إنَّ إبراهيم– عليه السلام- يمثل في شخصه النبويّ، الرجل الفطري المستقيم النفس في كل اتجاهاتها، وقد رأينا من فطرته أنه فكر في ذريته كما فكر في نفسه، والفطرة السليمة تجعله يذكر عند الخير أبويه كما ذكر ذريته، فقد كان إبراهيم- عليه السلام- متجهاً دائماً إلى مقام الربوبية فنادى ربه بالربوبية، وقد ذكرناها في ذلك من ضراعة المؤمن المقدِّر لنعمة الإيجاد والربوبية والقيام على شؤونه وأنه الحي القيوم القائم على ما أنشأ من خلق، وهو اللطيف الخبير، ودعاه بالمغفرة، وابتدأ بنفسه أولاً، ثم ثنّى بوالديه، وثلَّث بالمؤمنين الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، سواء أكانوا من ذريته أم كانوا من غيرهم، فهو دعاء لعامة المؤمنين.
وكانت أدعية إبراهيم- عليه السّلام- عامة (جماعية)؛ لأنه نادى بالأخوة الإنسانية، وهي الأخوة القائمة على توحيد الله عزّ وجل وإفراده بالعبادة وطاعة الله عزّ وجل وفق منهجه سبحانه وتعالى، وطلب إبراهيم- عليه السّلام- الغفران وستر الذنوب، ومحو السيئات، وقيام الحسنات، يوم يقوم الحساب، وهو يوم القيامة حيث يكون الحساب بأن يقوم كل إنسان على ما قدم من خير، وقد كتب ما ارتكب من خير وشرّ، فهو يطلب من الله في هذا اليوم عفوه وتغليب مغفرته على عذابه، وذلك بالنسبة لوالديه وبالنسبة للمؤمنين.
قال أبو حيان رحمه الله: والظاهر أن إبراهيم سأل المغفرة لأبويه القريبين وكانت أمه مؤمنة، وكان والده لم ييأس من إيمانه ولم تتبين له عداوة الله، وهذا يتماشى إذا قلنا: إنَّ هذه الأدعية كانت في أوقات مختلفة، فجمع هنا أشياء مما كان دعا بها، وقيل: أراد أمه ونوح عليه السلام، وقيل: آدم وحواء، والأظهر القول الأول، وقد جاء نصاً دعاؤه لأبيه بالمغفرة في قوله: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ}.
قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} ]إبراهيم:41[
1- {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي}:
أيّ: اغفر لي ما فرط مني مما أراه ذنباً، وهذا يدلُّ على شدّة تواضع خليل الله- عليه السلام- لربّه، واتهامه لنفسه بالتقصير في حق شكر نعم الله تعالى عليه، وهذا الشعور كان يدفع نبينا محمداً- صلّى الله عليه وسلّم- لمضاعفة عبادته وقيامه في الليل، فكان يقوم حتى تتورم قدماه، ففي الحديث الشريف، عن المغيرة رضي الله عنه، قال: كانَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم ليَقُومُ لِيُصَلِّيَ حتَّى تتورمُ قَدَمَاهُ- أَوْ سَاقَاهُ- فيَقولُ: أَفلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا. (صحيح البخاري، رقم، 1130)
2- {وَلِوَالِدَيَّ}:
أيّ: اغفر لأمي وأبي، ويبدو أن أمه كانت مؤمنة، ووقع استغفاره لأبيه قبل أن يتبين له أنه عدو لله، بإصراره على الكفر حتى الموت، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114].
3- {وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}
أيّ: اغفر للمؤمنين كافة يوم القيامة عند وقوع الحساب، وسبق لنبي الله نوح- عليه السلام- سؤال المغفرة لجميع المؤمنين كما في قوله تعالى: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح:28]، وكان الشعبي- رحمه الله- يقول: ما يسرني بنصيبي من دعوة نوح وإبراهيم- عليهما السلام- للمؤمنين والمؤمنات حُمُر النعم. (التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، 4/333).
وهكذا ينتهي هذا المشهد العظيم، مشهد النبي الكريم إبراهيم- عليه الصلاة والسّلام- بعد أن يملأ قلوبنا وأنفسنا بوحدانية لا يمكن أن يوفرها لنا، سوى أسلوب القرآن الكريم كلام رب العالمين، ذلك الأسلوب الذي احتوى على جرس قرآني نديّ عذب، فضلاً عن رفعة المعنى.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.