يستمر الاحتلال في تنفيذ مخططاته الاستيطانية في الضفة الغربية، ويتمدد على الأرض الفلسطينية بحثاثة غير عابئ بالتأثيرات الكارثية التي يتسبب بها للفلسطينيين ومواردهم الطبيعية، ضارباً بعرض الحائط القوانين والاتفاقيات الدولية ليجعل من المستوطنات وساكنيها أمراً واقعاً لا مجال لتغييره.
في البداية تولد بؤرة استيطانية، وبسرعة تنمو وكأنها تعاجل الزمن، شوارع داخليه تُفتح داخلها، طرق التفافية تُشق لها لتصلها بالعالم، وخدمات توصل لها تسهِّل الحياة لسكانها بسرعة البرق.. ماء وكهرباء، وخطوط صرف صحي تسكب مخلفات سكان المستوطنة في الأودية والحقول القريبة التي يملكها الفلسطينيون وجداول الماء التي يروي بها الفلسطينيون مزروعاتهم، تخلِّف دماراً ينال عناصر البيئة الفلسطينية في مقتل.
تأثيرات مجاري المستوطنات على الأراضي الفلسطينية
المياه العادمة التي تتدفق من مستوطنات الاحتلال عبر الأودية والأراضي الزراعية الفلسطينية تلحق أضراراً بالبيئة الفلسطينية وتنشر روائح كريهة، وحشرات تكون سبباً في نقل أوبئة. تتمثل الأضرار في زيادة ملوحة التربة وانسداد مساماتها وعدم قابليتها للإنتاج، ما يؤدي إلى تقليل الغطاء النباتي وانتشار ظاهرة التصحر التي تسبب تدهور اً في التنوع الحيوي، إضافة إلى ذلك فإنها تتسبب في تلوث مياه الخزانات الجوفية، بعد تسربها إليه وزيادة نسبة النترات والأملاح، مما يؤدي إلى عدم صلاحية المياه للاستخدام الآدمي.
في حديث هاتفي لمجلة آفاق البيئة والتنمية مع الباحث والمتابع لشؤون الاستيطان في الضفة الغربية الدكتور خالد معالي، ذكر أن مياه المجاري تُلقى في الوديان الفلسطينية من المستوطنات الإسرائيلية تؤثر في البيئة في اتجاهات ثلاثة: أولها تلويث الهواء بالروائح القذرة المنتنة التي لا يستطيع المزارعون الفلسطينيون احتمالها، فيُدفعون إلى ترك زراعة أراضيهم هرباً من الرائحة، وتتسبب أيضاً في أمراض صدرية لمن يسكنون في المناطق القريبة. ثانيها، تلويث التربة بالجراثيم والسموم التي تؤدي إلى موت الأشجار، وحدث ذلك في كثير من المناطق الفلسطينية مثل (وادي البير في سلفيت ودير الحطب في نابلس وبيت أُمَّر في الخليل وغيرهما)، عدا عن أن التربة أصلاً تفقد صلاحيتها للزراعة مثلما حصل في وادي المطوي في سلفيت. ثالثها، تلويث المياه الجوفية والسطحية.
ويكمل الدكتور معالي حديثه قائلاً: نحن نعلم أن المياه الجوفية نوعان، عميقة وغير عميقة، فالاحتلال يسمح للفلسطينيين باستخدام المياه الجوفية غير العميقة فقط والتي تكون بطبيعة الحال معرضة للتلوث أكثر من المياه الجوفية العميقة التي تُترك لتلبية حاجات المستوطنات!
المستوطنات تتخلَّص من مياه مجاريها في الأراضي الفلسطينية
تتخلص مستوطنات الاحتلال من مياه الصرف الصحي دون إخضاعها لأي نوع من المعالجة في أغلب الأحيان. تقرير صدر عن منظمة (premiere-urgence) في 2021 تناول (تأثيرات مجاري المستوطنات على المناطق الفلسطينية) ورد فيه أن كثيراً من المناطق الفلسطينية الريفية تواجه أزمات بيئية وصحية بسبب التلويث المتعمد والمستمر، حيث يُحاط الفلسطينيون بأكثر من 250 مستوطنة وبؤرة استيطانية بُنيت بشكل مخالف للقانون الدولي، والكثير منها تُفرغ مجاريها في الأراضي الزراعية الفلسطينية. 50 مستوطنة على الأقل تُفرغ ما يقارب 35 مليون م3 من المجاري، وهو ما يمكننا تقريبه للأذهان وتقدير بأنه يساوي 14 ألف بركة أولمبية.. وهذه الكميات سنوياً تزداد مع استمرار بناء وتوسيع المستوطنات.
