بينما كنا نشاهد مباريات كأس الأمم الإفريقية التي جرت فعالياتها منذ أسابيع قليلة بجمهورية الكاميرون، غرب وسط إفريقيا، قد يلفت نظر المشاهدين مدى التشابه والتقارب بين أعلام العديد من الدول الإفريقية المشاركة في البطولة، فدول كالكاميرون والسنغال وبنين ومالي والكونغو وتوغو، وغيرها الكثير من الدول الإفريقية تتميز أعلامها بنطاقات خضراء وحمراء وصفراء يختلف تعامدها ما بين الطولي أو العرضي أو المائلة.
من أين جاءت الألوان الثلاثة؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال دعونا نمعن النظر في أكثر الأشياء التي تشترك بها القارة السمراء من شمالها إلى جنوبها. عشق كرة القدم؟ ربما، سمار البشرة؟ بالطبع، ولكن أيضاً ما لا نستطيع الاختلاف عليه هو "الاستعمار". فجل البلاد العربية إن لم تكن كلها وقعت تحت طائلة الاستعمار وفريسة الطموحات الإمبريالية للجماح الأوروبي الناهض، فعلى سبيل المثال وقعت مصر والسودان وغامبيا وسيراليون ونيجيريا وغانا تحت براثن الاستعمار البريطاني، وسيطرت فرنسا على دول مثل الجزائر وتونس والمغرب والكاميرون وساحل العاج، بينما كانت لإيطاليا المتحدة حديثاً وقتها الحظ الأقل والمتأخر بين نظيراتها من الدول الاحتلالية. ففي أواخر القرن التاسع عشر مع قيام حركة الاتحاد الإيطالي أو ما يدعى بالإيطالية "il Risorgimento" واتحاد إيطاليا في دولة واحدة، بدأت الدولة الشابة في التطلع إلى الحركة الأوروبية التوسعية وأرادت أن تنضم إلى ركب السيطرة على الموارد البشرية والحيوية بإفريقيا، فتمخض نظرها إلى دول القرن الإفريقي (شبه الجزيرة الصومالية) التي لم تستعمر بعد، فبدأت عملها عام ١٨٨٩ بشراء ميناء صغير بخليج "عصب" المطل على البحر الأحمر بإريتريا، استغلته إيطاليا ليكون نافذة لها إلى عصب التجارة الحيوي، الذي كانت تسيطر بريطانيا على شماله بإدارتها لقناة السويس، ليصبح ميناء عصب أول منطقة إيطالية بإفريقيا.
وبازدياد الطموح قام رئيس الوزراء الإيطالي فرانسيسكو كريسبي بعقد اتفاقية مع الإمبراطور مينليك الثاني أحد أهم وأقوى أباطرة إثيوبيا، دعيت بمعاهدة "ويتشيل"، والتي تضمنت إعلان حالة السلام بين الدولتين ومنح بعض العطايا والقروض الإيطالية إلى إثيوبيا وأيضاً نصت على سيطرة إيطاليا على بعض المناطق المجاورة لإثيوبيا متضمنة إريتريا. والمثير للاهتمام في هذه المعاهدة هو أحد بنودها الذي قد يحمل بين أحرفه أكثر من معنى، ويقال في إحدى الروايات إنه كان هناك نسختان من المعاهدة واحدة بالإيطالية والأخرى بالأمهرية، فينص معناها على فرض الحماية الإيطالية على إثيوبيا بينما فهمها مينليك الثاني أنها عبارة عن تعاون عسكري تمد به إيطاليا يد العون إلى إثيوبيا إن إثيوبيا طلبت ذلك، فرفض مينليك الثاني هذا البند أولاً، من ثم رفض المعاهدة جملة. لتتفاقم الأحداث لتقوم بين القوتين معركة تدعى معركة "عدوة"، وكانت تلك المعركة تعد من الهزائم القليلة لقوات عسكرية أوروبية في إفريقيا، وانتصرت فيها إثيوبيا التي قبلت العتاد والأسلحة من روسيا التي آزرت إثيوبيا الأرثوذكسية ضد هذا العدوان.
