“لقد دمرت حكومة حمدوك جهودنا!”.. ما لم أروِه من قبلُ عن عملي مستشاراً لوزارة الطاقة في السودان

عربي بوست
تم النشر: 2022/02/13 الساعة 12:41 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/02/13 الساعة 12:41 بتوقيت غرينتش
البروفيسور السوداني نمر عثمان البشير المتخصص في الهندسة الكيميائية / عربي بوست


شاركتُ في فرق متطوعة من المهندسين والخبرات السودانية، حتى من قبل قيام ثورة ديسمبر/كانون الأول المجيدة، على تأهيل وتدريب الشباب السوداني في المعاهد والجامعات والشركات لقيادة مرحلة البناء القادمة التي كنا نراها عين اليقين ويراها غيرنا سراباً بعيد المنال.

منذ بداية الحراك الثوري بالسودان في ديسمبر/كانون الأول 2018، تركزت جهودنا- نحن المهندسين وأصحاب الخبرات السودانية- على تأهيل وتدريب الشباب السوداني في المعاهد والجامعات والشركات لقيادة مرحلة البناء القادمة التي كنا نراها عين اليقين ويراها غيرنا سراباً بعيد المنال، وعلى التحضير للمرحلة القادمة وتكوين أجسام تساعدنا على التحول إلى دولة مبنية على أسس علمية سليمة وبأيدي أبناء الوطن في الداخل والخارج، عاملين كيدٍ واحدة للتعجيل بعملية معالجة الفشل المزمن والفساد المؤسس الذي ورثناه من النظام البائد، تليه مرحلة التأسيس الممنهج لبنية المؤسسات الحكومية لتطابق أعلى معايير الشفافية والجودة العالمية لنعود بها إلى العالم الذي سيساهم في شكل شراكة مفيدة للطرفين.

منصات بحثية

تمكنّا مباشرة بعد الثورة من تأسيس منصات بحثية Think Tanks لدعم قطاع النفط والغاز في السودان، ساهم فيها العشرات من الخبراء العاملين في كبرى شركات العالم ومراكز البحوث، إضافة إلى عدد كبير من العاملين بهذا المجال من القطاعين العام والخاص داخل السودان.

تطوعت شخصياً مباشرة بعد تشكيل الحكومة الأولى كمستشار للغاز الطبيعي لشركة سودابت (الشركة الوطنية للنفط) ولوزارة الطاقة، وقد ركزت جهدي على إيقاف إهدار الغاز الطبيعي الذي حدث منذ سنوات الإنتاج الأولى للنفط من قِبل النظام البائد الذي سعى فقط نحو إنتاج خام البترول وتساهل في اتفاقياته مع الشركات المنتجة (الصينية والماليزية والهندية وغيرها) فيما يختص بالغاز الطبيعي، فأهدر مئات الملايين من الأقدام المكعبة من الغاز كانت ستساهم في نهضة كبيرة جداً بمناطق الإنتاج النفطي في غرب السودان لو تم استخدامها في توليد الكهرباء لتدعم قطاع الصناعة (تصنيع اللحوم والصمغ العربي مثلاً) والزراعة والتعدين في تلك المناطق وللشبكة القومية. 

تقييمنا المبدئي الذي تم بفِرق عمل متخصصة، أنه لو تم استخدام هذا الغاز منذ أول أيام إنتاج النفط لتوليد الكهرباء مثلاً أو إنتاج مواد نفطية وكيميائية، كان يمكن أن يؤدي إلى تغذية المنظومة الاقتصادية للبلاد بما يفوق خمس مليارات دولار أمريكي إن حسبنا تأثيرات ذلك على القطاعات الاقتصادية المستفيدة.

 كان هذا سيؤدي إلى خلق نهضة تنموية متكاملة، لربما لو حدثت لمنعت الحروب في مناطق الإنتاج مثل دارفور وجنوب كردفان، لأن التنمية والازدهار الاقتصادي كانا سيكونان حافزاً أساسياً لأهل المنطقة لتحقيق الاستقرار والسلم، إضافة إلى الأثر البيئي الضار للغازات المنبعثة وغير المستغلة.

انحيازنا للشركات

للأسف الشديد اختارت إدارة وزارة النفط والدولة في النظام البائد الانحياز لمصالح الشركات الأجنبية، التي ظلت حريصة على إنتاج النفط فقط، لأنه مصدر العملة الحرة، وأهدرت الغاز الطبيعي، لأن استخداماته في الأساس محلية ولصالح حكومة السودان.