ويضيف التقرير أن تأثيرات تفريغ مجاري المستوطنات في الأراضي الفلسطينية له تأثيرات سيئة للغاية، وتمنع المزارعين الفلسطينيين من زراعة أراضيهم واستعمالها، عدا عن أن تعريض الأرض لفترات مستمرة وطويلة لمياه المجاري يعود بتأثيرات صحية كارثية على السكان المحليين.
وتوصلَّت دراسة أثر المستوطنات بيئياً على الغطاء النباتي والمياه الجوفية في الضفة الغربية المحتلة، إلى أن أغلب المشاكل البيئية في الأراضي الفلسطينية المحتلة ناتجة عن أعمال الاستيطان وبنيتها التحتية من شوارع التفافية، واستنزاف للأحواض المائية في الضفة الغربية وتلوثها نتيجة المياه العادمة الناتجة عن مجاري المستوطنات ومخلفات المصانع الإسرائيلية والمناطق الصناعية في المستعمرات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
بحسب تقرير لمنظمة بتسيلم بعنوان "مجارٍ بلا حدود: إهمال رعاية المجاري في الضفة الغربية" أشار إلى أن 121 مستوطنة في الضفة الغربية تنتج حوالي 17.5 مليون م3 من المجاري في السنة. 81 مستوطنة منها فقط مربوطة بمنشآت لتنقية المجاري تعمل بطرق قديمة، بخلاف المنشآت الحديثة التي تعمل داخل إسرائيل، ناهيك عن كونها صغيرة غير قادرة على معالجة كميات مياه المجاري الناتجة عن أعداد المستوطنين الكبيرة، وتعاني معظم هذه المنشآت باستمرار من أعطاب فنية، وأحياناً تتعطل تماماً، أما باقي المستوطنات فلا تُعالج مجاريها مطلقاً وتتخلص منها في الوديان والجداول في أنحاء الضفة الغربية. وتمتنع وزارة حماية البيئة "الإسرائيلية" عن تطبيق قوانينها على المستوطنات. وفي الوقت ذاته تسعى" إسرائيل" إلى فرض معايير تنقية متقدمة على الفلسطينيين لا تشترطها منظمة الصحة العالمية ولا يتم حتى الآن تطبيقها في إسرائيل. وأشار التقرير أيضاً إلى أنه وعلى مدار أكثر من أربعين عاماً من الاحتلال لم تعمل إسرائيل على إقامة منشآت متطورة لتنقية المجاري في مناحي الضفة الغربية على غرار المنشآت المُقامة داخل إسرائيل!
تقرير آخر نشرته صحيفة هارتس العبرية أكَّد أن ثلث خدمات معالجة مياه المجاري في مستوطنات الضفة الغربية تقريباً إما أنها لا تطابق الشروط المعمول بها في إسرائيل، أو أن هذه الأنظمة لا تعمل نهائياً (وفقاً لتقرير حكومي) وبالتالي، فإن ثلث مياه مجاري المستوطنات تنساب في البيئة وتلوثها وتهدد المياه الجوفية!
قرى جنوب قلقيلية تعاني من مجاري المستوطنات
بُنيت المستوطنات في محافظة قلقيلية على المناطق المرتفعة، رؤوس جبال أو تلال، وترك كثير منها المجاري غير المعالجة لتسيل إلى القرى الفلسطينية القريبة وأراضيها الزراعية في المناطق المنخفضة، وكأنه كُتب على المناطق الفلسطينية أن تبقى تُعاني بغير ذنب منها فقط لأن محتلين قرروا أن يسلبوها أراضيها ويقيموا عليها تجمعات سكانية تمتلك كامل الحرية لتتصرف بالطريقة التي تحلو لها دون حسيب أو رقيب!
عزون عتمة وبيت أمين قريتان متلاصقتان متقابلتان شمالاً وجنوباً تقعان في جنوب محافظة قلقيلية، تحيط بهما مستوطنات (شعاري تكفا، أورانيت، القناة، وعيتص أفرايم). يقطع جدار العزل العنصري أراضي القريتين ويعزل خلفه المستوطنات الأربع. إلى الشرق قليلاً تقع قرية سنيريا المقام على أراضيها مستوطنة "عيتص أفرايم".
