في دوامة مستمرة منذ هزيمة “إيسلي”.. لماذا لم يلحق المغرب بركب الحداثة؟

عدد القراءات
599
عربي بوست
تم النشر: 2022/02/11 الساعة 12:09 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/02/11 الساعة 12:11 بتوقيت غرينتش
البرلمان المغربي، أرشيفية/ الأناضول

منذ مدة وأنا أفكر وأتأمل في وضع هذا الوطن، المغرب، محاولاً أن أجد وصفاً يشفي غليلي لأصف به على الأقل هذه الدوامة التي ندور فيها منذ أزيد من قرن ونصف من الزمن، فمنذ عام 1844 بعد هزيمة إيسلي، لما عرت رياح الغرب عورة ذلك المتقشف الفقير الزاهد القابع في ركن الزاوية، استيقظ من نومه العميق الذي دام 600 عام على الأقل، ليرفع رأسه ويفتح عينيه.

وفي الوقت الذي وُضع أمام اختبار التاريخ ليقرر فيه هذا الزاهد المسكين مصيره، فإما أن يختار السير مع ركب المتقدمين ويكون واحداً منهم، وإما أن يتخلف عن الركب متعالياً ومبرراً خصوصية التخلف ومبقياً عليها، اختار المريد ألا يتجاوز شيخه في الاجتهاد، لأن غضب الشيخ غضب لله ورسوله. هكذا علَّمه شيخه وهكذا قال. ثم عاد بعد قرن ونطق بعد أن اختار أن يدفن رأسه تحث التراب، وتجرأ هذه المرة، لا أن يلوم نفسه على حاله، أو يستلهم كنوز العصر ويعوض ما فاته، بل تجرأ ليستورد نقاش ما بعد الحداثة، محاولاً إصلاحها، فليته على الأقل نسج على المنهج النبوي فقال: "بعثت لأتمم مكارم الحداثة" قياساً على قوله صلى الله عليه وسلم "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، ويفهم منه أن الأخلاق موجودة سابقاً وجاء فقط ليتممها، ولكنه تعنت ولم يستحضر القياس هذه المرة.

لا تنمية بدون سياسة وديمقراطية

لقد ارتبط هذا الحديث عندي في الحقيقة بقدوم الإله الجديد إلى بلدنا، إله النموذج التنموي الجديد، الذي سيخرج الناس من الظلمات إلى النور، وينقلهم من براثن الجهل والفقر إلى نعمة الرفاه والسعادة، نعم، هكذا تستقبل مراكز الأبحاث والجامعات والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية، إله التنمية الذي يلبس جبته البيضاء وحذاءه الناصع، جبة بيضاء يغطي بها غبار قرون من الجهل والهجانة والاعوجاج، وحذاء ناصعاً يستر جوارب مثقوبة، نعم إنه يلبس كما لبس العهد الجديد، وبعد كل قرن تنكشف عورة المريد من جديد، ليبحث عن جديد من جديد وما هو بجديد. وهكذا يستمر مسلسل "حرق المراحل" والفيلم واحد، ها هنا قاعدون.

ها هنا قاعدون، لأنه لا تنمية بدون سياسة، ولا سياسة بدون سيادة، ولا سيادة بدون ديمقراطية ولا ديمقراطية بدون حرية، ولا حرية بدون اختيار، ولا اختيار بدون إرادة تقطع مع القديم وتنفتح على الجديد، هكذا فكرت ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وفكرت أيضاً معها اليابان، واختارت تركيا هي الأخرى هذا الاختيار، فلا تلفيق ولا توفيق ولا تعالٍ، بل هي إرادة واختيار جعلتهم في سير المتقدمين، وفي نفس الوقت جعلتهم يحافظون على شخصياتهم وذواتهم. أما نحن فمنذ قرن ونصف ما زلنا لم نجب بعد، على سؤال مَن نكون؟ أمة أم دولة، رعايا أم مواطنين، مريدين أم أحراراً، جماعات أم أفراداً، قبائل أم مجتمعات؟ لم نعد أمة ولا نريد أن نكون دولة، ولم نعد رعايا، ولكن لا نريد أن نكون مواطنين، ولم نعد جماعات، ولكن لا نريد أن نكون مجتمعات، ولم نعد قبائل متضامنة تقاتل من أجل الشرف والنسب، ولكن لا نريد أن نكون أفراداً مبدعين ناجحين. هكذا نخاف من كل شيء، ونتردد من كل شيء، وهكذا نصنع لأنفسنا حروباً وهمية ومعارك دونكيشوتية يفضحها الزمن كل مرة، ولكن لا أحد يعتبر.

الدولة والحركة

اختارت الحركة الإصلاحية في نهاية القرن التاسع عشر، اختياراً حراً حقيقياً، تفاعل بالتنظير والاستيعاب مع أرقى ما توصلت إليه البشرية، من نظم معرفية وسياسية واقتصادية واجتماعية، وحاول استيعابها، ولكن سرعان ما أجهض المد الاستعماري الإمبريالي هذه التجربة، وجعل الشعوب العربية تنشغل بالتحرر من الاستعمار عوض التحرر من سلطة الموروث البالي، الأمر الذي جعلها ترتد لتلبس جبة الشيخ من جديد، كردة فعل متطرفة، ودعم هذا التوجه بعض التنظيمات الإسلامية التي اتهمت الحركة الإصلاحية بالماسونية والتشبه بالغرب ومحاكاة نظمهم الليبرالية، ولكن المفارقة العجيبة، أنه بعد قرن من الزمن تمارس الحركات الإسلامية اليوم ما كان ينطق به لسان الحركة الإصلاحية الليبرالية أمس. وعندها يصبح علي عبد الرازق الذي أهين وجرّد من وظيفته في الأزهر، يصبح اليوم مجدداً من مجددي القرن التاسع عشر.

أما (الدولة) التي اتخذت المبادرة في البداية – لما أقدمت على الإصلاحات وأرسلت البعثات بعد هزيمة إيسلي – والتي لا خلاص دون أن تتخذها، لقيت صداً منيعاً من علماء السلفية، وحرموا التعامل مع الأجنبي، واعتبروا الإصلاحات بدعة، وتراجعت الدولة عن المبادرة، ربما عملاً بنصيحة العلماء، أو ربما عرفت أنه لا بد أن يشملها التغيير هي أيضاً عند إقامة الإصلاحات. الأمر الذي جعل الجميع لا يبرح مكانه، منتظرين مرور الموجة، ولكن الموجة أبت أن تمر دون أن تجرف معها من يقف أمامها. وهكذا كان لزاماً على النخبة الجديدة إن أرادت أن تصلح الحداثة، أن تصلحها في معقلها، أما نحن فلم نبرح مكاننا بعد، ولم نشم رائحة الحداثة بعد. اللهم إلا بعض القشور التي صاحبت عقولنا الصورية التي لم تتغير بعد. وكل ما نقوم به في الحقيقة مجرد عرض لمسلسلات "حرق المراحل" والفيلم واحد هاهنا قاعدون.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

العربي الموصار
كاتب مغربي
تحميل المزيد