانية عن فولوديمير أرييف، النائب عن حزب بوروشنكو قوله: "من وجهة نظري وُلِدَت اتفاقيات مينسك ميتة. كانت الظروف دائماً مستحيلة لتنفيذها. لقد فهمنا ذلك بوضوح في ذلك الوقت، لكننا وقعنا عليها لكسب الوقت لأوكرانيا، أي من أجل إتاحة الوقت لاستعادة حكومتنا وجيشنا ونظام المخابرات والأمن لدينا".
"حكاية مجنونة"
إذاً من الذي انشقَّ عن اتفاقية مينسك؟ وماذا حدث في حرب الفوكلاند أو جبل طارق؟ في كلِّ منهما، أكَّدت بريطانيا أن من واجبها حماية البريطانيين العرقيين الذين تعرضت هويتهم للتهديد من قبل الدول التي وضعوا مواقعهم على أراضيها.
فكيف إذن يتبخر هذا الحق، الذي مارسته بريطانيا في حالة جبل طارق لمئات السنين، عندما اتخذت روسيا إجراءات مِمَّاثلة لحماية حقوق الملايين من الروس الذين يعيشون خارج حدودها؟ كان عدد سكان جزر فوكلاند وقت الحرب في عام 1982 يبلغ 1820 نسمة و400 ألف رأس من الأغنام.
هناك مؤشراتٌ أخرى على أن كلَّ شيء ليس تماماً كما يبدو في أوكرانيا. إن وجهة نظر بوتين القائلة بأن الروس والأوكرانيين شعب واحد، وأن أوكرانيا ليست دولةً منفصلة، تُعزى إلى أصوله في المخابرات السوفييتية. ففي المقام الأول، وصف بوتين انهيار الاتحاد السوفييتي بأنه أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين.
ومع ذلك، فإن بوتين ليس وحده في التعبير عن هذه الآراء التي يشاركها الروس الذين قمعهم السوفييت، وعلى الأخص في الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، التي تعتبر كييف تاريخياً الكنيسة الأم بالنسبة لها.
وهنا تكمن حقيقة أخرى وُضِعَت جانباً. عندما عاد ألكسندر سولجينتسين، أعظم مؤرخ حي لنظام الغولاغ السوفييتي، إلى موطنه الأصلي، اتَّضَح أنه قوميٌّ روسي لديه وجهات نظر متطابقة حول عدم وجود أوكرانيا مستقلة من الأساس. أطلق خطبة شرسة ضد الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش لوقوعه فيما وصفه بـ"حكاية مجنونة" حول تاريخ أوكرانيا.
كان أحد منابع القومية الأوكرانية يمتد إلى "هولودومور"، وهي مجاعة 1932-1933 مات فيها الملايين جوعاً تحت حكم ستالين. قال سولجينتسين، كبير مؤرِّخي القمع السوفييتي، إن المجاعة "حصدت" الملايين من الأرواح في جميع أنحاء الاتحاد السوفييتي، وإن العديد من الشيوعيين الذين دبروها كانوا في الواقع من الأوكرانيين.
يتساءل سولجينتسين قائلاً: "هذه الصرخة الاستفزازية حول الإبادة الجماعية… رُفِعَت إلى أعلى مستوى حكومي في أوكرانيا المعاصرة. هل هذا يعني أنهم قد تفوَّقوا حتى على دعاة الدعاية البلشفية بألاعيبهم المخادعة؟".
في الواقع أصبح هو وبوتين صديقين. سمح بوتين لأكبر منشقٍّ عن النظام السوفييتي بالاستقرار في منزلٍ ريفي خارج موسكو، ومنحه جائزة تقديراً لإنجازاته الأدبية. اتضح أن القومية الروسية أقوى من الانتقام السوفييتي.
خليطٌ دقيق
يعود نزاع بوتين مع الغرب حول أوكرانيا إلى ما لا يقل عن ثلاثة عقود، إلى تسعينيات القرن الماضي، عندما كنت مراسلاً في موسكو وسافرت إلى جميع أنحاء أوكرانيا. في ذلك الوقت أدارت روسيا في عهد بوريس يلتسين ظهرها لأوكرانيا، كما فعلت بالفعل في معظم ساحاتها الخلفية. كانت مهتمةً أكثر بعلاقاتها مع الولايات المتحدة وألمانيا.