وادي بيت أمين هو امتداد طبيعي لوادٍ كبير، يجمع مياه الأمطار والسيول من مجارٍ مائية وأودية صغيرة كثيرة تصب فيه، يبدأ هذا المجرى في منطقة حوارة في نابلس، ويلتحم به أيضاً واد قانا في محافظة سلفيت. ثم يمتد قاطعاً أراضي القرى الجنوبية من محافظة قلقيلية، يعبر أراضي سنيريا وينساب إلى أراضي بيت أمين ثم أراضي عزون عتمة وأراضي عزبة السلمان، ويمضي جنوباً مخترقاً جدار العزل العنصري عبر عبَّارات واسعة ليواصل امتداده في أراضي الداخل المحتل، حتى يصل البحر المتوسط. يتباين عرض واد بيت أمين من مكان لآخر خلال انسيابه ما بين 10-20 متر، وبعمق يتراوح ما بين 2-4 متر.
في جولة ميدانية لمجلة "آفاق بيئية" برفقة رئيس المجلس القروي لقرية بيت أمين السيد تقي الدين عمر، شاهدنا بأم أعيننا وادي بيت أمين تجري فيه مياه رمادية منتنة الرائحة لدرجة شعرنا معها بالاختناق، وتتبعنا مجرى الوادي من منطقة سنيريا حيث تصب مياه مجاري "عيتص أفرايم" طوال السنة، نزولاً إلى المنطقة الشمالية لقرية بيت أمين حيث بُني جسر فوق الوادي الذي يزداد اتساعه في هذه المنطقة تحديداً، وتبدو آثار مياه المجاري التي لم تجف بعد بشكل واضح عدا عن الرائحة النتنة التي تؤكد نوعية المياه الجارية. التقطنا بعض الصور وانتقلنا إلى المنطقة الغربية لبيت أمين حيث مدخل قرية عزون عتمة، إلى جنوب الشارع رأينا مجرى غائراً تندفع فيه مياه مجاري تجمعت من المستوطنات الأربع وانضمت إليها مجاري المستوطنات من منطقة وادي قانا، والتي تستطيع سماع صوتها حتى قبل أن تهبط من السيارة وقبل أن تنظر أسفل الجسر، ولا أريد أن أحدثك عن الرائحة العفنة التي تعبق جو المنطقة، والحشرات التي تتطاير بكثافة.
في المنطقة الشمالية وبالقرب من الوادي وعلى مسافة 100م تقريباً، تقع إحدى الآبار التي تزود بيت أمين بالماء على عمق 135 متراً (وهو عمق قليل جداً إذا ما قورن بعمق آبار المستوطنات التي قد تصل إلى 700 متر)، والذي قال عنه السيد تقي الدين عمر: "إنها بئر ملوثة بمياه المجاري التي تسيل في الوادي بالقرب منها، والحال نفسه ينطبق على بئر قرية السلمان أيضاً".
في حديث خاص لآفاق البيئة والتنمية مع السيد عبد الكريم أيوب عضو المجلس القروي لقرية عزون عتمة، قال: "يعزل جدار العزل العنصري أراضي مزروعة بالزيتون وبعضها بالحمضيات، مياه المجاري التي تتدفق من مستوطنة القناة الواقعة جنوب القرية، تسببت بالأذى للأشجار والأرض الزراعية، لا يوجد لديَّ إحصائية مؤكدة لعدد الأشجار المثمرة التي قتلتها مجاري المستوطنة، بيد أنه في تقديري لا يقل عددها عن 70 شجرة، عدا عن أن المزارعين اضطروا إلى ترك أراضيهم التي تمر منها قناة المجاري (لا يقل طولها عن 2 كيلو متر)، وإهمال زراعتها لأنها ما عادت تصلح للزراعة وتشكل مكرهة صحية وبيئية".
وأضاف أيضاً: "لوحظ هروب وهجرة الحيوانات البرية من المنطقة نتيجة التلوث، عدا عن توسع المستوطنات من جميع الجهات، الأمر الذي قضى على مساكنها ومناطق تكاثرها وطعامها، وبالمقابل أطلقت دولة الاحتلال العنان للخنازير البرية لتعيث خراباً في المزارع والبيوت البلاستيكية، والمعروف عن الخنازير البرية أنها تشرب مياه المجاري وتعيش على الأشياء القذرة".
