في روايته الرائعة المعنونة بـ"1984″، ذكر المؤلف "جورج أورويل" جملة بليغة على لسان إحدى الشخصيات في الرواية، وهي بذلك تصف حالة الثورة: "لا أحد يقيم الديكتاتورية لإنقاذ الثورة، وإنما تقام الثورة لإقامة الاستبداد والديكتاتورية"!
الحقيقة أن العقل يعجز عن تصديق الجملة في الوهلة الأولى، إلا أنني بعد ترديدها، ومحاولة رؤيتها من زاوية واقعنا المعاش، اتَّضحت لي صواباً، لا يخلو من حقيقة اجتماعية مرة، إذ يقول واقعنا إن كل ثوراتنا العربية تقريباً قامت تحت شعارات مثالية لا تملك خطة أو حتى وعياً كافياً لتحقيق مُثُلها من المبادئ البراقة بشكل عملي، ونضرب لذلك مثالاً من تلك الشعارات ما يأتي:
- جلب الحرية في التعبير عن الرأي والفعل والحركة، والعدل في الحكم، والإخاء الإنساني بين الأعراق والطوائف، والديمقراطية في السلطة والإدارة والخدمات الاجتماعية بمختلف أنواعها.
- تحسين الظروف الاقتصادية التي جعلت من شعوبنا طبقات في ظلمات بحر الدولة وإدارتها البيروقراطية العميقة، التي بددت الجهود وجعلت الناس بعضهم فوق بعض، في دولة تكون المزايا والحظوظ فيها بالقرابة الشخصية والأنساب، ولا عزاء لمن وُلد والملعقة بيد غيره!
إن المُشاهد من برجه العاجي لن يرى الحقيقة الجاثمة أمامنا -بعد الكثير من الثورات- التي تقول: إن الثورات لا تطول مبادؤها، ولا تلبث شعاراتها سوى أيام حتى تذوب جبالها الجلدية بين الكثير من المختلطات الاجتماعية، التي لا تخلو من حرارة، وبين إرادة الثوار في جعل الثورة كنصّ مقدس يحفظهم في كراسي الحكم.
وتنعكس الأمور تماماً، وتصبح الثورة وسيلةً لتلميع أحذية الزيف، الذي يُراد له أن يلد من الفراغ طفلاً مشوهاً خالياً من الشّبه، دون أمه الحقيقية، ودون أرجل يمشي بها لينمو.
ولن يرى أيضاً أن حقيقة مبادئ الثورة في مجتمع غير مؤهل لخوض غمار التجربة، ولا يجرؤ على رفع صوته في وجه الديكتاتورية ليست في واقعنا سوى وهم من أخبار الآحاد.
وبعد فقدان المثل لمعناها في زخم الثورات والثورات المضادة، تصبح عيون الشعب التي امتلأت بدموع الفرح استقبالاً لبشائر الحرية جافة ويابسة من قنوطها السريع من تحقيق المثاليات، ولم تعد أيضاً تستطيع التمييز بين وجوه العدل الباسمة وبين أقنعة الظلم المكشرة لأنيابها؛ فكلاهما ما لبث أن تناول من مخدرات السلطة، وأخذ من أموال الفساد جرعاتٍ كافية لشراء آلة إعلامية، لا شغل لها سوى تطهير المذنبين مما ارتكبوا من جرائم، وتبديل كل تلك المبادئ بشعارات لاصطياد أضعف الطبقات من الشعب، وضمها إلى حظيرة الأتباع!
وسرعان ما يرى الناظر من نافذة الحياد مَن كانوا يتغنون "باسمك الشعب نثور" يبدلونها بقولهم "باسمك الشعب نكافح حرية الشعب بفرض الأحكام العرفية على شعب خرج باحثاً عن الخبز"!
ومن هنا لا يبكِيَنّ الباكي على الحرية؛ لأنها طليقة كل سجين، ولكن فليبكِ على وطن ستكون مبادئه مرسومة بخطوط القائد الوحيد، وتكون أفكاره من صنع صاحب الأمجاد الأوحد.
في مثل هذه الفترة من فترات الثورة يكون ديدن الأمر وسيمفونية المطربين لصاحب الثورة: خلط الأوراق، واللعب بالألوان، فتُعمى الأبصار قبل البصائر، وتصبح أضواء الإعلام مركزة على حركات أصابع الثائر الوحيد، وسرعة بديهته في ابتكار الحلول الوقائية للتربص بالخصم، وبكل الطرق الممكنة، مثل وهم الخيانة العظمى، والمساس بشرف الوطن وضياع هيبة القائد!
فما الإرهاب الذي يتغنى به أهل النضال وأصحاب الفخامة سوى جزء من شمّاعتهم لصنع العدو، وجعل الظلمات كل ما ليس تحت شمعاتهم المضيئة، بحب وطن جعلوا مقياس حبه أحادي المعيار.
وليست معزوفة حماية الشعب من الشعب سوى جزء من موسيقى الذين جردوا شعوبهم من كل أنواع الكرامة، وسلبوهم كل وسائل الدفاع عن أنفسهم.
وربما أصبح الدعاة إلى إعادة المبادئ خوارج مطلوبين للسجون، ولا يجدون أين يعيشون سوى في بيوت أو مغارات مهجورة، لا تلبي الكرامة الآدمية، ويدعون الله ليل نهار كي يبشرهم بخلاص الموت، تضحيةً لوطن سلبه القائد الثائر من شركائه واستفرد به دون غيره!
نعم يا جورج أورويل "لا أحد يقيم الثورة إلا ليكون هو الطاغي الجديد، ولا طاغي يطغى كي يحمي الثورة؛ إنما طغى من طغى ليحمي نفسه!"
يا جورج أورويل أنت صادق، فلا أحد يقيم الديكتاتورية لإنقاذ الثورة، بل يقيمها لينقذ نفسه، ولكن يا "جورج أورويل" هنا المريض المنوم ليس سوى الشعب، هنا المريض الذي دون تشخيص لمرضه الحقيقي ليس سوى الطبقات الكادحة، التي يتم التلاعب بوعيها، لتُصنع منها الأتباع لا ليُصنع أحرار في وطن ترفرف فيه أعلام الثورة بعد موت الثوار.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.