وتسبب استهتار وزارة النفط نتيجة للفساد الإداري وقلة الخبرة وعزلة السودان عن العالم المتقدم في مجال صناعة الغاز الطبيعي وعدم اهتمام الشركات الأجنبية العاملة في حقول النفط السودانية وقلة خبرتها بالمجال، في إضاعة فرص استخدام الغاز لتوليد الكهرباء وبناء خطوط تصفية للغاز لإنتاج والوقود والمواد الكيميائية.

بل أتاحت المنظومة الفاسدة لتلك الشركات الأجنبية استخدامه دون فائدة مقابلة لحكومة السودان ومن دون عائد مادي مباشر للدولة في أحيان كثيرة. 

وتم وضع رؤية متكاملة لإحياء قطاع النفط والغاز، ممثلة في مجموعات عمل Think Tank المتخصص في مجال النفط والغاز، وكان لي شرف العمل من ضمنهم، هذا الفريق الذي كان مكوناً مما يزيد على ستة وستين خبيراً من الداخل (القطاع العام والقطاع الخاص)، والخارج (افضل شركات العالم ومراكز البحوث). 

سلَّم هذا الفريق إلى الوزير عادل إبراهيم، في أول أيامه بالوزارة، خطة عمل متكاملة لحل المشاكل الآنية للقطاع مع برامج مرحلية قصيرة، متوسطة وطويلة المدى، إضافة إلى تصور متكامل عن كيفية تكوين أجسام مجالس استشارية تخصصية تساعده في أداء مهامه وفي تنفيذ هذه الحلول.

عمل هذا الفريق المتنوع على كافة مجالات صناعة النفط والغاز من الاستكشاف إلى الإنتاج والتصفية لمنتجات الوقود والصناعات الكيميائية وبفرق تخصصية فرعية لعدد ساعات فاق 150 ساعة، وبتقديرات مبسطة لخبرات المشاركين في العمل، مستخدمين عمل منهجية بيوت الخبرة العالمية، فإن أقل تكلفة ممكنة لمثل هذه المساهمة سوف تصل إلى 600 (ستمئة ألف دولار أمريكي).

الوزراء لم يأخذوا توصياتنا بمحمل الجدية لمكافحة الفساد! 

قدمت مجاناً للحكومة الانتقالية بقيادة الدكتور عبد الله حمدوك ولوزراء الطاقة والتعدين والطاقة والنفط، ولكن للأسف الشديد لم يؤخذ بكثير مما قُدِّم للوزير عادل علي إبراهيم، أول وزير طاقة وتعدين لحكومة الدكتور حمدوك في الفترة الانتقالية، وأيضاً لم يستفد من هذه الطاقات والدراسات من تم تكليفه بعده المهندس خيري عبد الرحمن، الذي عمل وزيراً مكلفاً ولا بغالب التوصيات، لأسباب مختلفة سأتحدث عنها لاحقاً.

منظومة متكاملة

تركَّز جهدنا في مجال تطوير قطاع الغاز الطبيعي بالتحديد في بناء منظومة عمل متكاملة لتطوير مشاريع الغاز بالسودان، وقد عملتُ في هذا المشروع بصورة مباشرة كمستشار متطوع داعماً لشركة سودابت (الشركة الوطنية للبترول) التي تتولى مسؤولية إنتاج الغاز الطبيعي واستخدامه في السودان بناءً على هيكلة وزارة الطاقة والنفط.

تركزت جهودي نحو غايتين ذواتَي أهمية قصوى في اتخاذ القرارات السليمة بمجال الاستثمار في هذا القطاع الحساس للسودان والواعد بإنتاج كبير في البحر الأحمر وفي منطقة الدندر، إن تم التعاقد مع شركات عالمية ذات كفاءة وقدرات كبيرة في مجال الغاز الطبيعي الذي يختلف عن مجال النفط وله متطلبات وخبرات وبنيات تحتية مختلفة. 

النقطة الأولى:  تركزت جهودنا التي عملت عليها بالتعاون مع العاملين في المجال والأقسام المختصة وقيادة الشركة ومجلس إدارتها، على بناء منظومة مشاريع شفافة تتبع خطوات واضحة ومتسلسلة تتحدد فيها المسؤولية الفردية والجماعية في اتخاذ القرار، وتبني على أسس علمية واقتصادية مرتكزة على دراسات مستفيضة تقيّم طبيعة المشاريع وعائدها الاقتصادي، مبنية بالأساس على كمية الغاز الطبيعي المتوافرة في الحقول النفطية والموثقة من قِبل شركات عالمية متخصصة بهذا المجال وليس على افتراضات او تقديرات مبنية على المعلومات التي توفرها الشركات الأجنبية الموجودة حالياً في الحقول.

