"سحر"..
هذا هو ما تعنيه الكلمة الإسبانية Encanto، حينما نُترجمها إلى العربية..
سحْر، وهو المعنى الذي يتماشى مع وقع الكلمة الغامض على الآذان، وعلى لفظ الكلمة اللطيف حينما ننطقه على اللسان..
ما فعلته ديزني في هذا الفيلم العائلي المُبهج المليء بالألوان والموسيقى، كان سحراً بالفعل، فالفيلم بالنسبة لي، لم يقتصر على كونه متعة سمعية وبصرية فحسب، بل شعرت بأنه أضاف إلى ذهني متعة فكرية خلّابة، وهي خلاصة المعاني والأفكار التي صارت تتحرك في رأسي، تاركة إياي في حالة من الدهشة والإعجاب في آنٍ واحد.
فكرة بسيطة، ورائعة.. بيت سحري في قرية صغيرة بكولومبيا..
وعائلة مُتماسكة تحتوي على ثلاثة أجيال مُتعاقبة، يجمعها الحب، وقُدرات خارقة مختلفة.
بالطبع ليست هذه بفكرة جديدٍة لفيلم رسوم متحركة، تُنتجه ديزني على أية حال، وإنما الجديد أنه بالرغم من كل هذا السحر الطاغي، والخيال الواسع، يعيش الألم مُتخفّياً داخل عائلة "مادريغال"، وتضرب جذوره في أعماق روحهم، جاعلاً لكل منهم جانب مُضيء، وآخر مظلم.
فما هي قصة عائلة مادريغال يا تُرى؟
إن لم تكن قد شاهدت فيلم Encanto، فأنصحك بمشاهدته بشدة، خاصة قبل قراءة المقال الذي يحتوي على شرحٍ مستفيضٍ للأحداث.
Encanto.. سحر القصة والجانب السريّ للشخصيات
تحكي القصة ببساطة عن عائلة تعيش في بيتٍ كبيرٍ بكولومبيا، لكل واحدٍ من هذه العائلة قدرة سحرية ما، بداية من الجدة والأولاد وحتى الأحفاد، فيما عدا ميرابيل، وهي الفتاة الوحيدة ضمن عائلة مادريغال، التي اكتشفت أنها فتاة عادية، وليست لها أي موهبة سحرية كبقية عائلتها.
في الوقت الذي تُحاول فيه ميرابيل، التأقلم مع هذا الأمر المؤلم، خاصة مع عجزها عن تفسيره، تكتشف أن هناك مشكلة أعظم، وهي أن السحر بعائلة مادريغال يكاد يُوشك على النفاذ، وأن البيت الذي يجمعهم، صارت تملأه الشقوق، ما يُنذر بأنه لن يقوى على الصمود، وسينهدّ قريباً جداً.
لا يظهر لنا سحر قصة فيلم Encanto، حينما نتعرف على عائلة مادريغال فرداً فرداً، ونرى قدراتهم السحرية المُدهشة، بل يظهر حينما نتعرف على الجانب الآخر لشخصياتهم، وهو الجانب السريّ، الذي تظهر فيه معاناتهم النفسية، وآلامهم التي لا يشعر بها أحد، والتي صنعت لكل منهم عقدة ما، تخصه وحده، يدور حولها في استسلامٍ حزين.
سنندهش حينما نسمع للمرة الأولى، ما يشعر به كل فردٍ منهم، حينما يكونون وحدهم تماماً، وهذا الحديث المؤثر والصادق الذي يبدو وكأنه يخرج من قلب أُناساً حقيقيين، هو سحر فيلم Encanto الحقيقي..
وسأبدأ من بطلة الفيلم.. ميرابيل..
ميرابيل.. وعقدة الاختلاف..
تظهر لنا ميرابيل في بداية الفيلم، على أنها الفتاة المرحة واللطيفة، والتي تتقبل ببساطة فكرة أنها البنت الوحيدة ضمن عائلة مادريغال التي ليست لديها أي قدرة سحرية، وتُردد عن نفسها أمام الجميع، بأنه سواءً كانت لها قدرة سحرية ما، أو لم تكن، لا يهم، فهي فتاة مميزة في جميع الأحوال.
