يشهد الاقتصاد المصري خلال السنوات الأخيرة مسارات متضاربة، تتعارض مع طبيعة سياسات الاقتصاد الحر الذي يتبعها، فبينما تجري عمليات خصخصة لشركات قطاع الأعمال العام المملوكة للدولة، أي تحويلها لملكية القطاع الخاص، تجري عمليات "عمعمة" معاكسة في نفس الوقت، أي تأسيس شركة مملوكة بالكامل للجهات الحكومية.
قصة الاقتصاد المصري الهجين
وبينما يتم تقليص دعم السلع التموينية التي يستفيد منها الفقراء استجابة لمطلب صندوق النقد الدولي، تقوم الموازنة الحكومية بدعم الأندية الاجتماعية التابعة لوزارتي المالية والداخلية، بل إنها تدعم العروض الفنية بدار الأوبرا بمبالغ متزايدة عبر السنوات المالية الأخيرة.
وبينما يتطلب الاقتصاد الحر التصدي للممارسات الاحتكارية، تقوم جهات حكومية باحتكار بعض الأنشطة مثل استيراد اللحوم، ورغم نص الدستور على التزام النظام الاقتصادي بمعايير الشفافية تمتنع الجهات الرسمية عن نشر العديد من البيانات الاقتصادية.
ومنها أرقام الدين العام المحلي التي لم تُعلن منذ 19 شهراً، وبيانات مشتريات الأجانب لسندات الخزانة المصرية، وأرقام السياحة من حيث دول الإيفاد وعدد سياح كل منها، وكذلك جهات ورود تحويلات المصريين بالخارج ونصيب كل منها، وتفاصيل جهات ونوعيات الاستثمارات الأجنبية الخارجة من مصر، وغيرها من البيانات اللازمة لاتخاذ قرارات اقتصادية صحيحة.
وها هو قانون التعاقدات التي تبرمها الجهات الحكومية رقم 182 لسنة 2018 ينص في مادته السابعة، على أن يكون التعاقد لمقاولات الأعمال أو تلقي الخدمات بطريق المناقصة العامة، ومع ذلك نجد أن إسناد أعمال المقاولات التي تقوم بها الحكومة تتم بالإسناد المباشر لخمس شركات مقاولات كبيرة فقط، وهو الأسلوب الذي تكرر في العديد من المشروعات، مثل إسناد مشروع إنشاء ثلاث محطات كبرى لإنتاج الكهرباء إلى شركة سيمنس الألمانية بالأمر المباشر.
مشاركة الجهات السيادية بتأسيس الشركات
وهكذا نجد أن أسلوب خصخصة شركات قطاع الأعمال العام الذي تم إقراره عام 1991 وفق اتفاق مع كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وجرى خصخصة عدد كبير من تلك الشركات خلال السنوات التالية، ثم عاد التأكيد عليه في اتفاق مصر مع الصندوق عام 2016، وتم بالفعل وضع قائمة للشركات المرشحة لذلك وتم تنفيذ جانب منها.
نجد على الجانب الآخر وبنفس الوقت توسّعاً للجهات الحكومية في إنشاء الشركات الجديدة دون مشاركة من القطاع الخاص، وظهر مصطلح جديد وهو مشاركة جهة سيادية في تأسيس العديد من الشركات دون الإعلان عن اسم تلك الجهة، ومنها الشركة التي ستقوم بإنشاء محطات لشحن السيارات الكهربائية والتي ستتم بمشاركة ما بين إحدى الجهات السيادية وشركة النصر للسيارات وهي شركة حكومية.
وعندما تم تأسيس شركة لصناعة النجيل الصناعي كانت الملكية لوزارتي الشباب والرياضة والإنتاج الحربي وشركة مصر للمقاصة ونسبة 10% فقط لشركة ألمانية، وعندما أرادت شركة المقاصة الخروج من الشركة تقدمت وزارة الشباب لشراء حصتها.
كذلك مع شركة استادات لإدارة الأصول الرياضية المملوكة للدولة والتابعة للشركة المتحدة للإنتاج الإعلامي المملوكة للدولة، عندما تم بيع نسبة 20% من أسهمها اشترتها شركة البريد للاستثمار المملوكة لهيئة البريد الحكومية.
غض الطرف عن الممارسات الاحتكارية الحكومية
وبينما ينص الدستور بالمادة 27 منه على منع الممارسات الاحتكارية، والتي يتابعها قانون حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية رقم 3 لسنة 2005، ونص في المادة الرابعة منه على أن السيطرة على سوق معينة، هي قدرة الشخص الذي تزيد حصته على 25% من تلك السوق، على إحداث تأثير فعال على الأسعار أو على حجم المعروض بها، دون أن يكون لمنافسيه القدرة على الحد من ذلك.
ورغم ذلك نجد الشركة "المتحدة للإنتاج الإعلامي" المملوكة لجهات سيادية تمتلك 13 قناة فضائية وسبع صحف ومواقع إخبارية وست إذاعات، وثلاث شركات إنتاج وتوزيع سينمائي ودرامي وثلاث شركات إعلانات وعلاقات عامة و10 شركات أخرى بمجالات مختلفة، في مثال صارخ للاحتكار بمجال القنوات الفضائية والإنتاج الدرامي.