بهذا أصبحت إثيوبيا أولى الدول المستقلة التي أبت التوغل الأوروبي على أرضها عكس شقيقاتها من أبناء الشعب الإفريقي. ولم تستعمر إثيوبيا قط سوى سنوات خمس بعد هزيمتها في مواجهة أخيرة مع إيطاليا إبان الغزو الإيطالي أو كما يدعوه الإيطاليون حرب إثيوبيا عام 1995، فبذلك أصبحت إثيوبيا رمزاً لاستقلال دول وسط إفريقيا والدول المجاورة لها، الذين عانوا من التسيُد والعجرفة الأوروبية لقرون عديدة.
أما قصة الألوان الثلاثة، الأصفر والأحمر والأخضر -التي إذا أضيف إليها اللون الأسود تكون أربعة- باتت الآن واضحة، فتدعى هذه العصبة من الألوان إما بالألوان الإثيوبية أو الأعم "ألوان القومية الإفريقية"، التي نسختها الدول الإفريقية المتعطشة للاستقلال والتحرر من بطش السيد الأوروبي، فكانت أولى الدول التي تتخذ من الألوان الثلاثة علماً لها هي غانا وتبعتها بقية الدول. بالطبع لم يكن قرار تلك الدول بأن تتخذ ألوان القومية الإفريقية علماً لها بهذه السهولة، بل العكس، فالسنغال على سبيل المثال التي كانت تحت وطأة الاستعمار الفرنسي واجهت رفضاً من المحتل في أول الأمر الذي خشى من وجهة نظره أن تثير هذه الألوان الحمية في نفوس الطامعين في الحرية فتسري الروح الوطنية والقومية في دمائهم فينقلب الأمر على فرنسا بما لا تحمد عقباه.
هل الدول العربية بإفريقيا ليست جزءاً من القومية الإفريقية؟
أستطيع الإجابة عن هذا السؤال بلا ونعم في آن واحد دونما أن أكون مخطئاً، فإن دول شمال إفريقيا العربية خصيصاً وبصفة أقل الصومال وجيبوتي وجزر القمر، تشترك مع بعضها وسائر الوطن العربي بسمات جغرافية وديموغرافية إثنية وعرقية ولا سيما دينية عن بقية الدول الإفريقية الأخرى، فلا يشتركون معهم بالضرورة في القضايا نفسها أو المصير ذاته، فمالوا أكثر إلى ألوان الوحدة العربية المقتبس من علم الثورة العربية الكبرى عام 1916 ميلادية، قد استوحى مصممه فكرته من بيت شعر الشاعر الطائي صفي الدين الحلي الذي يقول فيه: "بيضٌ صنائعنا سودٌ وقائعنا خضرٌ مرابعنا حمرٌ مواضينا".
فترى مثلاً الكثير من الدول العربية التي تتخذ من الألوان الأحمر والأبيض والأسود ألواناً لأعلامها، كمصر واليمن والعراق وسوريا التي تأثرت بشكل مباشر بالاستقلال المصري والتحرير عام 1952 ميلادية، والكثير أيضاً ممن يتخذون من عقاب صلاح الدين الأيوبي شعار نبالة لدولتهم دليل القوة والفخر والإباء كمصر والسودان وفلسطين والعراق والصومال والأردن. ومنهم من أضاف اللون الأخضر إليها كفلسطين والأردن والسودان والإمارات والكويت، ومنهم من قد يضيف الهلال والنجمة لدلالة الهوية الإسلامية كموريتانيا والجزائر وتونس ومنهم من اكتفى باللون الأحمر والنجمة فقط كالمغرب، ومنهم من اكتفى باللون الأخضر وشهادة التوحيد فقط كالسعودية.
فتجد أن كل الدول العربية تعني بالألوان المستخدمة الدلالة نفسها، فالأحمر لون القوة والدم الذي بذل دفاعاً عن الأرض، والأبيض للسلام الذي تسمو إليه الدول الإسلامية تنفيذاً لقول الله تعالى: "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها"، والأسود لأرواح الشهداء الذين قدموا أنفسهم فداءً لأوطانهم وتعبيراً عن فترة الاستعمار التي تبغضها الأنفس العربية كلها، والأخضر دليل الربوع الخضراء العامرة بالخير، وإذا أضيف الهلال والنجمة فلإضفاء صبغة إسلامية لهوية الدولة، ذلك كما في عقاب صلاح الدين وشهادة التوحيد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.