كلامٌ جميل.. ولكنه للأسف لم يكن سوى الجانب المُضيء من شخصية ميرابيل، أمّا الجانب المظلم، فهو معاناتها مع فكرة الاختلاف، وشعورها بعدم الانتماء لعائلتها، وهي العائلة التي تُحبها كثيراً. مما جعلها تعيش في حالة من الهروب والإنكار.
عانت ميرابيل كما يُعاني كل طفلٍ مختلفٍ عمن حوله، بسبب سؤال لا إجابة له، وهو "لماذا أنا؟".
كانت ميرابيل تخبر الجميع دائماً بأنها بخير، وكانت تقول لنفسها دائماً إنها بخير، حتى أتى اليوم الذي اعترفت أخيراً فيه..
"أنا لست بخير".
المشكلة أنّ هذه لم تكن عقدة إيزابيل الوحيدة، فإيزابيل لديها عقدة أخرى، وهي حاجتها لأن تكون مصدر فخر لعائلتها، وهي مستعدة لأن تحارب، من أجل أن تنال هذا الشعور، والذي نالته أخيراً وعن استحقاق في نهاية الفيلم، ولكن هذا لم يمنعها من أن تتوصل لمعنى مهم، وهو أنّ كل واحد منّا في حد ذاته، هو معجزة حقيقية، لكونه نفسه، وليس لأي سببٍ آخر.
إيزابيلا وعقدة المثالية
حينما ظهرت إيزابيلا على الشاشة، بدت مُجسماً للرقة والجمال والمثالية، كانت تشعّ نوراً وجاذبية لا يُمكن تجاهلها. حيثما تسير تتناثر أجمل الورود يميناً وشمالاً، وأينما تكون، يبدو المكان من حولها أشبه بجنة صغيرة مزروعة بزهور ملونة رائعة الجمال.
كان جانبها المُضيء يجعلها تبدو كأميرة حقيقة من أميرات ديزني القُدامى..
حتى أخبرت ميرابيل ذات يوم..
"تعبت من المثالية، أريد حياة حقيقية"
كانت الهالة الجميلة التي تظهر بها إيزابيلا دوماً، تُجبرها على أن تكون بهذا الشكل المثالي دائماً، وهو لأمر مُرهق فعلاً إن فكرت فيه، خاصة في عالم غير مثالي.
هذا الجمال الكامل بلا أية شوائب، يبدو كسجنٍ ممل، على إيزابيلا أن تقضي فيه بقية عمرها.
سئمت إيزابيلا من الورود الملونة العطرة، التي تحيطها دوماً، وحينما صنعت نبتة لصبارٍ شائك وهي في حالة غضب، انتابتها الدهشة، وشعرت بأنّه جميل فعلاً، لأنه حقيقي، مثله مثل الورود الزاهية تماماً، التي تختفي بداخلها الأشواك.
أدركت إيزابيلا أنّ الحياة الحقيقية لها وجهان، ولا يُمكننا أن نختار أن ننظر إلى جانبها الجميل فقط، وأنه لابد لنا إن أردنا أن نتحرر من وهم المثالية، أن نعيشها كما هي، بورودها وأشواكها على حد السواء.
تعلّمت إيزابيلا الدرس، ولكن متأخراً بعض الشيء.
لويزا وعقدة القوة
رغم كونها فتاة، إلا أنّ قدرة لويزا السحرية، كانت في قوة جسدها الهائلة، والتي تجعلها قادرة على بناء البيوت وإصلاح الجسور، وحمل الصخور الهائلة الحجم ونقل عشرات من الحيوانات في المرة الواحدة وغيرها، وهو الأمر الذي كانت تفعله بحبٍ وحماسٍ شديدين.
ولكن ما كان يكمن تحت هذه القوة العظيمة، هو ضعف وهشاشة وشعور مُبالغ فيه بالمسؤولية، لدرجة أنّ لويزا لا ترى لنفسها أية قيمة، من دون ما تفعله لعائلتها.
