تتدحرج تونس يوماً بعد يوم نحو أزمة شاملة، يُواجه فيها الرئيس -والقلة التي لم تتخلَّ عنه بعدُ- كاملَ المجتمع الحزبي والمدني تقريباً، وسط لامبالاة المواطنين المنشغلين بالتهاب الأسعار، وتفاقم البطالة، وتواتُر الأخبار المفزعة حول شبح الإفلاس المتربص بالبلاد.
ومن التجنّي الاقتصار في تفسير عزوف المواطنين عن الشأن السياسي المباشر -و إعراضهم عما يشغل النخبة من مناكفات تأويلية للدستور والقوانين والتنازع حول الصلاحيات- على غياب الوعي بالقضايا الوطنية، فالمسألة أكثر عمقاً وأشد تعقيداً.
هل هي أزمة نُخبة سياسية أم أزمة انهيار منظومة القيم؟
لا شك أن الشعور الطاغي لدى المواطنين في علاقتهم مع النخبة -على اختلاف خلفياتها الفكرية و السياسية ومواقفها ومواقعها- هو الشعور بخيبة الأمل، فقد جرّبوا الجميع، وكانت الحصيلة في مجملها بطعم المرارة.
جرّبوا الجيل المؤسس للدولة الحديثة من رفاق بورقيبة فاصطدموا بمن يقايض أمنهم وغذاءهم بحقوقهم وحرياتهم، ثم جاء عهد الرئيس الأسبق بن علي، واعداً بالتنمية والديمقراطية، فافتتح عهداً استمر لقرابة ربع القرن، وأنهته ثورة ضد الفساد والاستبداد وحكم العائلات التي تتقاسم اقتصاداً ريعياً يُحقق تنمية تستثني أغلب الشعب، وتقسم البلاد عمودياً بين مناطق ساحلية تحظى بالعناية ويحلو فيها العيش وجهات داخلية منسية.
ورغم الأمل الذي أيقظته شعارات الثائرين، وغذّته وعود النخبة التي واجهت الاستبداد، ثم تقدمت لحكم البلاد، فإن حصيلة السنوات العشر لم تشفع للتجربة الديمقراطية الناشئة، فترنّحت تحت وقع هجمات رئيس شعبوي استفاد من أزمة سياسية/اقتصادية، (ساهم في تغذيتها وتأجيجها بتأويلات قانونية غريبة، ورفض تلقي اليمين عن الوزراء الحائزين تزكيةَ البرلمان، وعدم التجاوب مع كل دعوات الحوار..).
وخُيّل للمتابعين للشأن التونسي من خلال ما نقلته وسائل الإعلام، بعد خطاب سعيد الذي أعلن فيه تعليق نشاط البرلمان المنتخب، ما بدا وكأنه مظاهر احتفاء بإيقاف المسار الديمقراطي!
وعبّرت ممثليات دبلوماسية عن دهشتها لمشهد الأسابيع التي تلت الانقلاب الدستوري، في يوليو/تموز 2021: ديمقراطية جريحة.. لا بواكي لها!
صحيح أن الصدمة كانت عابرة، وأفسحت المجال لتظاهرات معارضة لمنظومة حكم سعيد، تُنظمها قوى سياسية ومدنية (من خلفيات يسارية وإسلامية)، تسعى لتقويض السلطة القائمة -التي تعتبرها غير شرعية- بالتوازي مع السعي لتنظيم صفوفها، والتوافق على ملامح التوافقات التشريعية والسياسية لمشهد ما بعد قيس سعيد.
ولكن اللافت أن عامة المواطنين يكتفون بمتابعة هذه المعركة الطاحنة بسلبية ولامبالاة، تكشفهما استطلاعات الرأي -التي يمتنع فيها ثلاثة أرباع المستجوَبين تقريبا عن إبداء مواقفهم- والتظاهرات السياسية التي يشاهد المارّون مجرياتها تماماً كما يشاهدون تلك التي يحشدها رافضو الانقلاب العسكري في الخرطوم، أو رافضو الجواز الصحي في أوتوا وباريس.
ولا يسع المحلل المنصِف أن يتجاوز سياقات هذه الاستقالة الشعبية من الشأن العام وأسبابها العميقة، فقد أدى طوفان الاتهامات المتبادلة وتسونامي التشكيك في الجميع وفي كل شيء إلى تشكُّل ثقافة جديدة قائمة على عدم الثقة في شيء!
ويتجاوز ذلك الشخصيات السياسية سلطةً ومعارضةً، فما وُجه للكثير منهم من اتهامات خطيرة كفيل بأن يؤدى لتقاطع الحقيقة الإعلامية والحقيقة القضائية إلى إفرادهم بمعتقل مترامي الأطراف، يتقاسم أجنحته وزنازينه السياسيون والقضاة والإعلاميون والأمنيون ورجال الأعمال.
والإدانة الشعبية لا تحتاج أدلةً قاطعةً ولا براهين ساطعة، ولا تُلقي بالاً لقرينة البراءة ولا لضمانات المحاكمة العادلة، فالمعادلة فيها قائمة على القرينة العكسية: النخبة فاسدة حتى إثبات العكس.
