إذا حالفك الحظ وزرت الصين فلا ريب أنه ستكون أمامك قائمة من الأماكن الأثرية الرائعة عليك ألا تفوّت زيارتها، وعليك أيضاً ألا أن تنسى أن تتضمّن تلك القائمة مكاناً هاماً للغاية وهو ضريح الصحابي "سعد بن أبي وقاص".
عاش الصحابي الشهير ومات ودُفن في الجزيرة العربية. بحسب كتب التاريخ لم نعرف له خروجاً عنها إلا في غزوات الفتح ونشر الإسلام كما حدث في بلاد فارس والعراق، سُرعان ما كان يعود سعد بن أبي وقاص إلى المدينة بعدها عقب تحقيقه النصر تلو الآخر.
فكيف يتّسق هذا إذن مع الضريح الصيني له؟ كيف بُني هذا الضريح؟ ولماذا انتقى الصينيون ابن وقاص تحديداً ليحظى بهذا التكريم رفيع المستوى؟
الصين والعرب: ما قبل الإسلام
عرف الصينيون العرب قبل الإسلام بفترة طويلة، بدأت بالاقتصاد بعدما تكرّر ذهاب العرب التجّار إلى الصين لبيع المنتجات لديهم، وهو ما دفع أهل الصين لإطلاق لقب "داشي" (وتعني "تاجر") على المسلمين لاحقاً، باعتبار أن التجار هم أول مَن رأوهم من العرب.
بعدها، نعرف أن أحد أباطرة الصين، ويُدعى "ووتي"، اهتمّ بتعميق علاقاته بأهل الجزيرة فأوفد لهم بعثة من كبار رجال بلاطه عام 139 ق.م.
وبفضل هذه العلاقة الدافئة احتلت مدن عربية كبرى مكانة هامة في طريق التجارة الصيني الشهير بـ"طريق الحرير"، أشهر تلك المدن العربية هي مدينة الحيرة، التي اعتاد ملوكها استقبال وفودٍ صينية من وقتٍ لآخر في قصورهم.
ما بعد الإسلام
رصد التاريخ الصيني اهتماماً مبكراً بالإسلام وبسيرة النبي محمد، فتعددت إشارات المؤرخين الصينيين للحديث عن الإسلام وعن الرسول محمد في أكثر من كتاب.
أقدم تلك الإشارات ما فعله المؤرِّخ الصيني "خوي تشاو"، حين كتب خلال الفترة من 723م إلى 742م أن محمداً "راعي إبل تمرّد على ملك الفرس، ثم نصّب نفسه ملكاً بدلاً منه".
ووفقاً لزكي محمد حسن في كتابه "الصين وفنون الإسلام"، فإن إشارة تاريخية صينية أخرى وصفت المسلمين بأن "أتباع الدين الجديد في "مملكة المدينة" يمتلكون مبادئ تختلف عن مبادئ بوذا، فأتباعها لا يمتلكون تماثيل في معابدهم ولا أصناماً ولا صوراً".
هنا يجب الإشارة إلى نقطتين هامتين؛ إذا علمنا أن النبي توفّي عام 632م، ورغم ما تحويه الروايات الصينية من معلومات خاطئة، فإنها تكشف اهتماماً مبكراً بالإسلام يفسّر القصة التي أجمعت المصادر الإسلامية والصينية على حدوثها وهي إرسال إمبراطور الصين -الإمبراطور "تاي زونج" وفقاً لأرجح التقديرات- لوفدٍ دبلوماسي للقاء النبي محمد.
تمنحنا المصادر الصينية الكثير من المعلومات في هذا الشأن أغلبها أسطوري بطبيعة الحال، فتقول إن الإمبراطور الصيني شاهد حلماً رأى فيه نفسه يهاجمه حيوانٌ مفترس ولم ينقذه منه إلا "رجل يرتدي عمامة"، ولما استشار وزراءه أخبروه أن ذلك الرجل هو "نبي العرب".
بعد هذه الرؤيا أرسل إمبراطور الصين بعثة رسمية إلى النبي في عام 9هـ قابلت الرسول في مكة وتمكّن أحد أعضائها من رسمه، وبعد عودته أعطى تلك الصورة المرسومة إلى الإمبراطور فعلّقها في بلاطه تكريماً لصاحبها.
سعد بن أبي وقاص
بينما توقف التاريخ الإسلامي في سرد علاقة الرسول بالصين على رحيل الوفد الصيني بعدما اعتذر له النبي عن تلبية دعوة أعضائه بزيارة الصين، تُسهب المرويات الصينية في تفاصيل أخرى لاحقة لهذه الزيارة.
منها أن الرسول بعث مع الوفد الصيني وفداً إسلاميّاً بقيادة سعد بن أبي وقاص لنشر تعاليم الإسلام في الصين.
يحكي محمد زيتون في كتابه "الصين والعرب"، أن الأساطير الصينية تزعم أن سعداً أقبل على الصين بصحبة 3 من الصحابة الآخرين –بحسب المصادر العربية لا نعرف لهم اسماً، أما المصادر الصينية فقد ضمّت إلى الوفد الإسلامي الذي منحته لقب "الحكماء الأربعة" ابن عمِّ النبي جعفر بن أبي طالب، وصحابياً آخر أقل شهرة هو جحش بن رياض- مع هؤلاء الأربعة سار أيضاً 40 فرداً من أخلص أتباع ابن أبي وقاص.