وبحسب السيد أيوب، فإن مجاري المستوطنات الثلاث تُغرق الأراضي الزراعية لقرى المنطقة، وتعاني مدرسة ذكور عزون بيت أمين الثانوية من مشكلة تدفق مجاري مستوطنة شعاري تكفا (التي يفصلها عن المدرسة جدار عازل تعلوه أسلاك شائكة) وفيضانها في حديقة وساحة المدرسة بشكل متكرر، ويتعمد المسؤولون في المستوطنة تأخير حل المشكلة ويماطلون بلامبالاة، وحتى بعد تسليك الخط ليعود في تدفقه إلى وادي بيت أمين، وإصلاح الخلل، تبقى مياه المجاري لفترة قد تمتد لأسبوعين قبل أن تجف، وهو ما يجعل المنطقة رطبة باستمرار، وفي الوقت ذاته يستمر الطلاب في دوامهم المدرسي برغم الروائح المقززة والأرض الملوثة.
هذا الأمر أجبر إدارة المدرسة على بناء قناة أنبوبية من الإسمنت المسلح تحت الأرض لتسيير المجاري إلى خارج أسوار المدرسة لتصب في وادي بيت أمين، وبُنيت مقدمة القناة أمام عبَّارة المستوطنة، ورغم ارتفاع تكلفة بناء هذه القناة التي ساهمت فيها جهات عدة، لم تنتهِ الرائحة النتنة والبعوض، بحسب قول الأستاذ علاء مراعبة مدير المدرسة.
وادي حبلة مثال آخر على تلوث منطقة جنوب قلقيلية بمجاري المستوطنات. ففي لقاء خاص لآفاق البيئة والتنمية، مع المهندسة سونيا قطناني من قسم الهندسة في بلدية حبلة قالت وهي تشير إلى خط سير الوادي على خارطة جدارية في مكتبها: طبيعياً، يجمع وادي حبلة مياه السيول والأمطار من منطقة عزون الشامية (كما تُسمى لتمييزها عن عزون عتمة)، يقطع أراضي عزبة الطبيب، وينحدر غرباً إلى منطقة وادي الرشا التي يعبر منها إلى شمال بلدة حبلة، حيث يحجب المنطقة السكنية في حبلة عن أراضيها الزراعية، ويجري مخترقاً جدار العزل العنصري من خلال عبارات ضخمة إلى داخل مناطق الـ1948 إلى محطة تنقية مياه الصرف الصحي؛ لتُعالَج وتُستَخدم لري الحدائق. تكمن مشكلة هذا الوادي كما هو الحال مع وادي بيت أمين والكثير من أودية فلسطين الأخرى، أن مياه المجاري من المستوطنة القريبة (ألفيه منشه) تسيل فيه في أوقات كثيرة خلال العام من خط أنابيب الصرف الصحي والمناهل التي كثيراً ما تتجمع الفوط الصحية وقطع القماش والمحارم فيها وتتسبب في انسدادها، فتجري مياه المجاري مثل جدول في الوادي وتنشر التلوث والرائحة القذرة وتعيق المزارعين عن الوصول لأراضيهم وحمل ثمارها للبيع.
يتطلب حل المشكلة الطارئة رفع شكوى لمكتب الارتباط الفلسطيني الذي بدوره يرفع الشكوى إلى الارتباط "الإسرائيلي" وتُرفع إلى بيت إيل الذي يوصل الأمر إلى إدارة المستوطنة التي تتلكأ في الاستجابة والحل عادة، ويحتاج حل كل تسرب أحياناً إلى شهر، الأمر الذي يدفع بلدية حبلة إلى استئجار مضخة وتسليك خط المجاري لإيقاف فيضان المجاري! وتتعقد الأمور أحياناً عندما توقف السلطة الفلسطينية التنسيق المدني فتنقطع قنوات الاتصال مع مسؤولي المستوطنة فتصبح بلدية حبلة هي المسؤولة عن تنظيف وتسليك خط مجاري المستوطنة باستمرار!
تضيف المهندسة قطناني أن مجرى الوادي وحوافه تخلو من النباتات البرية الموجودة طبيعياً في المنطقة، وتعزو ذلك إلى التلوث بمياه المجاري.
المناطق الفلسطينية تختنق وتستغيث لوقوعها بين فكي كماشة المستوطنات التي تزداد مع الأيام ويزداد عدد المستوطنين فيها، والمشاكل البيئية الكارثية الناتجة عن ذلك، دون أن يلوح في الأفق ما يبشر بخير أو بقرب انفراج مع محتل يهمه السيطرة والتمدد على حساب الآخر، والتظاهر في ذات الوقت بالتمدن والرقي والحفاظ على البيئة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.