من جانبها، كانت أوكرانيا التي عرفتها خليطاً دقيقاً. كان الشرق ناطقاً بالروسية وكان موالياً لروسيا إلى حد كبير، ولكن ليس بالكامل بأيِّ حال من الأحوال. كان الشعور المؤيد لروسيا في منطقة "دونباس" مختلفاً في حدته عن الرأي العام في خاركيف في الشمال الشرقي.
كثيراً ما أعرب المؤيِّدون لروسيا عن ذهولهم بشأن وجود حدود بين موسكو وكييف. في كييف نفسها لم يكن من غير المألوف أن تتخطَّى العائلات الفجوة اللغوية بين الروسية والأوكرانية. استمرَّ هذا السلام في حين اندلعت حروب الغابات في جميع أنحاء الاتحاد السوفييتي السابق، في جورجيا وترانسنيستريا وأبخازيا وناغورني قره باغ، وكانت أبرز هذه الحروب في الشيشان.
كانت مدينة لفيف في غرب أوكرانيا -حيث تسود الكنيسة الكاثوليكية اليونانية الأوكرانية وليس الأرثوذكسية- مختلفة. وُلد جدي، وهو يهودي بولندي، هناك. لم تكن تسمى لفيف في ذلك الوقت، بل لمبرغ، وكانت جزءاً من غاليسيا، المقاطعة الواقعة في أقصى شرق الإمبراطورية النمساوية المجرية.
كان للمدينة تاريخٌ دموي شرس، حتى بمعايير أوروبا الشرقية. تنازع عليها الأوكرانيون والبولنديون والليتوانيون البولنديون والبلاشفة والألمان. قبل الحرب، كان لديها ثالث أكبر عدد من السكان اليهود في بولندا.
عندما غزا النازيون الاتحاد السوفييتي في عام 1941، استقبلهم الأوكرانيون في لفيف كمحررين بعد عامين من الحكم السوفييتي الوحشي. بينما تراجع جيش ستالين الأحمر، أعدمت المفوضية الشعبية للشؤون الداخلية (NKVD) آلاف السجناء، وتكررت المذبحة في مينسك.
المغالطات والتحريف
في اليوم الأول للاحتلال النازي لمدينة لفيف، أعلن أحد أجنحة منظمة القوميين الأوكرانيين استعادة دولة أوكرانية مستقلة.
قُتل حوالي 6 آلاف يهودي في مذابح من يونيو/حزيران إلى يوليو/تموز من عام 1941. أُنشِئ غيتو "لووف"، لإيواء 120 ألف يهودي، وصُدِّرَ العديد منهم إلى معسكر اعتقال بيلزك. وبين ذلك ومعسكر جانوسكا، قُضِيَ على السكَّان اليهود في المدينة.
أخبرني ضابط اتصال عسكري بريطاني سابق أنه عندما حُرِّرَت معسكرات الموت في تلك المنطقة اندهشوا عندما اكتشفوا أن الحراس الشخصيين كانوا أوكرانيين.
كان الدور الذي لعبه البولنديون في هذه الفظائع محلَّ نقاشٍ ساخن، وحدثت الكثير من المراجعات في هذا الشأن. نُسِبَت بعض عمليات القتل إلى عصاباتٍ من القوميين الأوكرانيين، لكن البولنديين أخفوا اليهود أيضاً عن صيَّاديهم.
وبصرف النظر عن الحقيقة، فإن رفع قائدي تلك الحقبة -ستيبان بانديرا من منظمة القوميين الأوكرانيين ورومان شوخفيتش من جيش التمرد الأوكراني- إلى مرتبة الأبطال الوطنيين، كما فعلت الحركة القومية الأوكرانية، يجب أن يعتبر أحد أهم الأعمال الحديثة لإنكار الهولوكوست وقتل عشرات الآلاف من البولنديين واليهود على أيدي هذه الجماعات.
هذا قرارٌ واعٍ لإعادة كتابة تاريخ أوكرانيا الحديثة كنضالٍ مستمر ضد الهيمنة الروسية.