إلى جانب امتلاك جهات حكومية نحو 80% من أسهم الشركة المصرية لمدينة الإنتاج الإعلامي، وامتلاك جهات حكومية لنسبة 82% من أسهم الشركة المصرية للأقمار الصناعية "النايل سات"، ومع ذلك يقوم جهاز حماية المنافسة بملاحقة شركات خاصة فيما يخص شبهة وجود احتكار في نشاطها، مثلما حدث مع شركة "النساجون الشرقيون" بتهمة احتكار مجال توزيع السجاد، بينما يغض الطرف عن الممارسات الاحتكارية للجهات الحكومية.
ورغم نص الدستور بالمادة 36 منه على أن تعمل الدولة على تحفيز القطاع الخاص، أي منحه مزايا وتيسيرات كي يزيد من نشاطه، ورغم النص الدستوري على التزام النظام الاقتصادي بضمان تكافؤ الفرص، نجد الواقع العملي بالسوق مخالفاً لذلك، حيث توسع النشاط الاقتصادي للشركات التابعة للجيش.
إذ بلغ عدد الشركات التابعة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية 29 شركة، بخلاف الشركات والأنشطة التابعة للجهات الأخرى التابعة للجيش، وهي الجهات التي تتمتع بمزايا لا تتوفر للقطاع الخاص منها منحها الأراضي التي يتم إقامة المشروعات عليها بالمجان وبمساحات كبيرة، مثلما يحدث مع محطات تموين السيارات بالوقود.
ومشاركة المجندين بالعمل بتلك المشروعات بمكافآت رمزية وعدم الالتزام بدفع ضرائب أو جمارك أو رسوم للجهات المحلية، وكلها أمور غير متاحة للقطاع الخاص الملتزم بأجور عمالة حسب أسعار السوق، وملتزم بدفع التأمينات الاجتماعية والضرائب والرسوم المتعددة.
34 % تراجعاً لاستثمارات القطاع الخاص
والنتيجة تراجع حصة مشاركة القطاع الخاص في النشاط الاستثماري المحلي إلى 26% من مجمل الاستثمارات المنفذة بالعام المالي 2020/2021 حسب بيانات وزارة التخطيط وهي نسبة غير مسبوقة في تدنيها خلال العقدين الماضيين.
وتشير بوضوح إلى هيمنة الجهات الحكومية على الساحة الاقتصادية، إلى جانب تراجع قيمة الاستثمارات التي نفذها القطاع الخاص إلى 200 مليار جنيه، مقابل 305 مليارات جنيه بالعام المالي السابق 2019/2020 بنسبة تراجع 34%.
والغريب أن المنافسة بالسوق لم تعد بين الجهات الحكومية من جانب والقطاع الخاص من جانب آخر، مثلما كان الحال في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، بل أصبحت المنافسة أكثر بين الجهات الحكومية المتعددة، فمجال إقامة المعارض والمؤتمرات أصبح حالياً شبه مُحتكر لصالح مركز مؤتمرات الجيش بالقاهرة الجديدة، وذلك على حساب هيئة المعارض التي تعد هيئة اقتصادية مملوكة للدولة بالكامل، ما أصابها بخسائر خلال السنوات الأخيرة.
وعندما يريد ميناء الإسكندرية إجراء تطوير إحدى محطاته تتبارى الجهات الحكومية على التنفيذ، وعندما تريد جمعية تعاونية إسكانية تنفيذ مشروع إسكاني، فإنها ستفضل العمل مع شركات المقاولات التابعة للجيش أو للداخلية، والتي تتمتع بنفوذ تجاه الجهات المحلية في مسائل التراخيص وغيرها بشكل لا تتمتع به شركات المقاولات الخاصة.
مثال آخر يتعلق بسعي الحكومة منذ سنوات بتقليص الدعم السلعي، ما أسفر عن انتهاء دعم الكهرباء منذ ثلاث سنوات، وتقلص دعم المشتقات البترولية إلى البتوجاز والمازوت فقط، وها هي الحكومة تعلن قيامها بدراسات حالية لتقليص الدعم الغذائي للبطاقات التموينية والاتجاه لقصرها على فردين فقط للأسرة، وتقليص دعم الخبز وهي الإجراءات التي أعلنت وزارة التموين أنها ستنفذ مع بداية العام المالي الجديد مطلع يوليو/تموز المقبل.
وعلى الجانب الآخر نجد موازنة العام المالي الحالي والتي ستنتهي آخر يونيو/حزيران المقبل، متخمة بصور الدعم لجهات غير مستحقة للدعم، منها 4.2 مليار جنيه لصندوق دعم الصادرات، و2 مليار جنيه لدعم تحويل السيارات من استخدام البنزين إلى الغاز الطبيعي، و1.2 مليار جنيه لوزارة الشباب والرياضة، و823 مليون جنيه لوزارة الداخلية، و705 ملايين جنيه لوزارة المالية، و692 مليون جنيه لوزارة الخارجية.
وتشير البيانات التفصيلية للموازنة إلى حصول كل الوزارات الحكومية على نصيب من الدعم مع اختلاف قيمتها، حتى أن دار الأوبرا وصندوق تطويرها قد خُصص لها من الدعم أكثر من 60 مليون جنيه، وهو ما يكفي لتوفير الدعم الغذائي المقرر بالبطاقات التموينية والبالغ خمسون جنيهاً شهرياً لنحو 1.2 مليون شخص، أو 100 ألف شخص لمدة عام كامل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.