في صباح الأربعاء 14 نوفمبر/تشرين الثاني 1951، شهد ميدان الإسماعيلية (التحرير حالياً)، أول مظاهرة مليونية في العالم، احتشد فيها أكثر من مليون مواطن من جميع فئات الشعب المصري من الرجال والنساء والطلاب والمدرسين والموظفين والعمال والصحفيين والصناع والقضاة والمحامين والتجار والأطباء والصيادلة…، وكانت المظاهرة صامتة احتراماً لجلال الشهداء الذين سقطوا برصاص الإنجليز الغادر.
تفاصيل المليونية الأولى
وسبب هذه المظاهرة المليونية أن مصرنا الحبيبة شرعت في الكفاح المسلح ضد الاحتلال البريطاني الجاثم على أرضنا في قناة السويس بعد قرار حكومة الوفد الأخيرة إلغاء معاهدة 1936 واتفاق 1899 بشأن السودان (من طرف واحد)، وظهرت "حركة الفدائيين" بمختلف توجهاتهم السياسية والحزبية، وكان الهدف الجامع لكل الحركات الفدائية والفدائيين، هو تطهير مصر من الاحتلال الإنجليزي الجاثم على أنفاس مصر والمصريين منذ أكثر من سبعين سنة عجاف وذل وقهر.
ويشهد التاريخ في صفحاته الناصعة البياض، أن بعضاً من أساتذة كلية العلوم بجامعة القاهرة وعلى رأسهم الدكتور مصطفى كمال حلمي، وزير التعليم فيما بعد (في السبعينيات)، كانوا يدربون الطلاب والفدائيين في بدروم الكلية على تصنيع الديناميت والمواد المتفجرة لاستخدامها في الكفاح المسلح؛ لذلك كان ولا بد أن تسقط حكومة الوفد الأخيرة (12 يناير/كانون الثاني 1950 – 27 يناير/كانون الثاني 1952) بحريق القاهرة في 26 يناير/كانون الثاني 1952، وأن يأفل نجم حزب الوفد العريق و(النظام الديمقراطي ذاته) إلى الأبد بانقلاب 23 يوليو/تموز 1952 على يد ضباط "سرقوا" حكم مصر وأخفوا الغطاء الذهبي للجنيه المصري، وتمكنوا من كل مفاصل الدولة حتى الآن.
وبسبب هذا الكفاح المسلح، كان ولا بد أيضاً، أن يختفي الزعيم الخالد الذكر مصطفى النحاس من العمل العام، وأن يحبس في بيته قيد الإقامة الجبرية بعد انقلاب "يوليو/تموز 52" بقليل حتى وفاته في 23 أغسطس/آب 1965!
وإذا كان التاريخ يعيد نفسه؛ فكان ولا بد أيضاً، أن تجهض ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 وما أثمرته من تجربة ديمقراطية وليدة بانقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013 الدموي المشؤوم؛ وكأنه قد كتب علينا ألا نحكم أنفسنا بأنفسنا أبداً، إنما نُحكم إما بالاستعمار أو بأذناب الاستعمار من أبناء جلدتنا من العسكريين المهدرين لثروات البلد، وما نتج عن ذلك من تدمير بلدنا المكلوم في كل المجالات السياسية والاقتصادية والتعليمية.
بالعودة لقصة ميدان الإسماعيلية، فقد ساهم أعضاء الطليعة الوفدية بدور مهم في حركة الكفاح المسلح في القناة، كما قام فريق منهم بإمداد الفدائيين بالأسلحة والقنابل، وشارك بعضهم مشاركة مباشرة في المعارك ضد الإنجليز كعزيز فهمي.
وعندما اشتدت معارك القناة، اتصلت الحكومة السوفييتية بحكومة الوفد، وأبدت استعدادها لتزويد الجيش المصري بكافة المعدات الحربية التي يحتاجها وبنصف الأسعار التي يعرضها حلفاء الغرب، ووعدت بإرسال بعثة عسكرية من 250 ضابطاً روسياً، وقبل أن ترد حكومة الوفد على العرض الروسي، أقيلت تلك الحكومة الوفدية الأخيرة!
لما سقط الشهداء أثناء معارك القناة، خرج الشعب المصري بكل طوائفه ليعلن للعالم كله أنه لن يلين عزمه أبداً حتى يحرر البلد من الاستعمار الإنجليزي البغيض.
وأصدرت اللجنة المنظمة للمظاهرة بياناً ناشدت فيه أبناء الأمة المصرية أن يقدروا أهمية هذا اليوم الخالد حق قدره، وأن يعاونوا منظمي المظاهرة على مهمتهم لكي يشهد العالم أن أبناء النيل خرجوا لكي يؤكدوا العزم على أن يأخذوا بحق هؤلاء الشهداء.
وقررت اللجنة المنظمة أيضاً ألا يرفع في المظاهرة أية لافتات حزبية، إنما ترفع فقط شعارات وطنية خالصة مثل (أرواحنا تفديك يا مصرـ بالدماء نحرر الأوطانـ مصر للمصريين ـ ماء النيل حرام على الإنجليزـ عاش كفاح أهل القنال…).
وقد شاركت بعض الجاليات العربية والأجنبية في المظاهرة تضامناً مع المطالب المصرية، ومنها البعثة العلمية التعليمية السعودية، والجالية الباكستانية، والنادي اليوناني الرياضي ميلون، وحتى رابطة صناع الحلويات اليونانيين.
وكان في مقدمة المظاهرة الزعيم مصطفى النحاس رئيس الوزراء، وعلي ماهر، ورجال الحكومة، ورجال الدين، وكانت كتلة المتظاهرين الأساسية من الطلبة والعمال، أما شعارها الأساسي فهو "الصمت. الحداد. النظام".
ولم تسجل أقسام البوليس طوال اليوم أي حادث أو اعتداء على أحد أو منشأة، ووزعت على المتظاهرين المنشورات الثورية، وارتفعت اللافتات التي قُدرت بعشرة آلاف كُتب عليها "يسقط الدفاع المشترك"، "الوساطة الأمريكية خدعة"، "عمال القنال فداء للوطن"، "الإفراج عن المسجونين السياسيين"، "الموت للخونة"، "المسجونون السياسيون يتمنون لقاء الإنجليز في القنال".
التاريخ لا ينسى
إن التاريخ لا ينسى أبداً، يوم 8 أكتوبر/تشرين الأول 1951، حينما وقف زعيم الأمة، الزعيم الخالد مصطفى النحاس، على رأس البرلمان المصري ليعلن إلغاء معاهدة "الشرف والاستقلال"، وسط تأييد جارف من نواب الوفد والمعارضة، وتأييد شعبي جارف أيضاً.
ولقد خرج النحاس باشا من تلك الجلسة التاريخية لإلغاء مصر لمعاهدة 1936، ليدلي بأخطر تصريح وهو يصعد القطار المغادر إلى الإسكندرية:
"لقد قامت الحكومة بإلغاء المعاهدة، وعلى الشعب أن يكمل المسيرة".
ولن ينسى التاريخ أيضاً يوم الأربعاء 14 نوفمبر/تشرين الثاني 1951، حينما وقف شعبنا وقفة تاريخية بأعداد مليونية في ميدان التحرير ليعلن للعالم كله وللإنجليز خاصة أنه لن يتوقف عن تحرير مصر من استعمارها المقيت مهما طال الزمن ومهما زادت أعداد الشهداء في سبيل هذا الواجب المقدس.
إن الحرية ثمنها غالٍ ونفيس…
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.