وبحسب زيتون، بالغ الصينيون في احترام سعد فأطلقوا عليه لقب "وقاص بابا" أو "بابا الأول، كما أطلقوا على الصحابة الثلاثة الآخرين "بابا الثاني" و"بابا الثالث" و"بابا الرابع".
وتُمعن المرويات الصينية في تبيان حجم دور سعد في تمثيل الإسلام بالصين، مثل الموقف الذي اعترض فيه على وضع الإمبراطور الصيني لصورة النبي على أحد جدران قصره بعدما قال له "إن النبي منعنا من عبادة الصور والتماثيل"، فأزالها الإمبراطور وأمر بالإعراب عن محبته للنبي بفِعلٍ آخر وهو بناء مسجد في مدينة "كانتون" سماه "خواي شينغ" أي "الشوق إلى النبي".
بحسب التاريخ الصيني، فإن السكان المحليين أطلقوا على تلك الجماعة التي صحبت سعداً جماعة "هوي-هوي Hui Hui)، والتي أقامت بصحبة أميرها في "كانتون"، وقد يكون ذلك الاسم مشتقاً من عقيدة التوحيد التي يعتقدها المسلمون، والتي يُمكن اختصارها بما ورد في سورة الإخلاص "قُل هو الله أحد".
وبحسب المصادر الصينية، فإن الأبطال المسلمين الـ40 ماتوا ميتة بطولية، بعدما باغتهم لص وهم يصلّون راح يقتلهم حتى يستولي على حاجياتهم، رغم هذا التقتيل فإنهم لم يتحرّكوا طيلة الصلاة حتى ماتوا جميعاً فاستحقوا الاحترام من الجميع -بمن فيهم اللص- على تشبّثهم الشديد بمعتقداتهم الدينية، لذا اعتنى الصينيون بدفن رفاتهم في ضريح بات مزاراً مقدساً لكل مُسلمي الصين.
لم يجد الصينيون مكاناً لذلك الضريح خيراً من أن يكون بجوار المسجد.
ليس هذا فحسب، وإنما أسّس الصينيون مسجداً -مسجد "شوق النبي" الذي ذكرنا قصة إنشائه سابقاً- في "كانتون" بجواره ضريح إسلامي زُعم أنه يضمُّ رفات سعد تحمل اسمه حتى الآن مثل المسجد تماماً.
وبحسب الكاتب الصحفي فهمي هويدي في مؤلَّفه "المسلمون في الصين: الجرح النازف"، فإن واجهة المسجد ثُبِّت عليها بالعربية لوحة رخامية -بلا تاريخ- تقول "هذا أول مسجد في الصين، بناه سيدنا وقّاص رضي الله عنه، إذ دخل هذه الدار لإظهار الإسلام بأمر رسول الله".
كما ينقل لنا هويدي في كتابه وصفّاً حيّاً للضريح ولـ50 قبراً التي تحيط به -غالباً أخطأ هويدي العدّ، فجميع المصادر تؤكد أنهم 40 قبراً فقط وليست 50- ويعتقد الصينيون أنهم أفراد الجماعة الذين صحبوا سعداً للصين منذ بداية الأمر.
يصف الصينيون ذلك المكان بأنه "أقدم مسجد في تاريخ الصين"، إذ يرجع تاريخ بنائه إلى عام 627م، وبعدها نعلم أن عدداً من أباطرة الصين اهتموا بصيانة المكان وتجديده انتهاءً بإعلان الدولة الصينية رعايتها للمكان كأحد الآثار الثقافية في نوفمبر/تشرين الثاني 1996م.
قصة غير حقيقية
رغم الشيوع الساحق لتلك المرويات في الصين فإن عمليات مراجعة كبيرة تجري لها مؤخراً داخل الصين نفسها، خاصةً بعد اصطادمها بالتاريخ الإسلامي الذي يكذّبها جُملة وتفصيلاً.
يقول الباحث الصيني المختص بدراسات الشرق الأوسط وانغ لنغ قوي في كتابه "القصة الكاملة للإسلام في الصين"، إن أغلبية مسلمي الصين يشككون في "قصة ابن أبي وقاص" ويعتبرونها عسيرة التصديق، فيما سعى البعض لوضع حلٍّ "توافقي" عبر تخمين أن شخصاً آخر يُدعى سعد بن أبي وقاص هو الذي قاد نشر الإسلام في الصين، وحينما أراد الصينيون تكريمه وقعوا ضحية لتشابُه الأسماء بينه وبين صاحب الرسول.
هذا الرأي انتصر له أحمد العسيري في كتابه "موجز التاريخ الإسلامي"، الذي أكد فيه أن رجلاً من أسرة سعد بن أبي وقاص أو أن اسمه وقاص وصل للصين في عهد مبكر وقام بالدعوة هناك. وله ضريح هناك حتى الآن يحمل اسم (ضريح وقاص)".
مصادر إضافية
الصين والعرب، محمد زيتون، ص 72
المسلمون في الصين: الجرح النازف، فهمي هويدي، ص 55
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.