أدَّت العديد من الأعمال الأخرى إلى تعميق الصراع بين الأوكرانيين، بما في ذلك قرار عام 2018 بفصل كنائس كييف وموسكو، ما يمثِّل أكبر انقسام في المسيحية الأرثوذكسية منذ ألف عام. بُرِّرَت هذه الخطوة بضم روسيا لشبه جزيرة القرم قبل عدة سنوات، والاتهامات بأن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية سمحت لنفسها باستخدامها كأداةٍ للتوسُّع الروسي.
لحظة كبيرة أخرى تمثّلَت في قانون 2015، الذي جعل من الإلزامي لموظفي القطاع العام التحدث باللغة الأوكرانية، رغم أن اللغة الروسية هي اللغة السائدة في معظم أنحاء الشرق.
السبب والنتيجة
مهما حدث الآن، فقد خسرت روسيا بوتين أوكرانيا. من المُحتَمَل أن يكون التهديد بالغزو وحده قد دفع معظم الأوكرانيين إلى دعم طلب البلاد الانضمام إلى الناتو.
إذا كان كل ما يريده بوتين حالياً، كما أظن، هو إجبار الولايات المتحدة وأوروبا على التفاوض بشأن اتفاقيةٍ أمنية جديدة -يحب بوتين الحروب النظيفة والسريعة بقدر ما تحبها الولايات المتحدة، ولن يكون الغزو الروسي كذلك- إذاً فهو يُجري مفاوضاتٍ عبر فوهة البندقية.
بعد عقودٍ من التجاهل من قبل رؤساء الولايات المتحدة المتعاقبين، هناك شيءٌ في العلاقات الدولية يبدو مثل السبب والنتيجة. إحدى السمات المثيرة للفضول في الحشد العسكري على جانبي الحدود، هي أن كل جانب يبذل قصارى جهده ليُظهر للآخر ما لديه.
يسلط الأمريكيون الضوء على عمليات نقل الأسلحة إلى الحكومة في كييف عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وينشرون صور طائرات مُحمَّلة بالأسلحة والمعدَّات. وأرسلت الولايات المتحدة صواريخ ستينغر، مُهدِّدةً بجعل الوجود العسكري الروسي في أوكرانيا أفغانستان أخرى.
لا يبدو هذا سلوكاً نموذجياً قبل الحرب. بوتين ليس مجازفاً، وهو يبذل جهوداً غير عادية لتهيئة البيئة التي يعمل فيها، ومهاجمة المناطق المأهولة بالدبابات محفوفة بالمخاطر، ولا أعتقد أن بوتين سيتخذ هذا الخيار.
لكن إذا كنت مخطئاً، والدبابات توّغلت بالفعل في أوكرانيا، فاسأل نفسك ما إذا كان هذا الوضع حتمياً، وما إذا كان بالفعل إما أبيض وإما أسود. هل كان التوسع الشرقي للناتو حكيماً، إذا كان كل ما فعله هو تحريك خط المواجهة شرقاً؟ هل رسَّخَت الديمقراطية نفسها أم أشعلت حرباً أهلية؟
هل كان ينبغي للغرب أن يتجاهل التحذيرات المتكررة من بوتين بشأن المخاوف الروسية المشروعة، والتي عبَّر عنها منذ مؤتمر ميونيخ عام 2007 وما بعده؟ هل كان يجب على بوش أن يمزِّق معاهدةً مع روسيا من أجل تعزيز الدفاع الصاروخي في بولندا؟ هل كان من الممكن أن تفلت أوكرانيا من الخراب بفضل القوى المتنافسة من القومية الروسية والأوكرانية؟ لم تكن الحرب والانفصالية حتمية على الإطلاق.
كان اقتصاد أوكرانيا وبولندا من قبل على قدم المساواة تقريباً. أما الآن، فالناتج المحلي الإجمالي لبولندا أكبر بكثير من الناتج المحلي الإجمالي لأوكرانيا. هل أدَّى دخول أوكرانيا إلى المعسكر الغربي إلى إثراء حياة الأوكرانيين؟
أحد طرق الخروج من هذه الأزمة، والشي المعقول الوحيد الذي قاله أيُّ شخصٍ على الإطلاق، هو اقتراح سفير أوكرانيا في بريطانيا بأن بلاده يمكن أن تتخلى عن محاولتها للانضمام إلى الناتو. لكن كان عليه أن يتراجع بسرعة عن هذه الفكرة، فمن الأفضل له عدم الخروج عن النص.
– هذا الموضوع مترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.