من كان يتخيل أنّ لويزا الضخمة العضلات، الصلبة المظهر، التي لا يُمكن لأي شيءٍ أن يقهرها، أن تحلم ببعض من الراحة والاسترخاء، وأن تتمنى لو تتخلص قليلاً من عبء التوقعات ممن حولها، لأنه يجعلها واقعة تحت ضغط نفسي شديد، لا يعطي لها أية فرصة للراحة أو فرصة ضئيلة حتى للخطأ.
"أحياناً أُريد أن أبكي"
مثلما لم تكن لإيزابيلا أية فرصة لأن تكون سوى فتاة جميلة، يحيط بيها الجمال من كل ناحية، لم تكن للويزا أيضاً أية فرصة لأن تكون ضعيفة، أو متعبة، أو بحاجة للترفيه مثلاً. وكما هو صعب أن تكون مثالياً في كل الأوقات، صعب جداً أن تكون قوياً في كل الأوقات أيضاً.
كانت هذه عقدة لويزا، والتي بدت أصعب من عقدة إيزابيلا، التي كانت سعيدة بتحررها من وهم المثالية، وذلك لأنّ لويزا نفسها، ترفض أن تبدو ضعيفة، رغم الضغط الهائل الذي يكاد يسحقها تحته.
برونو وعقدة الحقيقة
ليست فقط أغنية "نحن لا نتحدث عن برونو" هي الأغنية الأبرز من بين أغاني الفيلم، فقصة برونو في حد ذاتها، هي القصة الأكثر إثارة، والأكثر حزناً ضمن قصص الفيلم.
فموهبة برونو السحرية، هي نفسها من جعلته منبوذاً من عائلته، مُضطراً للعيش مُتخفياً في مكانٍ سري ببيت عائلة مادريغال، شاعراً بالوحدة والألم لمدة 10 سنواتٍ كاملة، وهو يرى عائلته مُجتمعة على مائدة الطعام أمامه في كل يوم، بدونه.
"لم تساعد قدرتي السحرية عائلتي، ولكني أحب عائلتي كثيراً"
نُبذَ برونو من عائلته لسببٍ غريب جداً، لأنه كان يقول الحقيقة. كانت موهبة برونو السحرية، هي قدرته على معرفة المستقبل، ولكن فيما يبدو، كان برونو يرى أحداث المستقبل السيئة فحسب، أو هكذا ما ظهر لي في الفيلم.
لذلك بدا للجميع أنّ اسم برونو وحده كان كافياً لجلب المصائب، رغم أنه لم يكن له يد في صنعها، إلا أنّ الناس اعتبروا أنّ برونو نفسه هو سبب كل الأحداث السيئة، ومن هنا، تم اعتماد عبارة "نحن لا نتحدث عن برونو" فيما بينهم، وكأننا إن لم نتحدث عن برونو، فلن يُعاني أحد مطلقاً، وهو الشيء الذي صدقه برونو عن نفسه أيضاً، لذلك آثر أن يبتعد، حتى لا يتأذّى أحدٌ بسببه مُجدداً.
مسكين برونو، لم يفعل أي شيء سوى أنه نطق بالحقيقة..
كانت هذه هي الشخصيات الأبرز في فيلم Encanto، والتي كانت لها بُعد واقعي ملموس، رغم أننا نتحدث عن فيلماً للرسوم المتحركة موجهاً للأطفال في المقام الأول.
كل شخصية منهم علّمتني درساً هاماً..
علمتني ميرابيل بأنني معجزة لكوني أنا فحسب..
علمتني إيزابيلا أن المثالية شيء مُزيف، يُقيّد الروح ويقتل الشعور بالحياة..
علمتني لويزا أنه لا بأس بقليل من الضعف، وأن ادعاء القوة المستمر، لن يمنحني سوى مسؤوليات أكثر، بلا ذرة تعاطف ممن حولي.
وعلمني برونو أن الحقيقة لا ينبغي أن تُقال دائماً، فالصمت يكون أكثر بلاغة في كثير من الأحيان.
كان لـ Encanto سحراً من نوع خاص في عيني، لأنه سحر بطعم الواقع، حقيقي ومؤلم، وليس مجرد خيال جميل زائف.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.