لكن للأسف لم نجد في وزارة الطاقة والنفط ولا شركة سودابت منظومة متكاملة توضح الخطوات المطلوبة، ولا استراتيجية واضحة غير خطط مبعثرة قُدِّمت من خبراء دولة النرويج، إضافة إلى غياب لكفاءات محلية متخصصة في هذا المجال المهم بالسودان. 

معظم المشاريع التي تمت أو اقتُرحت في العهود السابقة بمجال استخدام الغاز الطبيعي، كانت عبارة عن خطوات فردية مبنية في الأساس على منظومة غير مؤسسية أتاحت الفساد كما حدث في مشروع غاز الفولة-1 الذي كلف 650 مليون دولار لحكومة السودان ولم ينتج كيلوواط واحداً من الكهرباء، ولم تتم إلى الآن محاسبة المسؤولين عنه والمشاركين في قطاع الكهرباء، وعدد مقدر من أصحاب القرار وشركاء التنفيذ ما زالوا في مواقعهم للأسف الشديد إلى اليوم.

النقطة الثانية: طوَّرنا خطة عمل لتدريب كوادر مؤهلة ومتخصصة في مجال الغاز الطبيعي، مركِّزين على الجوانب الفنية وأيضاً في منظومة تطوير للمشاريع. 

لاحظت خلال العامين السابقين، استغلال بعض القيادات الإدارية غياب منظومة الحوكمة الواضحة والكوادر المتخصصة، في اتخاذ قرارات فردية ذات شبهة فساد بمستوي عالٍ. أيضاً لاحظنا غياب التدريب واللوائح المختصة بمبدأ تضارب المصالح وأخلاقيات المهنة ولكل العاملين في القطاع من المديرين التنفيذيين للموظفين في المستوى الأدنى. 

نجحنا في الدفع باتجاه بناء هذه الخطط التدريبية المهمة، مما أثار حفيظة كثير من الموظفين الكبار الذين تعوَّدوا العمل في منظومة الإنقاذ الفاسدة، ووجدوا أن هذه اللوائح الجديدة تقيّد حركتهم.

أيضاً في الجانب الفني، درَّبنا عشرات من شباب الشركة والمهندسين والموظفين على مستويات مختلفة بالجانب الفني لصناعة الغاز في العالم، وأيضاً أتحنا لهم الفرصة في التدريب والتواصل المباشر والتأهيل مع المراكز العالمية المتخصصة في هذا المجال ومن ضمنها مراكز جامعة تكساس A&M بأمريكا، واستخدمنا خبرات عالمية من شركات مثل KBR ومكاتب تخطيط استراتيجي على مستوى إقليمي وعالمي، وكلها تمت في شكل تطوعي من خبرات سودانية لدعم الحكومة الانتقالية.

 تمت المساهمة المباشرة في تطوير خطط استراتيجية لهذا القطاع من قِبل المتطوعين، تعتبر أنموذجاً في التحول المنشود لهذا القطاع. 

الغرض الأساسي من هاتين الخطوتين كان ضمانَ النجاح لأي مشروع مستقبلي في مجال النفط والغاز، ولخلق منظومة حوكمة متكاملة ضرورية بهذا القطاع المهم الذي تغيب فيه هذه الأسس والقوانين واللوائح.

تم تنوير الوزراء بهذه الخطوات وبأهميتها وأهمية بناء خطط مماثلة في كل أقسام وقطاعات الوزارة كأولوية قصوى؛ لإيقاف منظومة الفساد التي كانت تدار بها الوزارة، ولكن للأسف الشديد لم تؤخَذ هذه التوصيات على محمل الجد اللازم من قِبلهم. 

يتبع

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

نمر عثمان البشير
عالم سوداني، بروفيسور في الهندسة الكيميائية، ومدير مركز أبحاث الغاز والوقود بجامعة تكساس A&M في قطر
عالم سوداني، بروفيسور في الهندسة الكيميائية، ومدير مركز أبحاث الغاز والوقود بجامعة تكساس A&M في قطر. مدير مختبر توصيف الوقود الذي يدعم البحث وتقديم الخدمات في مجال الوقود الاصطناعي والمواد الكيميائية التي يتم استخلاصها من الغاز الطبيعي. ويتعاون الدكتور البشير مع كبرى الشركات العالمية مثل توتال وشل وجنرال إلكتريك (النفط والغاز) وأوريكس جي تي إل وشركة قطر للإضافات البترولية المحدودة (كفاك) والخطوط الجوية القطرية وغيرها.
تحميل المزيد