تهاوي الأشخاص والشخصيات ليس هو الخطر الأكبر، بل انهيار منظومة القيم وظهور مفاهيم جديدة لا تحكمها عقلانية ولا منطق، ولا تحتكم لعرف ولا قانون ولا دستور.
هي مدونة جديدة مركبة من حصيلة الأوهام والأحلام وعصارة الأفكار الشعبوية والتفسيرات التآمرية والرؤى الطوباوية والمشاريع الفوضوية، يسمّيها السيد سعيد: "الفكر الجديد".
والواضح أنه ليس فكراً (بل مجرد توهمات) وليس جديداً، بل تجريب لمجرَّب، ومجرد إعادة لأفكار باكونين في الشرق الروسي البعيد، والتجارب الغريبة للعقيد القذافي في الجماهيرية العظمى المجاورة.
وفي خضم الاحتفاء الشعبي برئيس يعِدهم بأن يعيد إليهم ثرواتهم المنهوبة المهربة للخارج، وما سيسترجعه من أموال طائلة من المسؤولين ورجال الأعمال الفاسدين، من الصعب أن تسمح ضوضاء الشعبوية التي تصم الآذان بالاستماع للصوت الخافت لِما بقيَ من عقل وتعقّل!
"أُم المعارك"
اختلطت المفاهيم، وفقدت الكلمات معانيها، لدرجة لم يعد فيها من الصادم للكثيرين تصريح سعيد مراراً وتكراراً بأن القضاء وظيفة وليس سلطة، وأن حل هيئة إشراف منتخبة هي المجلس الأعلى للقضاء، وتعويضها بهيئة معينة أمر ضروري لإصلاح القضاء!
وأصبح واضحاً مع الأيام أن عداء السيد سعيد للمؤسسات المستقلة -وخاصة المنتخَبة منها- بلغ درجة الهوَس، فلا يكاد يخلو اجتماع وزاري يشرف عليه الرئيس، أو استقبال لضيف، أو تصريح إعلامي من التهجم والتشويه على هذه المؤسسات والهيئات، وله في استهدافها جولات ومنازلات طيلة الأشهر الماضية. فمنذ تفعيل الرئيس سعيد لفصل من الدستور يمنحه سلطات استثنائية لمواجهة الخطر الداهم الذي يهدد السير العادي لدواليب الدولة، شرع في حرب شاملة استهدفت المؤسسات المنتخبة والهيئات المستقلة، افتتحها بتعليق أنشطة البرلمان المنتخب، والاستيلاء على صلاحياته بتولي التشريع عبر المراسيم الرئاسية.
ثم حصّن أوامره ومراسيمه من أي طعن، عبر حل هيئة مراقبة دستوريّة مشاريع القوانين، ووضع يده على جميع الملفات المودعة لدى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، بعد طرد موظفيها وإقالة رئيسها وإغلاق مقرها.
ولكن "أم المعارك" في ذهن سعيد هي حربه على القضاء بمؤسِساته القائمة على الاستقلالية والحياد، وعلى اعتباره سلطة لا وظيفة، أو مجرد مرفق، ومؤسَّساته المنتخبة، وعلى رأسها المجلس الأعلى للقضاء.
صحيح أن حرب سعيد على القضاء قد استعارت من الحروب العسكرية التقليدية مفرداتها، باستعماله مراراً عبارة "الصواريخ الجاهزة للإطلاق"، واستراتيجيتها بالتمهيد للهجوم النهائي بقصف تشويهي اتهامي كثيف.
ولكن لا شيء يوحي بأن السيد سعيد تجاوز في مطالعاته مجال اختصاصه الأكاديمي في القانون الدستوري، ليلقي نظرة على ما كتبه العبقري "صن تزو"، في كتابه (فن الحرب)، لا لجهله باللغة الصينية، ولكن لأن عقليته قائمة على ثنائيات متقابلة: فيها شعب الأخيار الصادقين الذي يقوده سعيد، ونخبة الفاسدين التي تضم أغلب المنتمين للمؤسسات الوسيطة من أحزاب وجمعيات ومنظمات ونقابات، وفيها وضع سابق هو السواد القاتم، يقابله مشروع جديد يُبنى على أنقاض ما سبقه من تجربة إصلاحية إعجازية جديدة.
وككل التقديرات المثالية المتعالية على إكراهات الواقع، فإن مشروع قيس سعيد للهيمنة لا يمتلك مقومات النجاح لأسباب كثيرة: فمن المرجح ألّا ينجح في ترويض القضاء وإعادته إلى بيت الطاعة، بسبب استعصاء قطاع واسع من القضاة، مدعومين بمعارضي الانقلاب وجِهاتٍ رسمية وجمعيات دولية، كما أن تقاطع اللحظة السياسية باللحظة الاجتماعية هي مسألة وقت، وهي آتية لا ريب فيها، في ظل انخفاض القدرة الشرائية للمواطنين، وتفاقم البطالة، وتصاعُد الاحتقان مع النقابة العمالية القوية، واستفحال العجز المالي، والعجز عن إبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي.
هي كلمات قالها أينشتاين منذ عقود، ولا نفتأ نعيد اكتشاف صحتها: "الفرق بين الغباء والعبقرية هو أن العبقرية لها حدود".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.